المؤلف الضخم الذي تضمه أربعة مجلدات وتشكله ألوف الصفحات، والذي نتحدث عنه هنا، لا يحمل ذلك العنوان الذي نحمله إياه بل حمله إياه من قبلنا عدد لا بأس به من المراجعين والمعلقين، فهذا العنوان ليس دقيقاً وإنما تم التعارف على استخدامه يوم اكتملت مجلداته في عام 1994 واكتشف المعنيون كم أن المجلد الأخير بين تلك التي صدرت خلال فسحة من الزمن تشغل نحو ثلث قرن (1962 – 1994) يأتي كتوليف وخلاصة لذلك التحليل المدهش الذي اشتغل عليه المؤرخ الإنجليزي إريك هوبزباوم في المجلدات السابقة. لكنه هو حين كان يقرأ في التعليقات أن عمله لا بد أن يشكل في نهاية الأمر "رباعية" هيكلت بدقة بحيث يبدو منذ الصفحات الأولى للمجلد الأول أن العمل سيصل في نهاية الأمر إلى ما وصل إليه، كان يضحك ملء شدقيه مؤكداً أنه إنما اشتغل على عمل حياته هذا كتاباً كتاباً، وأن المجلد الرابع يختلف عن الثلاثة السابقة لو من ناحية كونه يتناول حقبة من الزمن عايشها بنفسه وقرر باكراً أنها لن تمتد طوال القرن العشرين الذي يصفه هو نفسه بأنه من أقصر العصور، وبالتالي فإن اشتغاله على "عصر التطرفات: القرن الوجيز 1914 – 1991" ربما يكون اشتغالاً أيديولوجياً بأكثر كثيراً مما كانته المجلدات الثلاثة الأولى التي كانت أكثر تاريخية. مهما يكن، في نهاية الأمر لسنا هنا أمام رباعية بالتالي، بل أمام أربعة كتب تتناول تاريخ نحو مئتي عام وليس عصوراً بأكملها.
الكتاب في كل بيت
وقد يكون علينا أيضاً أن نشير إلى مسألة أخرى: فإذا كانت المجلدات الثلاثة الأولى قد أثارت أكثر ما أثارت، اهتمام المؤرخين والأكاديميين وبخاصة القراء، فحققت نجاحاً نزيهاً لديهم، نزيه إنما محدود بشكل من الأشكال، لا شك أن النجاح الذي حققه المجلد الرابع كان أشبه بظاهرة كونية حيث نراه يباع بملايين النسخ في لغته الإنجليزية الأصلية كما يترجم إلى العديد من اللغات (هناك ترجمة عربية مميزة لهذا المجلد وللأجزاء الأخرى حققها الأردني فايز صياغ)، مع "اضطرار" المترجمين إلى العودة إلى الأجزاء السابقة لترجمتها بسببه في أحيان كثيرة. ويقال اليوم في إنجلترا مثلاً إنه من المستحيل أن يخلو بيت قارئ بالإنجليزية من نسخة من "عصر التطرفات" إن لم يكن من نسخ المجلدات الأربعة مجتمعة. ولكن ما الذي نتحدث عنه بعد كل شيء؟
ما نتحدث عنه هو عمل إريك هوبزباوم (1917 – 2012) ابن المدن المتعددة والقارات الثلاث الذي ولد في مدينة الإسكندرية المصرية لأبوين إنجليزي ونمساوية أيام الاحتلال البريطاني، لكنه تعلم في فيينا ثم برلين قبل أن ينتقل إلى لندن ليدرس الاقتصاد والتاريخ ويصبح بعد قراءاته الماركسية المبكرة في ألمانيا خلال صعود النازية الهتلرية واحداً من كبار المؤرخين الإنجليز. بل في الحقيقة أنه كان أولاً أحد "كبار المؤرخين الشيوعيين الإنجليز" ثم لاحقاً وبكل بساطة خلال السنوات الخمسة والعشرين من حياته: أحد كبار المؤرخين قاطبة. بيد أن أهمية هابسباوم لا تقتصر على