تقول الحكاية إن تاجر اللوحات فولار سأل الرسام بيار أوغست رينوار عما إذا كان يعتبر حقاً ديلاكروا رسامه المفضل كما يقال. فنظر إليه الرسام مليا قبل أن يجيبه، "أجل أنني أفضل ديلاكروا بصورة طبيعية، فلوحته نساء الجزائر بالنسبة إليّ أجمل لوحة في العالم. آه كم هنّ شرقيات هاته النسوة، لا سيما تلك التي تعلق وردة في شعرها. والزنجية آه يا لها من امرأة تتحرك كزنجية تماماً! من هذه اللوحة تفوح نكهة السرايا، حين أقف أمامها أحس فوراً أنني في الجزائر!". والحقيقة أن رينوار لم يكن الفنان أو المشاهد الوحيد الذي فتنته تلك اللوحة التي لا بد من القول إن ديلاكروا لم يرسمها في الجزائر، بل في باريس وبعد شهور من عودته من تلك الرحلة الشهيرة التي قام بها إلى المغرب.
يوميات الرحلة بالريشة والألوان
لقد كانت رحلة "دبلوماسية" في الأصل دامت بضعة شهور أمضاها ديلاكروا في صحبة وفد رسمي كان مكلفاً من قبل الملك الفرنسي بزيارة سلطان المغرب سيدي عبدالرحمن متجولاً بين طنجة ومكناس، ولكن كان في الرحلة متسع من وقت أتاح لديلاكروا والوفد زيارة وهران والعاصمة الجزائرية لبضعة أيام، ثم المرور بقادش الإسبانية الأندلسية قبل العودة مرة أخرى إلى طنجة ومن ثم إلى طولون في فرنسا. ولقد كان من الطبيعي لديلاكروا الذي سحرته ألوان ذلك "الشرق" وروائحه وشخصياته ومناظره الطبيعية، أن يمضي الشهور التي استغرقتها الرحلة في رسم مئات الاسكتشات والتخطيطات التي سيشتغل عليها طوال السنوات الـ 30 التالية من حياته لإنجاز عشرات اللوحات التي ما برحت تكفي لمعارض عدة تقام بخاصة لها، ومنها ذلك الذي أقيم عام 1994 بمعهد العالم العربي في باريس تحت عنوان "ديلاكروا... الرحلة إلى المغرب" والذي كان الأشمل حتى الآن.
ولئن كان ديلاكروا قد رسم من وحي تلك الرحلة عشرات اللوحات الزيتية والمائية انطلاقاً من رسومه الأولية وتخطيطاته، فلا شك في أن لوحة "نساء الجزائر" تبقى الأجمل على الإطلاق من بين تلك التي أوحى بها مروره في الجزائر فيما تبقى لوحة "مولاي عبدالرحمن" أجمل لوحاته المغربية.
الطعام على حسابك
مهما يكن، كان لتلك الرحلة بأكملها حكاية تتسم بعض فصولها بطرافة وبعضها الآخر بمرارة لعلهما أسهمتا في اعتبار ديلاكروا للرحلة واحدة من أغرب تجارب حياته، والحكاية تبدأ مع تشكيل معاون للملك الفرنسي شارل العاشر هو الكونت شارل إدغار دي مورناي وفدا بأمر من الملك لزيارة مولاي عبد الرحمن وتفسير الأحداث الجزائرية له إذ كانت فرنسا في عام 1930 شرعت في احتلال الجزائر بذريعة إهانة وجهها داي هذه الأخيرة حسين إلى القنصل الفرنسي دوفال ضارباً إياه على وجهه بمروحته. من هنا رتب الكونت دي مورناي وفدا دبلوماسيا رفيعا تمكنت عشيقة الكونت الممثلة مدموازيل مارس أن تضيف إليه الرسام ديلاكروا صديقها. والطريف أن السلطات الفرنسية البحرية في طولون حيث ستنطلق السفينة "لا بيرل" في رحلتها إلى طنجة، وافقت على انضمام ديلاكروا شرط أن ينفق على طعامه من ماله الخاص، فقبل طبعاً. وهكذا انطلق الموكب برا من باريس فجر الأول من يناير (كانون الثاني) 1932 ليصل إلى طولون وسط طقس جليدي مروراً بماكون وليون ومارسيليا. ومن طولون ستكون الانطلاقة البحرية في الـ 11 من الشهر نفسه في رحلة بحرية تصل إلى طنجة في الـ 24 منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كثير من الأصدقاء
وهكذا كانت بداية تلك الرحلة التي لن تنتهي إلا بعد نحو سبعة أشهر، حيث كانت العودة إلى طولون يوم 15 يوليو (تموز) من العام نفسه طبعاً. وطوال تلك الشهور السبعة وفيما الوفد الرسمي يقوم بالزيارات واللقاءات الدبلوماسية والسياسية كان ديلاكروا يكتب يوميات الرحلة ويرسم على أوراقه ودفاتره وعلى كل ما يصل إلى يديه من أوراق ومسطحات كل ما كان يشاهده في الطرقات، في الاستقبالات الرسمية، في بيوت الأصدقاء الذي كان يعرفهم مسبقاً أو يتعرف عليهم من جديد، سواء كانوا من الفرنسيين المقيمين في الجزائر أم المغرب أم من اليهود التجار وأعيان القوم، أم من العرب الموسرين. وإلى هذا كان طوال التجوال لا يتوقف عن شراء الأدوات والتحف الصغيرة، بل حتى بعض الحيوانات والبسط المحلية. لم ير شيئاً فتنه من النظرة الأولى إلا اشتراه، مما مكنه من جمع كمية هائلة من الأدوات والحوائج التي عادت وعرضت تكراراً في فرنسا طوال القرن ونيّف القرن التاليين مستقلة حتى عن لوحاته. وربما يمكننا أن نقول هنا إن مجموعة ديلاكروا هذه هي واحدة من أغنى المجموعات التي امتلكها فرنسي في هذا المجال، وهي مجموعة لا تضاهيها في غناها سوى مجموعة الرسوم التي سجل عبرها يوميات الرحلة يوما بيوم، بحيث تبدو الأغنى بين أية مدونات سجلها فنان لرحلة قام بها.
