بالنسبة إلى الأميركيين، شكل الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية الأميركي، الذي يتمتع بخبرة وباع طويلين في هذا المجال، الوجه الرئيس لاستجابة البلاد لتفشي وباء كورونا.
ففي حين تجاهل الرئيس السابق دونالد ترمب التهديد الذي يطرحه "كوفيد-19"، وقلل من شأنه مصراً على أنه سيختفي "بسحر ساحر"، وبأنه ليس سوى مجرد "خدعة جديدة" أعدها الديمقراطيون لتقويضه، ورفض بذلك فكرة ضرورة فرض الإقفال العام خوفاً من انهيار الاقتصاد خلال سنة الانتخابات، زودت مقاربة الدكتور فاوتشي العلمية لهذه الأزمة حججاً أساسية مختلفة للغاية.
وبينما قام ترمب بمناوشات مع الصحافيين في حديقة الورد في البيت الأبيض ورفض ارتداء الكمامة الواقية، سعى الدكتور فاوتشي إلى إبقاء الشعب مطلعاً على التفاصيل كافة من خلال ظهوره مراراً وتكراراً في وسائل الإعلام، وتجاهل الغيرة الساخرة للرئيس من شعبيته المتنامية، وكذلك الانتقادات التي وجهها إليه اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري.
ولكن، لندخل إلى عقل الدكتور المخضرم لمعرفة في ما كان يفكر خلال العام الأكثر استثنائياً في مسيرته التي سبق أن شهد فيها على فيروسات نقص المناعة (الإيدز) والـ "إيبولا" و"زيكا"؟
بتنا نعرف الجواب الآن بفضل نشر قسم كبير من رسائله الإلكترونية الخاصة التي تم تبادلها بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) من عام 2020.
لماذا أصبحت رسائله الإلكترونية متاحة أما الجمهور؟
وأدت طلبات حرية الحصول على المعلومات التي تقدم بها كل من موقع "باز فيد نيوز "BuzzFeed News، وصحيفة "واشنطن بوست" وقناة "سي إن إن"CNN إلى حصول الموقع الإعلامي سابق الذكر على حق الولوج إلى 3200 صفحة من الرسائل الإلكترونية التي أرسلها الدكتور فاوتشي خلال الأشهر الستة الأولى من العام الماضي.
كما حصلت "واشنطن بوست" بدورها على 866 صفحة أرسلت في شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) 2020 عندما وصل فيروس كورونا للمرة الأولى إلى أميركا الشمالية، وتلقت قناة "سي إن إن" أيضاً عدداً من الرسائل الإلكترونية التي تعود إلى فبراير (شباط) الماضي على الرغم من أنه تم تنقيح العديد منها بشكل كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان
من بين أكثر الأمور المثيرة للاهتمام التي كشفت عنها تلك المراسلات هي أن الدكتور فاوتشي أخذ فكرة احتمال أن يكون فيروس "كوفيد-19" من صنع بشري على محمل الجد نسبياً.
فالمزاعم بأن الحكومة الصينية عدلت الفيروس جينياً في مختبرها وأطلقته، ربما عن طريق الخطأ، كانت حتى وقت قريب، أي عندما أعطى جو بايدن أوامره لأجهزة الاستخبارات الأميركية بالتحقيق في هذا الاحتمال، مستبعدة بشكل كبير على أنها نظرية مؤامرة تتعلق بكره الأجانب.
بيد أن رسالة إلكترونية وصلت إلى فاوتشي بتاريخ 16 أبريل 2020 أرسلها الدكتور فرنسيس كولينز، مدير معهد الصحة الوطنية الأميركية بعنوان "نظرية المؤامرة تكتسب زخماً"، وتضمنت رابطاً لأخبار تسلط الضوء على تقرير بثته قناة "فوكس نيوز" مفاده بأن مزاعم المؤامرة تتنامى.
وتم تنقيح ردّ المتلقي على رسالة كولينز بشكل كامل، ولكن وجوده على الأقل يكشف لنا عن أن النظرية كانت تدور في فلك تفكيره، وكان يوليها بعض الاهتمام حتى ولو كان من منظار فضح زيفها.
الامتناع عن انتقاد ترمب
"إنه البيت الأبيض بأقصى حركته وأنا في وسط ذلك"، كتب فاوتشي في إحدى الرسائل بتاريخ الثاني من فبراير، حيث لخّص الجو المحموم في الجناح الغربي الذي ذكره "بالأيام التي تلت انتشار الجمرة الخبيثة"، ولكن كل تلك الدراما في أروقة السلطة لم تدفع بالدكتور إلى انتقاد رأس الهرم.
في الواقع، كشفت الرسائل الإلكترونية عن أن فاوتشي كان يحاول جاهداً ألا تخضع تصريحاته العامة للرقابة من قبل الرئيس ترمب أو إدارته.
وأرسل إليه أحد المواطنين رسالة في فبراير 2020 بعد تتبع بريده الإلكتروني يقول فيها، "أتفهم أن نائب الرئيس مايك بنس أمركم بعدم إبلاغ المواطنين عن فيروس كورونا من دون الحصول على موافقة مسبقة. إنه أمر مرعب للغاية، خصوصاً منذ أن عبر ترمب عن رغبته في نشر معلومات مغلوطة أو غير كاملة في شأن أزمة الصحة العامة هذه".
وجاء في رد الدكتور فاوتشي، "لم يسكتني نائب الرئيس أبداً".
وكشفت الرسائل الإلكترونية عن أن فاوتشي كان مستعداً للإجابة عن هواجس الغرباء والسياسيين وقادة المنظمات العمالية الكبرى وشخصيات رائدة على غرار مارك زوكربرغ وميليندا غيتس والممثلة مورغان فيرتشايلد.
