أثار اتباع الحكومة الانتقالية في السودان سياسات صندوق النقد الدولي، كثيراً من اللغط والجدل في الشارع السوداني، خصوصاً بعد رفع الدعم عن المحروقات. ما تسبب في اشتعال الأسعار وانفلات الأسواق، وبالتالي زيادة المعاناة المعيشية لأغلبية فئات المجتمع، وشعورها بخيبة أمل في تحسن الوضع الاقتصادي في البلاد.
وفي وقت ترى السلطات السودانية المختصة أنه لا سبيل ولا مخرج من الأزمة الاقتصادية غير السير في برنامج صندوق النقد، الذي يرتكز على خفض قيمة العملة المحلية (الجنيه)، يتكرر السؤال هل تنقذ وصفة الصندوق وسياساته اقتصاد السودان من الانهيار أم تزيد المعاناة من دون جدوى؟
إزالة التشوهات
ينطلق أستاذ الاقتصاد السياسي البروفيسور حسن بشير محمد نور من أنه "لا اختلاف في شأن جهود الإصلاح الاقتصادي المنهار في البلاد باعتبارها شرطاً أساسياً". لكنه يسأل "هل الوضع الاقتصادي يحتمل مسألة الإجراءات القاسية لصندوق النقد الدولي التي تنفذها الحكومة السودانية الانتقالية، بشكل يؤدي إلى تحقيق أهداف التوازن الاقتصادي وإزالة التشوهات؟".
ويستنتج أنه "بناء على رد فعل الشارع السوداني بعد رفع الدعم بالكامل عن أسعار المحروقات، الأربعاء 9 يونيو (حزيران) الجاري، فإن تلك السياسات ليست سليمة، إذ أثارت موجة استنكار وغضب واحتجاجات على مستوى واسع، وبالتالي فقدت الحكومة رصيدها في الشارع الذي كان يؤيدها في أول عهدها بنسبة تفوق 95 في المئة، وأصبحت معزولة، بل ارتفعت أصوات تطالب بإسقاطها، من ثوار وأحزاب اليمين واليسار، وهذا مؤشر واضح لتقييم تلك السياسات والإجراءات الخاصة بصندوق النقد".
ويتابع، "من الناحية الاقتصادية، فإن شروط صندوق النقد غير مناسبة، نظراً لعدم تحملها من قبل معظم فئات الشعب السوداني، لأن أكثر من 65 في المئة من تلك الفئات تحت خط الفقر، وكان على الحكومة أن تطبق هذه الإجراءات تدريجاً وليس بشكل كامل وبصورة مفاجئة، فهذه السياسات ستؤدي إلى انهيار الموسم الزراعي المقبل لأن كلفة الوقود ستكون عالية جداً وغير منطقية، خصوصاً أن معظم الزراعة في البلاد لا تعتمد على المكننة، فهي من النوع التقليدي، والمزارع الذي يعمل من أجل أن يأكل سيواجه صعوبات الحياة اليومية بالنظر إلى ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، ما يجعله عاجزاً عن مواكبة هذا الوضع".
نقطة سوداء
ويعتقد محمد نور أن "تبرير الحكومة بأنها رفعت الدعم عن الوقود من أجل تحقيق التوازن الاقتصادي حديث غير صحيح، والدليل على ذلك أن هذا الإجراء أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه السوداني، إذ قفز سعر الدولار في السوق الموازية، في اليوم الذي تم فيه تحرير سعر المحروقات، من 450 إلى 480 جنيهاً للدولار الواحد، بالتالي لم تلبِ تلك الإجراءات شروط السوق، ولن تتوقف الأسعار، بل ستشهد تصاعداً. فمثل هذه الإجراءات كان يجب أن تتم في ظل استقرار اقتصادي وثبات سعر الصرف وانخفاض معدل التضخم، لكن أن تكون الحكومة غير متحكمة في قراراتها وتأثيراتها فمن المؤكد أن مثل تلك الإجراءات ستكون فاشلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير إلى أن "ما يجري من ناحية السياسات الاقتصادية هو تطبيق للأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، فالمعنيون بالجانب الاقتصادي في البلاد يسيرون في طريق مظلم لن يوصلهم إلى أي مخرج، وقد ثبت أن الأرضية التي يستندون عليها خطأ". ويلفت إلى أنه "ليس بمقدور الحكومة التنازل عن تلك السياسات الخاصة بصندوق النقد الدولي، فعليها أن تنتظر مصيرها، وهو مصير سيئ وقاتم، فالوضع خطير من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
ويتوقع محمد نور أن تصل معدلات التضخم إلى أرقام مخيفة، وأن يحدث انفلات في الأسعار وانهيار في القوة الشرائية، وضائقة في المعيشة، فلا يُعقل أن السلطات الحكومية المختصة مع زيادة أسعار المحروقات بنسبة 100 في المئة، غير قادرة على السيطرة على إمداد الوقود، وما يحدث من فوضى في محطات التزود بالمحروقات، ناهيك عن تعدد الأسواق الموازية وندرة السلع.
تآكل الميزانية
وينتقد أستاذ الاقتصاد عبد العظيم المهل، السياسات والمنهجية الاقتصادية التي تتبعها الحكومة الانتقالية في السودان باعتمادها على وصفة صندوق النقد الدولي. ويعتبر أن "ما يُتخذ من قرارات وإجراءات لا تناسب الواقع القائم، وغير مقنعة للمواطن العادي الذي يهمه بالدرجة الأولى أن يلمس نتائج محسوسة جراء تلك الزيادات، فقد حدث قبل ذلك رفع تدريجي وجزئي لأسعار الوقود ولم يشعر المواطن بأي فائدة أو تغيير أو تحسن إيجابي في الخدمات الأساسية، سواء التعليم أو الصحة وغيرها، ناهيك عن الأسعار التي وصلت إلى درجة من المبالغة التي يصعب مجاراتها، علماً أن الميزانية العامة للدولة تآكلت بنسبة 90 في المئة بسبب التضخم وانخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار".
