وجد عدد من العلماء أن ثمة جسيمات دقيقة من النوع الذي تتألف منه مكونات الذرة نفسها (أي أنها هي التي تشكل الإلكترونات والبروتونات وغيرها في الذرة)، في مقدورها أن تغير طبيعتها بسرعة، وتذبذب بين حالتين متعاكستين هما المادة العادية matter والمادة المضادة لها antimatter. [في الفيزياء الذرية، هناك "مادة" لها مواصفات معاكسة للمادة التي نعرفها ويتألف الكون كله منها. وتسمى "المادة المضادة". ومثلاً، تحتوي نواة الذرة في المادة العادية على بروتونات لها شحنة كهربائية إيجابية، فيما تكون الـ"بروتونات المضادة" لها شحنة كهربائية سلبية. وإذا التقى الطرفان، فإنهما يتنافران، بل يفنيان معاً في انفجار يولد كمية من الطاقة. وثمة تشبيه على تلك العلاقة بين المادة والمادة المضادة، بأنها تشبه العلاقة بين حفرة في الرمل (إشارة إلى المادة المضادة) من جهة، والرمل الذي استخرج كي يصنع الحفرة (إشارة الى المادة العادية). إذا التقى الطرفان، الحفرة والرمل، لا يعود لديك لا حفرة ولا رمل!].
واستطراداً، توصل العلماء إلى هذا الاكتشاف غير المسبوق عبر مراقبة عدد من تلك الجسيمات التي توصف بأنها "دون ذرية" Subatomic لأنها هي التي تكون التراكيب التي تتألف منها الذرة. وقد تركزت تلك المراقبة العلمية على نوع معين من جسيمات ما دون ذرية يسمى كوارك Quark، (يعتبر من الجسيمات الأولية التي يأتي منها اللبنات الأساسية للمادة). [الكوارك هو جسيم أولي فائق الصغر، يسهم في تكوين التراكيب التي تتألف منها الذرة. وهناك أكثر من نوع من الكواركات، يميز العلماء بينها عبر خصائص تشمل الوزن والشحنة الكهرومغناطيسية وطريقة دورانها حول نفسها وغيرها]. وتحديداً، ركز أولئك العلماء على نوع من الكوارك يسمى "تشارم ميزون" charm meson [حرفياً، "ميزون ساحر"] الذي يتميز بأنه يضم كوارك وكوارك مضاد antiquark.
في صورة عامة، يملك كل جسيم في الكون جسيماً مضاداً، يتساوى معه في الكتلة والعمر وطريقة الدوران حول الذات، إنما يعاكسه في الشحنة الفيزيائية، بما في ذلك الشحنة الكهربائية. تجتمع الكواركات معاً لتشكل جسيمات مركبة تعرف باسم الـ"هادرونات" hadrons. وبديهي أنه يوجد تراكيب كثيرة من الهادرونات. وتحتوي الذرة على بعض أشد التراكيب الهادرونية استقراراً، متمثلة في "البروتونات" protons و"النيوترونات"neutrons .
في فيزياء الكوانتوم [التي لا تتوافق دوماً مع قوانين الفيزياء العادية، بل تناقضها أحياناً]، في مقدور كوارك من نوع "تشارم ميزون" أن يكون جسيماً عادياً وجسيماً مضاداً في الآن ذاته، بالطريقة عينها التي يتصرف بها الضوء طبيعياً باعتباره مؤلفاً من جسيمات وموجات في الوقت نفسه [ويعني ذلك أيضاً أنه لا يكون موجة كلياً ولا جسيماً كلياً، في الوضع الطبيعي]. تعرف هذه الحالة باسم "التراكب الكوانتي"quantum superposition، وتسفر عن جسيمين (لكل منهما كتلته الخاصة) أحدهما خفيف الوزن والآخر ثقيل. ومنذ أوقات سابقة، يعرف العلم أن تلك الجسيمات الدون ذرية، يمكن أن تتنقل كمزيج من حالتيها الجسيمية والجسيمية المضادة، تبين الآن أن كوارك الـ"تشارم ميزون" يمكن أن يتذبذب بين هاتين النسختين الخفيفة والثقيلة.