الشكوك المحيطة بالكمامات
في الرسائل أيضاً، استغرق فاوتشي بعض الوقت لإسداء نصيحة شخصية للوزيرة السابقة للخدمات الصحية والإنسانية الأميركية سيلفيا بورويل بتاريخ الخامس من فبراير، حيث عبر عن شكوكه بشأن فعالية الكمامات التي يشتريها الناس من المتاجر. وكتب قائلاً، "الأقنعة هي للأشخاص المصابين لمنعهم من نشر الإصابة للأشخاص غير المصابين عوضاً عن حماية غير المصابين من الإصابة بالفيروس"، وأضاف، "الكمامة العادية التي تشتريها من الصيدلية ليست فعالة إلى هذه الدرجة في إبعاد الفيروس الصغير للغاية الذي يمر عبر المادة التي صنعت منها الكمامة، بيد أنه قد يزود ببعض الفائدة في إبعاد قطرات الرذاذ الكبيرة في حال عطس أو سعل أحدهم في وجهك. لا أنصحك بارتداء كمامة، خصوصاً أنك تذهبين إلى موقع حيث المخاطر منخفضة".
الإرهاق
ومن بين آلاف الرسائل التي وردت إلى البريد الإلكتروني للخبير، عبر العديد عن مخاوفهم المتعاطفة معه في شأن رفاهه الشخصي والعبء الكبير الذي وضعته هذه الأزمة على كاهله، وأسرّ لأحد الصحافيين في الرابع من فبراير قائلاً، "أنا مرهق للغاية. لا أنال قسطاً كافياً من النوم هذه الأيام".
وفي اليوم التالي، سأله هوارد بوشنر، رئيس تحرير مجلة الجمعية الطبية الأميركية "The Journal of the American Medical Association" عما إذا كان عبء العمل يزداد بطريقة هائلة، فأجابه فاوتشي، "أنا صامد. أشعر كأنني في فترة تدربي وعامي الأول من ممارسة الطب عندما كنت أداوم كل ليلة وطوال عطلة نهاية الأسبوع، ولكنني في الواقع لم أغادر المستشفى أبداً لأن المرضى كانوا مرضى للغاية".
وعندما راسله مسؤول الصحة الصيني جورج غاو في الثامن من أبريل معبراً عن أسفه لتعرض فاوتشي لهجوم في الإعلام من قبل أخصام "غير منطقيين"، رد الدكتور بعد ثلاثة أيام كاتباً، "شكراً على رسالتك اللطيفة. كل الأمور على ما يرام على الرغم من وجود بعض الأشخاص المجانين في هذا العالم".
على الأرجح لم يكن يغمز من قناة الرئيس.
ارتباك من الشهرة المتنامية
كما عبر فاوتشي عن عدم ارتياحه بالشهرة الدولية التي كان يحصدها من خلال الرسائل الإلكترونية التي ترافقت بعبارات مثل "أصغوا إلى العلم"، و"فاوتشي للرئاسة" رفعت على لوحات إعلانية في أنحاء الولايات المتحدة وطبعت صورته على قمصان وجوارب والدمى الهزازة وحتى على الشموع المخصصة للصلوات.
ووصف إمكانية طرح حلوى "دونات" باسم فاوتشي للبيع "بالأمر الذي يفوق الخيال"، وتمنى "أن يتوقف كل هذا قريباً"، وأضاف، "ليس الأمر مسلياً أبداً بالتأكيد".
وفي رسالة كتبها لزميل آخر في الثامن من أبريل، زود رابطاً لخبر وجده غريباً، وأرفقه بعبارة، "أنقر على "معجبة كيومو "Cuomo Crush، و"حمى فاوتشي"Fauci Fever سيصيبك الذهول جراء ذلك، مجتمعنا مصاب بالجنون فعلاً"، ولكنه في الوقت نفسه، استمتع للغاية بتقليد براد بيت له في برنامج "ساتورداي نايت لايف"SNL في ذلك الشهر نفسه.
وكتب فاوتشي لأحد الزملاء معبراً عن ابتهاجه بالإطراء قائلاً، "قال أحد مشاهدي البرنامج بأن بيت بدا "يشبهني إلى حد كبير"، هذه الكلمات كانت أفضل ما حصل لي خلال هذا العام".
كيف يتم تلقف الرسائل الإلكترونية؟
لخص كل من ناتالي بيتندورد وجايسون ليوبولد من موقع "باز فيد" مراسلات فاوتشي بأنها "دمثة ومعتدلة ومتعاطفة".
وبالنسبة لتارا ماكيلفي من قناة "بي بي سي"، من المحتمل أن يكون رد الجمهور الأميركي منقسماً إلى حد كبير، إذ تعتبر أن "رسائل فاوتشي تشبه اختبار رسم رورشاخ Rorschach بالحبر: ما ترونه فيها يكشف المزيد عنكم أكثر من رسم الحبر نفسه أو في هذه الحالة، أكثر من الرسائل الإلكترونية".
وسيجد آخرون على غرار العضو الجمهورية في الكونغرس مارجوري تايلور جرين خللاً في مراسلات فاوتشي، فالسياسية المتشددة التي تتحدر من جورجيا، والتي حاولت إطلاق مشروع قانون في أبريل تدعو فيه إلى الاقتطاع من راتب مدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية كعقاب على "نصائحه المتقلبة" خلال فترة تفشي الجائحة، ألقت الشهر الماضي خطاباً أمام حشد في أريزونا هاجمت فيه ما سمته بمعتقد "يقظة كوفيد "Woke Covid، وقالت إن أتباعه ينامون على وسائد مزخرفة برسم وجه فاوتشي.
© The Independent