ويلفت المهل إلى أن "البلاد تدخل الموسم الزراعي الجديد، ومعروف أن إمكانيات المزارعين بسيطة ومحدودة، بالتالي فإن زيادة أسعار المحروقات بالضعف في ظل عدم توافرها سيؤدي إلى نمو السوق الموازية، وهو ما يعرقل الزراعة لعدم تمكن المزارع من مجاراة تلك الأسعار، إذ كان من المفترض أن تكون هناك حزمة من السياسات والقرارات بعيداً عن المساس بمقدرات المواطن، فضلاً عن تخفيض الإنفاق الحكومي وترشيده، وأن تكون هناك حلول لبعض المشكلات التي يعاني منها المواطن من خلال التوسع في الطاقة الشمسية لمعالجة أزمة الكهرباء وزيادة الإنتاج وتوفير فرص وظيفية للشباب".
قفزة في الهواء
ويعتقد المهل أن "المعالجات الاقتصادية تمثل قفزة في الهواء، فالحكومة السودانية ليست قريبة من المواطن في اتخاذ القرارات المصيرية، وقد بات واضحاً أن وصفة صندوق النقد غير ملائمة، لأنه كان يجب توفير معالجات تخدم الفئات الفقيرة لتخفيف آثار إجراءات رفع الدعم"، مؤكداً أنه "من ناحية اقتصادية عامة فإن إجراءات صندوق النقد لم تحقق أهدافها في كثير من البلدان، خصوصاً في دول العالم الثالث، وقد أدت إلى انهيار كثير من الاقتصادات، فالدول التي نهضت مثل ماليزيا وسنغافورة اعتمدت على نفسها أكثر من الصندوق، خصوصاً في أزمة نهاية التسعينيات من القرن العشرين، والولايات المتحدة الأميركية الدولة الرأسمالية الأكبر في العالم، فضلاً عن كونها المساهم الأكبر في صندوق النقد، تدعم مزارعيها".
ويشير أستاذ الاقتصاد إلى أنه "كان على السلطات السودانية المختصة أن تعمل على تثبيت سعر الصرف، ومن ثم تنفذ ما تريده من سياسات اقتصادية، فالصندوق لم يمنح الحوافز الكاملة التي تساعد في تطبيق سياساته بدعم الفئات الضعيفة في المجتمع وهي تشكل النسبة العالية"، مشدداً على أن "المخرج من هذه الأزمة يكمن في إعادة ملكية المؤسسات الحكومية الكبيرة والمنتجة التي تمت خصخصتها في عهد النظام السابق، ومن تلك المؤسسات مؤسسة الصمغ العربي والأقطان والثروة الحيوانية والحبوب والتعدين والسكر، وأن تقوم بتصدير منتجاتها للأسواق الخارجية، ما يضمن دخول إيرادات إلى الخزينة".
إيقاف التهريب
وامتثالاً لشروط صندوق النقد الدولي، بدأت الحكومة السودانية في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 تطبيق رفع تدريجي لدعم المحروقات، ضمن إصلاحات اقتصادية تعتزم تنفيذها، فيما قررت في فبراير (شباط) الماضي تعويم العملة المحلية جزئياً، في محاولة للقضاء على الاختلالات الاقتصادية والنقدية.
ومواصلة لهذه السياسات، رفعت الحكومة الانتقالية الدعم كاملاً عن الوقود، ليصبح سعر لتر البنزين 290 (0.63 دولار) بدلاً عن 150 جنيهاً (0.32 دولار)، ولتر الجازولين من 125 (0.27 دولار) إلى 285 جنيهاً (0.61 دولار) ، بحيث تخضع عملية التسعير لتكاليف الاستيراد والنقل ورسوم الموانئ وضريبة القيمة المضافة، بعد أن كانت الدولة تتحمل 1.5 مليار دولار سنوياً من إجمالي 3 مليارات دولار من كلفة استيراد الوقود.
وقد أشار وزير الطاقة والتعدين السوداني جادين علي عبيد إلى أن تحرير دعم الوقود سيعمل على توفير المنتج، ويسهم إسهاماً كبيراً في إيقاف تهريب الوقود إلى دول الجوار.
في حين قال وزير المالية السودانية جبريل إبراهيم، إن ما اتخذته حكومته من سياسات مؤلمة بتحرير سعر المحروقات ترسي أساساً حقيقياً للاقتصاد السوداني، وإن نتائجها ستظهر على المدى البعيد، داعياً المواطنين إلى الصبر باعتبار أن هذه القرارات والإجراءات هي المخرج الوحيد لحل الأزمة الاقتصادية.
ولفت إلى أن وزارته وضعت معالجات للمزارعين وحلولاً للتخفيف من وقع السياسات الضاغطة معيشياً على المواطن، من خلال توفير مواصلات أفضل وتغطية البلاد بالكهرباء والمياه وشبكة الاتصالات والإنترنت وتوفير الصحة والتعليم. وأكد أن الحكومة لن ترفع الدعم عن القمح أو غاز الطهي أو زيت الوقود الذي يستخدم في إنتاج الكهرباء.
وقد تراجع إنتاج السودان من النفط بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، من 450 ألف برميل يومياً، إلى 60 ألفاً. ما دفع البلاد إلى استيراد أكثر من 60 في المئة من احتياجاتها النفطية.