تواكب الإدارةَ الدولية لتداعيات انهيار الخدمات الرئيسة في لبنان، مواصلةُ الضغوط من الدول المهتمة بإنقاذ البلد الصغير من الحفرة العميقة التي هو فيها، لأجل إنهاء أزمة الفراغ الحكومي، الذي بات السبب الأساسي للتدهور المريع في الأحوال المعيشية للبنانيين.
وفي موازاة استنفار فرنسا المجتمع الدولي لتقديم المساعدات للشعب اللبناني، تعتقد الدبلوماسية الفرنسية أنه ما زال هناك أمل بإحداث خرق ما في الجمود المسيطر على تأليف حكومة المهمة التي سعت إليها مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون منذ أكثر من10 أشهر. فالجهد الذي تبذله باريس من أجل تخفيف الأضرار المأسوية لارتفاع كلفة المعيشة بفعل الأزمة الاقتصادية، وآخر خطواته كان المؤتمر الذي نظمته وزارة الدفاع الفرنسية في 17 يونيو (حزيران) لتقديم المساعدات للجيش اللبناني، لم يمنع تحركاً سياسياً من قبل السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو، باتجاه المعنيين بإزالة العقبات من أمام تأليف الحكومة برئاسة زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري، على الرغم من الانتكاسة التي أصيبت بها مبادرة رئيس البرلمان نبيه بري للتوسط بين الحريري وبين فريق رئيس الجمهورية ميشال عون، وصهره الذي يملك مفاتيح الموقف السياسي من تسهيل قيام الحكومة، رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، بسبب حرب البيانات بين بري والرئاسة الأولى التي تضمنت اتهامات متبادلة بخرق الدستور وتجاوز الصلاحيات.
"صراحة" السفيرة الفرنسية مع باسيل
فالجانب الفرنسي الذي دعم مبادرة بري، ووجد فيها نافذة أمل نظراً إلى اقتراحه حلولاً وسط للخلاف بين عون والحريري، وجد أنه من الضروري أن يترافق تحركه لتقديم مساعدات تخفف من وطأة شح وفقدان المحروقات، وانعكاسها على التغذية بالتيار الكهربائي، وصعوبة استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية وبعض المواد الغذائية، مع لقاءات أجرتها السفيرة غريو في خضم تصاعد الصراع السياسي، مع كل من بري والحريري وباسيل. وإذ علقت الأوساط السياسية أهمية على اجتماعها بالأخير، لأن جهود بري عبر موفديه و"حزب الله" إليه خلال الأيام العشرة الماضية، لم تحدث تقدماً يذكر في معالجة العقد التي تعترض تأليف الحكومة، قال مصدر دبلوماسي فرنسي لـ"اندبندنت عربية"، إنه بغض النظر عن تفاصيل ما دار مع رئيس "التيار الحر" الذي لا تكشف عنه عادة السفارة، فإن لقاءها مع باسيل "اتسم بالصراحة والكلام المباشر، فأكدت له أن الوضع الطارئ الذي يعيشه لبنان يتطلب قيام الحكومة في أسرع وقت لتنكب على المعالجات المطلوبة ومن دون تأخير. وشددت على أنه لا سبب كي تستمر الأزمة السياسية على هذا الشكل والحلول ممكنة لها، ولما بعد تأليف الحكومة في ما يخص الوضع الاقتصادي. ومسؤولية السياسيين المعنيين تسهيل قيام الحكومة، وهم يعرفون ما عليهم القيام به".
وفيما ذكرت المصادر الدبلوماسية أن السفيرة غريو نقلت الرسالة نفسها إلى بري والحريري، فإنها اطلعت من الأول على حصيلة لقاءات موفده مع باسيل التي لم تصل إلى نتائج إيجابية. وأوضحت المصادر رداً على سؤال عما إذا كانت السفيرة تناولت العقوبات التي فرضتها فرنسا وتنوي فرضها في إطار الاتحاد الأوروبي على من تتهمهم بعرقلة قيام الحكومة، أكد المصدر أنها تناولت هذا الأمر مع باسيل ومع غيره، مكررة ما سبق أن أعلنته باريس في هذا الصدد. فالجانب الفرنسي سرّب أن بعض العقوبات اتخذ قرار فيها، ومنها منع دخول شخصيات الأراضي الفرنسية، وأنه تم إبلاغ هذه الشخصيات، لكن الأوساط الفرنسية امتنعت عن ذكر الأسماء.