كونه مؤرخاً ولا على كونه ماركسياً، ولا حتى كذلك على كونه صاحب واحد من أكبر العقول النيرة في زمنه، بل كذلك لكونه أدرك باكراً أن التاريخ ليس "التاريخ السردي الحدثي المعهود والمتعارف عليه" بل هو ذاك الذي جعلت المصادفة مجموعة من مؤرخين فرنسيين، من بينهم فرنان بروديل ورفاقه في مدرسة الحوليات من ناحية، وثيودور أدورنو ورفاقه في مدرسة فرانكفورت من ناحية ثانية وفي مجال آخر طبعاً، يشتغلون في وقت متزامن على خلقه كنوع من المزج بين التاريخ والمجتمع في بوتقة تشمل النشاطات الإنسانية بما فيها الاقتصاد والدين والفنون والأخلاق إلى آخر ما هنالك. ولعل المدهش في الأمر هنا هو أن إريك هوبزباوم تمكن، وحده تقريباً وتحت سطوة قراءاته لماركس على الأخص ولكن أيضاً ضمن إطار تضافره مع عدد من مؤرخين زملاء له في مجلة "أمس واليوم" التي أصدروها، من الوصول إلى استناجات وتحليلات شبيهة إلى حد بعيد بتلك التي توصل إليها أقطاب المدرستين الفرنسية والألمانية.
تواريخ كثيرة لعالم واحد
وهكذا توصل إريك هوبزباوم في مجلداته الأربعة ولكن كذلك في عشرات الدراسات والكتب التي تراوحت مواضيعها بين تاريخ موسيقى الجاز وتاريخ عصابات قطاع الطرق، وتاريخ الزراعة في شمال أفريقيا، وتاريخ الحركات العمالية في بريطانيا نفسها، وغير ذلك، إلى أن يضافر بالتحديد ما يمكننا أن نسميه تأريخ المجتمعات، لا سيما مجتمعات القرن العشرين. وهو إذا كان قد وضع خلال سنوات طويلة سفره الكبير حول العصور الحديثة، بادئاً إياه بكتاب "عصر الثورة 1789 – 1848"، ثم "عصر رأس المال 1848 -1875"، فـ"عصر الإمبراطورية 1875 – 1914"، فإنه إنما فعل ذلك لينهي "أجزاء" السفر الأربعة بكتاب "عصر التطرفات: القرن العشرون الوجيز 1914-1991. "
زمن لتلخيص كل الأزمنة
كما سبق أن أشرنا قبل سطور، تبدو الأجزاء الثلاثة الأولى من كتاب هوبزباوم وكأنها التمهيد المنطقي لـ"عصر التطرفات"، إذ تحدث هوبزباوم في هذا الكتاب عن القرن العشرين بوصفه الخلاصة المنطقية للأعوام المئة التي سبقته، فالقرن العشرون، على الرغم من "قصره" الزمني، هو- وفق هذا التحليل- أطول القرون، لأنه في نهاية الأمر بدأ مع انتصار الثورة الروسية لينتهي مع سقوط جدار برلين، وبالتالي مع سقوط الثورة الاشتراكية، كحكم على الأقل. ماذا بعد ذلك: صراع حضارات؟ كما يؤكد هنتنغتون؟ أم نهاية تاريخ؟ كما يؤكد فوكوياما؟ سؤال لا يهتم هوبزباوم كثيراً بالإجابة عليه..."دراسة التاريخ هي دراسة ما حدث فعلاً، أما ما سوف يحدث، فلا يدخل في نطاق العلم، وأكثر تحديداً في نطاق علم التاريخ". ولكن ماذا عن القرن العشرين؟ ولماذا القرن العشرون؟
بكل بساطة، لأن العالم "طوال هذا القرن، حفل بتقدم تكنولوجي ثوري ومتواصل، تأسس على جملة انتصارات حققتها العلوم الطبيعية. وربما تكون النتيجة العملية الأكثر درامية لتلك الانتصارات، ثورة المواصلات والاتصالات التي أدت إلى محو المسافة المكانية والزمنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قرية العالم الواحدة
