وسط التوقعات الخاصة بقرب الانتعاش الاقتصادي، وازدياد الطلب على المواد الخام، يرتفع التضخم في جميع أنحاء العالم، لدرجة أن البعض يخشى أنه يهدد الخروج من الأزمة، رغم أن معظم الاقتصاديين يعتبرون أن هذا الارتفاع "مؤقت".
ويشهد الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي ارتفاعاً متسارعاً لمعدلات التضخم، وبدت ملامح ذلك بجلاء في منطقة اليورو والولايات المتحدة الأميركية والصين. ولا تتوقف مخاوف التضخم على ما حدث بالفعل إلى الآن، لكن هناك ترجيحات بأن يشهد التضخم العالمي المزيد من الارتفاع خلال الفترة المقبلة، في ظل عوامل عدة، أهمها عودة النشاط الاقتصادي تدريجياً مع توسع الدول في تطعيم سكانها ضد وباء كورونا، تزامناً مع استمرار الحكومات في تنفيذ برامج التحفيز المالي لاقتصاداتها.
وربما تزيد هذه المعطيات من حجم المخاوف التي تتعلق بأن تقود موجة التضخم الحالية، والمتوقع زيادتها، الاقتصاد العالمي لحالة من عدم الاستقرار، وأن يتسبب ذلك في أزمات مالية جديدة لم تكن متوقعة من قبل، وقد تكون تبعاتها ثقيلة على الاقتصاد العالمي، الذي ما زال مثقلاً بالأعباء.
ضغوط تضخمية صعبة في الاقتصادات المتقدمة
في الولايات المتحدة الأميركية، ارتفع معدل التضخم بشكل كبير ومتسارع أيضاً خلال الشهور الأخيرة، ليبلغ 4.2 في المئة خلال مايو (أيار) الماضي، بعد أن بلغ 2.6 في المئة خلال أبريل (نيسان)، ما يعني أنه قفز بنحو 1.6 نقطة مئوية خلال شهر واحد فقط. وفوق ما يعبر عنه ذلك من ضغوط تضخمية يعانيها الاقتصاد، فإن ارتفاع التضخم إلى مستواه الحالي يمثل تطوراً لافتاً، لا سيما أنه يعتبر المستوى الأعلى للتضخم بالاقتصاد الأميركي منذ يناير (كانون الثاني) من 2008.
بينما لا يعيش الاقتصاد الصيني ظروفاً مغايرة، بعد أن مرّ خلال الفترة الماضية بارتفاع لافت، فقد كشفت بيانات مكتب الإحصاء الوطني في الصين ارتفاع معدل التضخم هناك إلى 1.3 في المئة خلال مايو الماضي، مقابل 0.9 في المئة خلال أبريل السابق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أظهرت البيانات ارتفاع أسعار الجملة في الصين 9 في المئة خلال الشهر الماضي مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، بعد ارتفاعها 6.8 في المئة خلال أبريل السابق، وهو ما يدفع نحو مزيد من التضخم في الفترة المقبلة.
وفي أوروبا، ارتفع معدل التضخم في منطقة اليورو بشكل متسارع خلال الشهور الأخيرة، ما دفعه إلى الوصول إلى أقصى مستوى في الهامش المقبول كعامل استقرار لاقتصادات المنطقة، وقد سجل هذا المعدل 2 في المئة خلال مايو الماضي، مرتفعاً من نحو 1.8 في المئة خلال أبريل السابق.
ولا يقتصر الأمر على المعدل الكلي للتضخم بالمنطقة، بل إن الاقتصادات الأربع الكبرى في المنطقة، وذات التأثير الأكبر داخلها، تعاني جميعها الآن ارتفاعاً متسارعاً للتضخم. ومنذ فبراير (شباط) وحتى نهاية مايو الماضي، ارتفع التضخم في ألمانيا من 1.6 في المئة إلى 2.4 في المئة، وفي فرنسا زاد المعدل من واحد في المئة إلى 1.8 في المئة. وفي إيطاليا ارتفع من 0.7 في المئة إلى 1.3 في المئة. وقفز التضخم في إسبانيا من سالب 0.1 في المئة إلى 2.4 في المئة. ومن شأن هذا التسارع أن يهدد فرص التعافي الاقتصادي للمنطقة، وأن يزيد من المخاوف من حدوث اضطراب مالي جديد بها.
الدول النامية تعاني من تضخم مزمن
أما الدول النامية التي يعاني بعضها تضخماً مزمناً، فقد طالتها الأزمة الحالية، فقد ارتفع معدل التضخم في نيجيريا 22.9 في المئة خلال مارس (آذار) الماضي، كما صعد 8.6 في المئة خلال مايو الماضي في البرازيل. بينما سجل ارتفاعاً 17.14 في المئة خلال أبريل الماضي في تركيا.