مكانة خاصة للوحات اللاحقة
غير أن هاتين المجموعتين شيء، واللوحات العديدة التي سيعود ويشتغل عليها في محترفه الباريسي طوال السنوات التالية شيء آخر تماماً. ومن بين هذه اللوحات تبرز طبعاً تلك التي فتنت رينوار واعتبرها أجمل لوحة في العالم، وعنوانها الكامل هو "نساء الجزائر في شقّتهن" وهو طبعاً العنوان نفسه الذي ستستخدمه لاحقاً الكاتبة الجزائرية آسيا جبار عنواناً لواحد من أجمل الكتب التي أبدعتها قبل رحيلها، لكن هذه حكاية أخرى بالتأكيد.
أسرار لوحة غامضة
أما "نساء الجزائر" فلوحة تجد إرهاصاتها في العمل السريع الذي قام به ديلاكروا خلال الأيام التسعة التي استغرقتها زيارته إلى الجزائر وهي رحلة تمت بحراً، إذ وصلت به وبرفاقه السفينة إلى مدينة الغرب الجزائرية يوم 13 يونيو (حزيران) 1932 ليغادروها يوم 19 من الشهر نفسه متوجهين بحراً أيضاً إلى الجزائر العاصمة ليمكثا فيها ثلاثة أيام أخرى لا أكثر.
والغريب أن تلك الأيام الستة في وهران والثلاثة التي تلتها في الجزائر العاصمة، سوف تنتج لاحقاً انطلاقاً من رسوم ديلاكروا خلالها، العدد الأكبر من أجمل لوحاته وعلى رأسها "نساء الجزائر" التي يفترض كثر أنه إنما رسمها من خياله على عكس لوحة مشابهة عنوانها "عرس يهودي في الجزائر"، رسمها مباشرة انطلاقاً من تخطيطات ملونة حققها حين دعاه أصدقاء يهود له إلى عرس ابنتهم في المدينة، لكن ديلاكروا يؤكد في يومياته أن المشهد الذي نتحدث عنه شاهده بأم العين، لكنه أمر غير منطقي إذ كيف كان في إمكان رسام أجنبي أن يدخل إلى شقة حريم جزائري وينقل تلك التفاصيل الدقيقة عما "شاهده" فيها، وتحديداً عن جلسة حريمية يستحيل أن يشاهدها مسلم ولو كان قريباً لتينك النساء؟ ومن هنا تتكاثر الفرضيات وفي مقدمها أن ديلاكروا شغّل خياله الخصب ليتخيل المشهد وبطلاته وهذا الأقرب إلى المنطق، وإما أنه رسم نساء يهوديات وهذا كان ممكناً نظراً لانفتاح اليهود على الأجانب، ولكونه يتمتع بصداقات يهودية عدة، وإما أخيراً أن تكون النساء اللواتي رسمهن من بنات الهوى اللواتي كان يمكنه أن يزورهن على هواه، وكن في معظمهن من غير المسلمات، لكنهن يرتدين ثياباً إسلامية – تركية، إمعاناً في إغراء الأجانب من زبائنهن.
وبيكاسو مفتون بدوره
في النهاية، ومهما كانت الفرضية الصائبة أكثر من غيرها، ومهما كانت الحقيقة الكامنة في خلفية هذه التي اعتبرها من سيكون لاحقاً وعلى خطى ديلاكروا صاحب لوحات جزائرية رائعة، "أجمل لوحة في العالم" من الواضح أن ديلاكروا حقق في هذه اللوحة الضخمة (180 سنتيمتراً ارتفاعاً في 229 سنتيمتراً عرضاً)، والمعلقة اليوم في متحف اللوفر واحدة من أجمل أعماله. لوحة لا يكف الفنانون قبل الزائرون عن مغازلتها والانبهار بها إلى درجة أن بيكاسو مثلاً رسم نسخة منها معلقة اليوم في مجموعة السيدة حرم فكتور غانز في نيويورك، وتعتبر بدورها من أجمل لوحات بيكاسو!