وعما إذا تناول البحث مع الحريري إمكان اعتذاره عن الاستمرار بتكليفه تشكيل الحكومة، كما لوح بذلك قبل أيام، ذكرت المصادر الدبلوماسية الفرنسية أن الرئيس المكلف تناول هذا الاحتمال في اجتماع السفيرة غريو معه و"نحن لا ندعو أحداً إلى الاعتذار ونتعاطى معه على أنه جرت تسميته من أكثرية البرلمان كي يؤلف الحكومة، وإذا اعتبر أنه لم يعد قادراً على الاستمرار في التأليف جراء العقبات فهذا يعود إليه، وما يعنينا الآن هو أن يتحمل مسؤوليته في تسريع تشكيل الحكومة".
ضغط أوروبي واستكشاف تمهيداً لعقوبات
يرافق التحرك الفرنسي وصول الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية نائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل إلى بيروت، لإجراء محادثات مع المسؤولين السياسيين والعسكريين على مدى يومين. وأفادت سفارة الاتحاد الأوروبي أن بوريل يقوم بأول زيارة رسمية له إلى لبنان "في لحظة حرجة للغاية للبلاد التي تعاني من أزمات عديدة في وقت يتعين بإلحاح على القيادة السياسية اللبنانية تشكيل حكومة وتنفيذ إصلاحات رئيسة". وأكدت أن بورل "سيحمل رسائل أساسية للقيادة اللبنانية، ويعرب عن تضامن الاتحاد الأوروبي مع الشعب اللبناني في هذه الأوقات البالغة الصعوبة".
وعلمت "اندبندنت عربية" أن مهمة المسؤول الأوروبي ليست منفصلة عن التوجه الفرنسي المزدوج، الضغط لتسريع إنهاء الفراغ الحكومي تحت طائلة فرض عقوبات على شخصيات تعيق المخارج المطروحة، والبحث في حاجات المجتمع اللبناني الحياتية، لا سيما للجيش اللبناني كي يتمكن من الإيفاء بالحد الأدنى من مهماته في حفظ الاستقرار الأمني المعرض للاهتزاز بفعل الأزمة المعيشية المرشحة لتطورات دراماتيكية مع توقف مصرف لبنان عن دعم استيراد الحاجات الضرورية بالسعر الرسمي للدولار الأميركي (1500 ليرة للدولار الواحد، مقابل سعر السوق السوداء الذي فاق 15 ألف ليرة). فالمصرف المركزي استنفد خلال سنة ونصف السنة الاحتياطي لديه من العملات الأجنبية.
وتهدف مهمة بوريل إلى الاطلاع عن كثب على تفاصيل الأزمة السياسية بموازاة حثه القيادات السياسية على تسوية الخلاف حول تأليف الحكومة، من أجل تقديم تقرير محدّث عن أسبابها، لاجتماع مرتقب لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الذي سيستكمل البحث في فرض عقوبات أسوة بفرنسا على الشخصيات التي تعرقل قيام الحكومة الجديدة.
آلية الدعم الدولي قيد الدرس ولا تبرعات مالية
في الشق المتعلق بالمساعدات للقطاعات التي تعاني من نقص مواد ضرورية، كان الرئيس ماكرون تحدث عن وضع آلية مالية دولية لتأمين خدمات أساسية يعاني اللبنانيون من فقدانها أو نقصها، لكن مصدراً دبلوماسياً فرنسياً يقول، إنها غير جاهزة بعد، وإن باريس ما زالت في طور البحث في تفاصيل ذلك تمهيداً للتباحث مع المجتمع الدولي في شأنها. مع العلم أنه سبق لفرنسا أن قدمت مساعدات في المجالات كافة، التعليمية والطبية والغذائية وقطع غيار للجيش اللبناني.
وكانت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي ونظيرها الإيطالي لورنزو غيريني، والمنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا، رعوا مؤتمراً افتراضياً شاركت فيه بضع دول لمساعدة الجيش، عرض خلاله قائد الجيش العماد جوزف عون ما تعانيه المؤسسة العسكرية، وقال إن "لبنان يواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة ويبدو واضحاً انعدام فرص الحلول في الوقت القريب، والجيش يحظى بدعم وثقة محلية ودولية لذا تزداد الحاجة أكثر إلى دعمه كي يبقى متماسكاً وقادراً على القيام بمهامه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى "تدهور قيمة الليرة ما أدى إلى تدني قيمة رواتب العسكريين بنسبة تقارب 90 في المئة، كذلك في التغذية والطبابة والمهمات العملانية وقطع غيار الآليات". وحذر من أن "استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والمالي سيؤدي حتماً إلى انهيار المؤسسات ومن ضمنها المؤسسة العسكرية، بالتالي فإن البلد بأكمله سيكون مكشوفاً أمنياً".
