قبل أيام، حذر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الحشد الشعبي من استغلال فتوى الجهاد الكفائي التي أدت إلى تأسيسه لمصلحة مشاريع غير وطنية. وعلى الرغم من أن الحشد الشعبي لعب دوراً في محاربة تنظيم "داعش"، إلا أنه الآن يُعدّ تحدياً يواجه أمن العراق واستقراره. فقد تغلغل بعمق داخل الدولة العراقية، فضلاً عن ارتباطه بالمشاريع الإقليمية، ما يعرّض مصالح البلاد لخطر عدم الاستقرار الإقليمي. والسؤال هنا، كيف بدأ الحشد الشعبي نتيجة فتوى آية الله علي السيستاني، وانتهى به الأمر إلى ذراع إيرانية في عمق الدولة العراقية؟
استغلت إيران سقوط العراق عام 2003 على يد الولايات المتحدة لمصلحة خلق نموذج عراقي تسيطر عليه، فاتبعت طهران استراتيجية متعددة الأبعاد داخل البلاد، قامت على توظيف الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وكانت الأداة السياسية ثم العسكرية هي الضمانة لتأسيس نظام سياسي عراقي حليف قائم على البعد الطائفي، إذ عملت على تعزيز نفوذها السياسي هناك من خلال آليتين، الأولى هي التحكم في العملية السياسية والثانية دعم الميليشيات والأحزاب الشيعية الموجودة فيه. وفي هذا السياق، اعتمدت إيران على الأحزاب التي اتخذت منها منفى لها في زمن صدام حسين، وعادت إلى العراق بعد الإطاحة به. فتوطدت علاقاتها بها تنظيمياً وفكرياً وعاطفياً، ما جعلها في ما بعد النواة الرئيسة للدور الإيراني. وعمدت طهران إلى خلق حالة من الفوضى التي تستطيع إدارتها، فشكّلت قوى جديدة موالية لها على غرار علاقتها بـ"حزب الله" اللبناني، وبرز عدد من الميليشيات المسلحة. فظهرت "منظمة بدر" التي كانت "فيلق بدر" بقيادة هادي العامري ذي العلاقة القوية بالإيرانيين، ولعب دوراً في تجنيد المنظمة وتدريبها وتسليحها بواسطة الحرس الثوري، واندمجت في قوات الأمن وفي العملية السياسية العراقية، وكذلك "عصائب أهل الحق" و"النجباء" و"كتائب حزب الله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعام 2014، حينما سقطت الموصل في يد "داعش"، أصدر المرجع الشيعي العراقي آية الله علي السيستاني فتواه في شأن الجهاد الكفائي، لحمل السلاح في مواجهة التنظيم في العراق، لكنه أدرك أن فتواه كانت تستخدم لتمكين الميليشيات المدعومة من طهران، فأوضح ممثله في كربلاء أن الفتوى لم تكن تهدف إلى إضفاء الشرعية على تشكيل الجماعات شبه العسكرية غير النظامية، إنما صدرت لدعم قوات الأمن العراقية. وكانت أهمية السيستاني كمرجع لشيعة العالم، وأهمية دوره في الحياة السياسية العراقية، ما دفعا إيران إلى استغلال فتواه على النحو الذي حوّل الحشد الشعبي إلى تحدٍّ أمام بغداد. فقد لعب السيستاني دوراً في الحياة السياسية العراقية بعد الغزو الأميركي عام 2003، فدعا إلى عراق حر وديمقراطي. وكان تدخله الأول في السياسة حينما دعا العراقيين إلى المشاركة الكبيرة في الاستفتاء على الدستور، الذي أعقبه تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى المنبثقة من الشعب. كذلك دعا الشيعة إلى حماية السُنّة والمسيحيين من هجمات قوات التحالف وتنظيم "القاعدة". وكرّر خلال فترات العنف الطائفي في البلاد، بين عامي 2006 و2008، إلى التهدئة. وعارض انتقاء الولايات المتحدة أعضاء مجلس الحكم المؤقت، مشيراً إلى ضرورة انتخابهم من قبل العراقيين. وبعد مرور عام على ذلك، تدخل السيستاني مرة أخرى لإنهاء المعركة بين "جيش المهدي" الذي قاده الزعيم الشيعي مقتدى الصدر والقوات الأميركية عام 2004. وفي يونيو (حزيران) 2014، أصدر السيستاني دعوة إلى المواطنين العراقيين لحمل السلاح وقتال "داعش" بعد احتلالهم الموصل وتكريت. وفي 2015، وعلى خلفية تنامي حركة الاحتجاج العراقية ضد الفساد الحكومي، أصدر السيستاني دعوات إلى القادة السياسيين العراقيين للمضي قدماً في الإصلاحات التي تشتد الحاجة إليها.
ومنذ تأسيس الحشد، ارتكب عدداً من التجاوزات التي أدت إلى محاولة الكاظمي الحدّ من قوته. وتشير مزاعم إلى ارتكاب الحشد بعض الانتهاكات الطائفية، فضلاً عن التجاوزات الاقتصادية والتورط في مشاريع غير قانونية، وعدم الولاء للدولة العراقية والترويج لمصالح إيران في البلاد. كما أنه ما لم يتم تحجيم نفوذ الحشد، فمن المتوقع أن ترتفع احتمالات العنف الطائفي في مرحلة ما بعد السيستاني، لا سيما عند اختيار خليفة له.
أخيراً، حاول الحشد استعراض قوته في "المنطقة الخضراء" في بغداد. والآن، هناك بعض التكهنات بأنه مسؤول عن عمليات الاغتيالات التي تعرّض لها عدد من الناشطين العراقيين ضد الفساد.
واليوم، يواجه الكاظمي الحشد الشعبي من خلال العمل باستمرار على الحد من قوته الاقتصادية ورأس ماله السياسي. ويحاول استكشاف إمكانية نزع السلاح والتسريح وتوفير برامج التدريب المهني. لكن ما هو مرجح، أن إيران التي استثمرت في هذه الميليشيات عسكرياً وسياسياً عبر دعمها سياسياً وعسكرياً ودمجها في مؤسسات الأمن العراقية للوصول إلى البرلمان، لن تتخلى عنها.