في تحليله المعمق للقرن، يرى هوبزباوم، أنه عرف ثلاثة تغييرات أساسية على مدى سنواته الطويلة وزمنه القصير: أولها أنه لم يعد متمحوراً حول أوروبا، كما كان حاله خلال القرنين السابقين. وثانيها أنه، وتحديداً في المجال الاقتصادي، أضحى وحدة شاملة وكلية، كما لم يحدث أن كان قبل ذلك أبداً... وهذا الأمر وصل إلى غايته المنطقية في التسعينيات، إذ خلقت "قرية العالم الواحدة"- تبعاً لتوقعات مارشال ماكلوهان- أما التغيير الثالث- وهو الأكثر إزعاجاً وفق هوبزباوم- فيكمن في "تفتت الأنماط القديمة للعلاقات الاجتماعية الإنسانية، وبالتالي انفراط الروابط بين الأجيال، أي بين الماضي والحاضر". ويقول هوبزباوم، إن هذا الأمر الأخير يبدو واضحاً، خصوصاً في "البلدان المتطورة ذات النظم الرأسمالية على الطريقة الغربية، حيث تسود قيم نزعة فردية مطلقة، منفلتة من العقال الاجتماعي".
دور مبهر للتفاصيل
في نهاية الأمر وسواء أكان الأمر يتعلق بالقرن العشرين أو بذلك القرن الذي سبقه واندلاع الثورة الفرنسية، التي كانت هي المعنية طبعاً بتعبير "عصر الثورة" الذي عنون المجلد الأول، لا ينفصل الإنتاج الفكري والإبداعي عن الميدان السياسي ولا تطور العلوم ينفصل عنه. ولئن اختار المؤرخ أن يجعل تأريخ الفنون والأفكار والآداب جزءاً من تأريخه العام، فإن هذا لا يأتي لديه من قبيل المصادفة، وكذلك لا يأتي تأريخه للحساسيات الدينية والتطورات الاجتماعية على الهامش. كلها بالنسبة إليه كتلميذ جيد لـ"الحوليات" الفرنسية عناصر يتراكم بعضها فوق بعض وتتشابك، لتشكل ذلك النسيج الذي كانه زماننا. بيد أن هوبزباوم يستدرك هنا مؤكداً أن هذا كله ليس، على أي حال، جديداً، فالهيمنة الثقافية على الحياة الاجتماعية قامت منذ زمن طويل، غير أن ما هو جديد الآن إنما هو طرق تلقيها والتعاطي معها، "فخلال فترة ما بين الحربين، كان العنصر الفاعل في تلك الهيمنة - التي يعزوها في هذا المثال إلى النتاج الأنغلوساكسوني- صناعة الفيلم الأميركي، أي الفيلم العالمي الوحيد الذي كان يوزع على نطاق كوني ويلقى إقبالاً. كان يشاهده مئات من ملايين البشر، بأرقام وصلت إلى مستويات قياسية بعيد الحرب العالمية الثانية. بيد أنه مع تنامي التلفزة، وانتشار صناعة السينما في العالم، ومع انتهاء نظام الأستوديوهات الأميركي، فقدت هذه الصناعة الأميركية جزءاً من هيمنتها".
وهكذا بالنسبة إلى هوبزباوم، تترابط كل هذه العناصر لتخلق ذلك "الكل" الشامل الذي يمكننا أن نسميه تاريخ المجتمع والإنسان. هذا التاريخ الذي إذ دونه هذا المؤرخ على هذا النحو المترابط، لم يحاول فيه مع ذلك أن يبتعد عن الموضوعية حتى ولو اتسمت تحليلاته في المجلد الأخير على الأقل، برؤية ذاتية صرفة. وهذه الموضوعية هي التي تدفعه، وهو الذي كان طوال حياته ماركسياً، إلى تقديم أفضل تحليل لانهيار النظام الاشتراكي أواخر سنوات الثمانين".