ولفت إلى أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة والأخيرة التي لا تزال متماسكة وهي الضمانة للأمن والاستقرار في لبنان والمنطقة وأي مس بها سيؤدي إلى انهيار الكيان اللبناني وانتشار الفوضى".
إلا أن المؤتمر انتهى إلى إعلان بعض الدول عن تقديم مساعدات عينية للجيش من دون تبرعات مالية قد يحتاجها، لا سيما أن بعض الدول الخليجية لم يحضر مقابل حضور البعض الآخر. وستقدم فرنسا مواد طبية للجيش، فيما تعهدت إيطاليا مده بالمحروقات لآلياته، وإسبانيا بمواد غذائية. وسبق للإمارات ومصر والمغرب والأردن والعراق أن قدمت مساعدات بهذا المعنى. كما أن الولايات المتحدة سبق أن تبرعت بأسلحة وعتاد وذخيرة. وينتظر أن يبحث بعض الدول في تزويد الجيش ببعض قطع الغيار لآلياته.
بين الحلول الآنية والحل السياسي بالحكومة
عكس انعقاد المؤتمر اهتماماً بعدم انهيار الجيش، لأن تراجع قدرة العسكريين على الحركة والتنقل وتأمين احتياجاتهم، قد يؤدي في حال الاضطرابات في الشارع بسبب الأزمة الاجتماعية، إلى انفلات أمني.
وفي اعتقاد مصادر سياسية أن اكتشاف الدول الكبرى التي تتابع الوضع اللبناني أن تأمين الغذاء والتنقل والطبابة وبعض قطع الغيار للجيش ولبعض قطاعات المجتمع من خلال الآلية المالية التي تحدث عنها ماكرون، هي حلول آنية لا تفي بالغرض، في وقت يُفترض حل الأزمة السياسية الحكومية من أجل المعالجة الجذرية للمأزق الاقتصادي، ما دفع فرنسا وأوروبا إلى معاودة الضغط مجدداً لتأليف الحكومة، بعدما تسبب اليأس من الطبقة السياسية بإبطاء الجهود السياسية واستخدام الصداقات والنفوذ لهذا الغرض.
واشنطن تسلم بدور باريس
ومع إحجام عديد من الدول المعنية عادة بلبنان عن لعب دور في المعالجات السياسية، سواء بسبب اعتبار دول خليجية أن سيطرة "حزب الله" على السلطة السياسية عن طريق تحالفه مع الرئيس عون، أو بسبب يأس دول أخرى من الطبقة السياسية، أو لأن دولاً أخرى لا يعنيها لبنان في ظل أولويات أخرى لديها، فإن مراهنات بعض الأوساط السياسية والإعلامية في لبنان على بحث أزمته في بعض اللقاءات المهمة التي انعقدت في الأسبوع الماضي خابت.
وتفيد المعطيات أنه خلافاً لبعض التحليلات عن أن أزمة لبنان كانت مدار بحث خلال لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع الرئيس ماكرون على هامش مجموعة السبع في بريطانيا، فإن المصادر الدبلوماسية الأوروبية تؤكد أنهما لم يتطرقا إليها نظراً إلى عناوين أكثر أهمية منها، خصوصاً أن الاتصالات واللقاءات على مستوى وزارتي خارجية البلدين في شأن الشرق الأوسط تشير إلى أن واشنطن تترك لباريس تولي متابعة الوضع اللبناني وتسلم بدورها في هذا المجال.
أما في شأن قمة بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن البحث لم يتطرق إلى لبنان، إلا من زاوية اهتمام موسكو بتمويل دولي لإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم (والأرجح من دون ذكر لبنان)، الأمر الذي تناوله الرئيسان بعجالة حيث لا ترغب الإدارة الأميركية الجديدة في تقديم أي التزامات سياسية حول بلاد الشام مفضلة الحفاظ على الستاتيكو فيها.