الفارق في الكتلة بين كوارك "ميزون" والكوارك المضاد له، ضئيل جداً، يبلغ فقط 0.00000000000000000000000000000000000001 غرام أو (1 مقسوماً على عدد مكون من واحد إلى يمينة 38 صفراً). ليس مستطاعاً قياس هذه الدقة إلا عند ملاحظتها مرات عدة، وفق ما يكون عليه الحال في التجارب التي تجري في "مصادم الهادرونات الكبير"Large Hadron Collider. [أضخم معجل جسيمات وأعلاها طاقة وسرعة في العالم. ويعني ذلك أنه يشتغل على الجسيمات الدون ذرية، في تجارب تتضمن دفعها إلى التحرك بسرعة فائقة، تمهيداً لدراسة ما ينجم عن تصادمها أيضاً].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حتى الآن، الجسيم الوحيد الذي تبين أنه يتصرف على غرار كوارك "ميزون تشارم" هو كوارك "بيوتي ميزون" beauty meson [حرفياً، "ميزون الجمال"] الذي يوصف بأنه غريب في مواصفاته، وقد اكتشف في 2006. وفي ذلك الصدد، يشير البروفيسور غاي ويلكينسون من "جامعة أكسفورد"، إلى أن "اكتشاف التذبذب في كوارك "الميزون الساحر" يعتبر أمراً مثيراً للإعجاب تماماً لأنه، على عكس كوارك "ميزون الجمال"، يكون التذبذب [بين كونه كوارك وكوارك مضاد] بطيئاً جداً، لذا من الصعب جداً قياسه في العمر الذي يعيشه قبل أن يتحلل". [= يتدمر ذاتياً بفعل الإفناء المتبادل بين الكوارك والكوارك المضاد).
وأضاف، "تظهر هذه النتيجة أن التذبذبات [التي تتضمن الانتقال من المادة إلى المادة المضادة] تكون بطيئة جداً إلى درجة أن الغالبية العظمى من الجسيمات سوف تتحلل قبل أن تتاح لها فرصة التذبذب. ولكن مع ذلك، نحن قادرون على تأكيد هذا الاكتشاف [عن التذبذب السريع لكوارك "تشارم ميزون" بين حالتي الكوارك والكوارك المضاد] لأن (تجربة "مصادم الهادرونات الكبير") جمعت كثيراً من البيانات".
وتذكيراً، يؤدي اصطدام اثنين من البروتونات، أثناء تحركهما بضعة ملليمترات، إلى منح العلماء فرصة لقياس الكمية الأساسية التي تتحكم في سرعة التغيير من الجسيم العادي إلى الجسيم المضاد، مع الإشارة إلى أن تلك الكمية تتمثل في الفارق في الكتلة. [بمعنى الفارق في كتلة الجسيم أثناء انتقاله من حالة الجسيم العادي إلى الجسيم المضاد].
وبعد تلك التجربة، بات العلماء يتوقون الآن إلى فهم عملية التذبذب نفسها وفك لغز التفاوت في الكمية بين المادة العادية والمادة المضادة. وتذكيراً، وفق نظرية "الانفجار العظيم"Big Bang ، يفترض أن ذلك الانفجار أوجد كميات متساوية من المادة والمادة المضادة في بداية الكون، ولكن واضح أن ذلك لم يحدث، لأسباب لم يتوصل العلماء إلى فهمها بعد. [في الواقع، يصعب على العلماء العثور على المادة المضادة في الكون بصورة طبيعية، بل إن معظم الكون مكون من مادة عادية. ويعتبر التفاوت بين كمية المادة والمادة المضادة، أحد الإشكاليات التي لم يجد العلم تفسيراً لها].
وثمة إمكانية لأن يكون مصدر تلك الانتقالات [بين المادة والمادة المضادة] جسيمات غير معروفة وليست مدرجة حالياً في نظرية "النموذج المعياري" عن تركيب الذرّة المعتمد في الفيزياء الذرية. إذ يستند ذلك النموذج إلى وصف دقيق عن ثلاث قوى أساسية في الطبيعة، هي القوى النووية الضعيفة، والقوى النووية القوية، والقوى الكهرومغناطيسية.
باستثناء الجاذبية، يغطي "النموذج المعياري" للذرة، ثلاثة من القوى الأساسية الأربعة في الكون، ويفترض بها أن تقدر على إعطاء تصنيف لجميع الجسيمات الأولية المعروفة.
وبالعودة إلى الدراسة المشار إليها آنفاً، لقد أعطاها العلماء عنوان "مراقبة فارق الكتلة بين الحالات الذاتية المحايدة لميزون الساحر". وباتت متاحة حالياً كمسودة، إذ قدمها العلماء إلى مجلة "فيزيكال ريفيو ليترز" Physical Review Letters.
© The Independent