وفق وكالة الأنباء الفرنسية، قال كبير الاقتصاديين في شركة "كابيتال إيكونوميكس"، نيل شيرينغ، إن "الزيادة في التضخم حتى الآن تعكس إلى حد كبير مزيجاً من ارتفاع أسعار المواد الخام والتضخم المرتبط بإعادة فتح الاقتصادات".
وبذلك، ارتفعت أسعار النفط بعد انخفاضها خلال العام الماضي، في حين خلق الانتعاش الاقتصادي القوي في الصين والولايات المتحدة شهية هائلة للمواد الخام. وتوجد صعوبات في الإنتاج لمواكبة هذا النسق، ما يؤدي إلى نقص في السلع وارتفاع كبير في الأسعار. وأضاف: "صارت تداعيات التضخم محسوسة في كل أنحاء العالم تقريباً. في نيجيريا، ارتفعت أسعار المواد الغذائية 22.9 في المئة خلال مارس الماضي، وهو كارثة لملايين الناس". وفي الولايات المتحدة، ارتفع سعر لحم الخنزير المستهلك على نطاق واسع بنسبة 51 في المئة خلال عام.
وأضاف: "أما نتائج أعمال الإنشاء فقد جاءت مخيّبة في مايو الماضي، كما هو الحال في فرنسا مثلاً، إذ تأخرت مشاريع نتيجة عدم توفر الخرسانة والخشب بأسعار مقبولة. ويسود القلق أيضاً في قطاع صناعة السيارات، نتيجة ارتفاع أسعار الروديوم والبلاديوم والفولاذ. وبناء على ذلك، قررت الصين الاعتماد على احتياطياتها من النحاس والألمنيوم والزنك لمساعدة مصنّعيها".
ويضع استمرار التضخم آفاق التعافي الاقتصادي على المحك، حيث يرى كبير الاقتصاديين في مصرف "بي أن بي باريبا"، وليام دي فيلدر، أن "التهديد يبدو منخفضاً بأن ذروة التضخم" الحالية ستؤدي "إلى تضخم مستدام على مدى فترة زمنية أطول". وأوضح أن ارتفاع العرض مقابل الطلب في سوق العمل لن يدفع في اتجاه زيادة المرتبات، في حين أن "ضغوط التنافس" ستعيق ارتفاع الأسعار على المدى الطويل.
ما دور نقص العملة في ارتفاع التضخم؟
في المقابل، تعتبر المحللة في شركة "هارغريفز لانسداون" سوزانا ستريتر، أن "نقص العمالة في الصناعات الرئيسة قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم واستمراره لفترة أطول". وفي الوقت الحالي، تصدر البنوك المركزية المسؤولة عن التحكم في مستويات التضخم تطمينات، حتى بعد رفع الاحتياطي الفيدرالي توقعات التضخم لعام 2021 في الولايات المتحدة.
وفي الولايات المتحدة، كان تأثير خطط الدعم الهائلة التي أعلنت عنها إدارة الرئيس جو بايدن أشبه بصدمة كهربائية في الأسواق. وأدت المخاوف من التضخم المستمر إلى ارتفاع أسعار الفائدة في سوق الديون السيادية.
وخلال آخر اجتماع عقده الاحتياطي، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، ساد توافق حول البدء في زيادة أسعار الفائدة اعتباراً من 2023. بالمثل، ارتفعت أسعار الفائدة أيضاً في أوروبا، ولكن بشكل محدود حتى الآن، ما يسلط ضغطاً على البنك المركزي الأوروبي. لكن إن كان الانتعاش الاقتصادي يلوح في الأفق هناك، فإنه لا يزال هشاً، ويمكن لتشديد السياسة النقدية أن يقضي عليه في مهده. وترى "سوزانا ستريتر"، أن "ذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على قروض الإسكان وقروض الاستهلاك"، الأمر الذي قد يضعف الطلب لدى الأسر". وتضيف أن ذلك يمكن أيضاً أن "يثبط" الشركات "التي تحتاج إلى اقتراض الأموال لتنمو".
ومرّت منطقة اليورو بتجربة مريرة بعد أزمة عام 2008 تريد الدول والبنك المركزي الأوروبي تجنبها هذه المرة. ومن جهتها، أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد الأسبوع الماضي، أنه من "السابق لأوانه" التفكير في زيادة أسعار الفائدة وتقليص دعم الاقتصاد. لكن في آيسلندا والبرازيل وروسيا، رفعت البنوك المركزية بالفعل أسعار الفائدة لمواجهة التضخم.