كان يوماً طويلاً آخر في حياة "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، التي تعيش هذه الفترة أياماً طويلة متكاثرة، منذ أن حلّت محلّ البريكست كميدان رئيس وجديد للمعارك الدائرة في إطار الحرب الثقافية المتناسلة الفصول إلى ما لا نهاية.
كانت هناك، اولاً مشاهد ملاحقة، نيكولاس وات، المحرر السياسي لبرنامج "نيوز نايت" الإخباري الذي تبثه القناة الثانية التابعة لـ"بي بي سي"، في شوارع لندن من قبل رعاع هائج ومخبول أخذ يصرخ في وجه الصحافي المذعور بعبارة "خائن!". وتمثّل كل ذنب وات في أنه تمتع بالجرأة الكافية كي يحاول تغطية احتجاج هؤلاء المخابيل، الذي ادعوا في ما بعد بالطبع أن الـ "بي بي سي" تجاهلته.
وبعيداً عمّا شهدته الشوارع المحيطة ببرلمان وستمنستر في وسط لندن، فقد مَثُلَ توني هال، مير الـ"بي بي سي" العتيق، داخل البرلمان نفسه أمام لجنة تابعة لمجلس العموم بدت أشبه بفرقة إعدام جاءت مدججة بالبنادق لإطلاق النار على المحكوم، واستجوبته بشكل مكثف حول تفاصيل تتعلق بمقابلة مارتن بشير مع الأميرة ديانا قبل 25 عاماً.
واستطراداً، أياً كان الكلام الذي سيقوله جوليان نايت، وهو رئيس لجنة الثقافة والإعلام والرياضة البرلمانية، حول الفشل المؤسساتي في الـ"بي بي سي" قبل ربع قرن من الزمن، فإن المرء ينتابه الشك في ما إذا كان كلامه سيدمر سمعة المعنين بذاك الفشل، ربما بشكل أقل حدّة من الهجوم المقذع الذي شنه الأمير وليام عليهم حين نُشر التقرير حول قصة بشير.
إذ يمثّل نايت أحد أفراد عصبة من النواب المحافظين أخذوا يضيقون ذرعاً بـ"بي بي سي" منذ بعض الوقت، وذلك لأسباب أيديولوجية بحتة. وقد سأل توني هال العام الماضي بشأن كون الـ"بي بي سي" فعلاً "يقظة أكثر مما ينغي"، بمعنى إنها منحازة إلى جانب أولئك الذين يحاولون رفع درجة الوعي بالعدل الاجتماعي والتمييز الذي يتعرض له السود وأبناء الأقليات الإثنية. وجاء ذلك السؤال غبياً إلى درجة جعلت الإجابة عليه متعذرة.
وعلى نحوٍ مماثل، طرح أحد أعضاء اللجنة التي يرأسها نايت في العام الماضي، سؤالاً على تيم دايفي، المدير العام الجديد للـ "بي بي سي"، عن سبب غياب صور علم المملكة المتحدة عن التقرير السنوي الذي تصدره الـ "بي بي سي". وقد شكّل ذلك، من دون أدنى شك، السؤال الأشد غباء الذي سمعته من عضو في مجلس العموم على امتداد السنوات الست التي قضيتها حتى الآن في الإصغاء إليهم.
بطبيعة الحال، إن نايت محظوظ لأن قضية بشير أتاحت له فرصة نادرة لنيل موقع أخلاقي أرفع من خصومه، والظهور فعلاً بمظهر الأكثر استقامة منهم. وفي العادة، لا ترقى مواقفه إلى مستوى كهذا. هذا ما اتضح مثلاً حين فتح النار العام الماضي على لاعب كرة القدم ماركوس راشفورد (الذي أطلق مبادرة لمساعدة العائلات التي تعاني أثناء جائحة كورونا)، لكن لم يلبث أن افتضح أمر الخلل الكارثي الذي عانته مزاعم نايت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال الاستجواب البرلماني، اعتذر هال عن الأخطاء التي ارتكبها. ثم نأى بنفسه مجدداً عن بشير معتبراً أنه "كذّاب على مستوى غير عادي". ولقد كان بشير مخاتلاً فعلياً لا يعرف الصدق، روّج لما كان معروفاً إلى حد بعيد أنه كذب، قبل حوالى عشر سنوات من توظيفه مجدداً لدى الـ"بي بي سي" كمراسل عالمي للشؤون الدينية في 2016.
أما بالنسبة إلى ارتكاب الـ"بي بي سي" خطأ توظيف بشير من جديد، فذلك أمر واضح إلى درجة لا حاجة معها للمساعدة على اكتشافه من أي طرف كان. والواقع أن صورة الـ "بي بي سي" وهي تجلد نفسها علناً، من أكثر المشاهد التي نراها قباحة. وقد أُجبرت الهيئة على الظهور أمام الجمهور بهذا المظهر بشكل منتظم، كل سنتين في الأقل، منذ عام 2008 حين ترك الإعلامي جوناثان روس والكوميدي راسل براند رسالة مسجلة مليئة بكلمات نابية، وجدها الجمهور مقرفة للغاية.
إن المطاردة المرعبة للصحافي وات في شوارع لندن قد "صدمت" و"روعت" جميع أولئك الذين كانوا يهزؤون من الـ"بي بي سي" ويقللون من أهميتها لأسباب تجارية وأيديولوجية.
وليست لقطات ملاحقة وات صادمة على الإطلاق. إنها مرعبة، لكنها ليست صادمة أبداً. إذ إنها نتيجة حتمية للهجوم المتواصل من جانب التحالف المخرِّب لأصحاب نظريات المؤامرة المجنونة والأصوات الآتية من صميم الوسط السياسي كل يوم، بهدف إضفاء شرعية عليهم.
في ذلك الصدد، نددت بيرتي باتيل، وزيرة الداخلية، بما تضمنته لقطات مطاردة وات من مناظر مزعجة. في المقابل، لم تستطع باتيل أن تدفع نفسها إلى شجب صيحات الاستهجان التي يطلقها البعض ضد لاعبي فريق إنجلترا حين يركعون على ركبة واحدة احتجاجاً على العنصرية. اللافت أن ذلك جاء في سياق مقابلة أجرتها معها محطة "جي بي نيوز" التلفزيونية الجديدة، التي تواصل التأكيد منذ بدأت البث قبل أيام، أنها تأمل بتحقيق النجاح المنشود من خلال الهجوم المستمر على فكرة "اليقظة"، أي التحلي بالوعي حيال العنصرية، والسعي لكي تكون صوت الذين لا صوت لهم من الناس العاديين الذين تراهم كل يوم في الطريق. ويبدو أنها تظن أن هؤلاء الأشخاص منسيون فعلاً، على الرغم من تعهد أكثر الحكومات يمينية، ربما في تاريخ البلاد، بالبقاء على الدوام في خدمتهم.
والحق أن لهذا الخليط سطوته. من الغريب أن تكون الحكومة كلها في صفك، وأن تجد نفسك مع ذلك قادراً على التذرع بأنك ضعيف. من يدري مدى انخفاض الدرك الذي يستطيعون أن يصلوا إليه. وبالطبع، ثمة شيء صادم، فعلاً صادم تماماً، سيقع حتماً في نهاية المطاف. والسؤال هو ما إذا كان الوقت قد فات سلفاً على محاولة منع وقوعه.
*نشر مقال الرأي هذا في يونيو (حزيران) 2021. والنقاش حول الحرب الثقافية ودور هيئة الإذاعة البريطانية يتجدد اليوم وعاد ليتصدر الأخبار البريطانية
© The Independent