بلعبة ذكية، وفي شكل ممتع بصرياً وفكرياً، يدين العرض المسرحي المصري "دوغز" (dogs)، أي "كلاب" توحش العالم ولا إنسانيته، وسعي فئة قليلة منه، تمتلك القوة والمال، للسيطرة على الغالبية، وتوظيفها لخدمة مصالحها. ويعلي من قيمة الحرية وضرورتها، ليكون العالم أفضل، ولديه قدرة أكبر على البقاء والاستمرارية.
العرض يتناول سيرة مجموعة من الكلاب، التي كانت تنعم بحريتها في الشوارع المفتوحة، وتمارس حياتها مستمتعة، بحلوها ومرها، ثم قامت إحدى جمعيات الرعاية باختطافها ووضعها في سجن أشبه بفنادق النجوم الخمس، وقدمت لها الطعام والشراب، في مقابل أن تطيع الأوامر. ثم عملت على " تشريسها"، وحولتها إلى ذئاب مفترسة، ووظفت بعضها ليقوم بالتجسس على الآخرين. وبدأ كل منها يأكل غيره في سبيل البقاء على قيد الحياة، لتنتهي مصائر أغلبها بالفناء. ولعل المتأمل في سيرة هذه المجموعة من الكلاب، يكتشف أنه أمام سيرة الإنسان نفسه، عندما تتسلط عليه قوة غاشمة، وتسلبه حريته، وتسعى إلى تشويهه، وتوظفه ليكون تحت طاعتها، منفذاً تعليماتها، التي تحقق مصالحها، راضياً بما تقدمه له من فتات يجعله، بالكاد، على قيد الحياة، أو ما يشبه الحياة. إنها دعوة ذكية، مغلفة بلطف، وفي شكل أقرب إلى المرح، ليقبض الإنسان على حريته، التي لو سلبت منه، فقد إنسانيته، بل وفقد حياته، فلا حياة، صحيحة وكاملة، من دون حرية.
العرض قدمه مسرح الشباب التابع للبيت الفني للمسرح (مؤسسة رسمية) وقام ببطولته المتميزون من خريجي الدفعة الثانية لورشة "ابدأ حلمك"، وهي ورشة مجانية متخصصة لتعلیم فنون التمثیل والأداء، تقيمها فرقة مسرح الشباب.
لا شيء يعادل الحرية، فهذه المجموعة من الكلاب المتنوعة، التي اتخذت من الشوارع بيوتاً لها، ومارست حريتها على نطاق واسع، حتى لو تناولت طعامها من صناديق القمامة، وتعرضت للمضايقات، كانت تعيش في سعادة، تمارس اللعب والغناء والحب. وعندما سيطرت عليها قوة أكبر، ووضعتها في سجن، ومارست سطوتها وتسلطها، اكتشفت أنها وقعت في الفخ، ولم يكن أمامها إلا أن تطيع الأوامر. ومن يحاول منها التمرد أو الهروب من هذا السجن، فإن الموت في انتظاره، ليقدم كطعام لبني جنسه.
فكرة مؤلمة
الفكرة- على رغم ما قد تحيل إليه من طرافة- مؤلمة وأسيانة، وتدعو إلى التأمل في مصائر الإنسان عندما تنزع عنه حريته، عندما يتوحش، بفعل ما يمارس عليه من ضغوط، ويدخل في صراعات دامية مع غيره، فقط ليظل على قيد الحياة، مضحياً بكل قيمه، بعد استكانته وقبوله بواقعه، وهو يرى كل يوم حوله "رأس الذئب الطائر".
أبرز ما يلفت النظر في العرض (كتب نصه محمود جمال حديني)، هو عناية مخرجه كمال عطية بالتفاصيل الصغيرة في عناصره كافة. وكان واضحاً حرصه، وهو يتعامل مع ممثلين يبدأون خطواتهم الأولى، على توظيف كل منهم في مكانه، ودمجهم معاً في تناغم شديد. فالعرض يضم أكثر من عشرين ممثلاً وممثلة، يقدمون التمثيل والرقص والغناء، وليس سهلاً أن ينصهر هؤلاء جميعاً في بوتقة واحدة، ويقدم من خلالهم عرضاً منضبطاً، بخاصة أنهم يؤدون أدوار مجموعة من الكلاب، مختلفة الأحجام، مختلفة النوعيات، كل بصوته، وطريقة حركته، وبتطويع جسده ليناسب طبيعته ككلب، سواء في إقدامه وشجاعته، أو في تراجعه وخوفه، أو في علاقته بغيره من الكلاب. المشاهد هو بالفعل أمام مجموعة من الكلاب في كل تفصيلة من تفاصيل حياتها.
وظيفة الديكور
جاء العرض في منظرين، الأول الشارع الذي كانت تعيش فيه الكلاب، وهو مساحة واسعة أتاحها المصصم، إشارة إلى الحرية التي تنعم بها الكلاب، على خلفية مجموعة من البيوت الشعبية البسيطة، التي تم تصميمها بمهارة. والمنظر الثاني هو السجن الذي سيقت إليه الكلاب، وحرص مصمم الديكور حمدي عطية، على جعله مكاناً فخماً ومهيباً، وفارقاً في تكويناته عن المنظر الأول، ليحيل المشاهد إلى المقارنة، بين مكان بسيط وشعبي تنعم فيه الكائنات بالشمس والهواء والحرية، وآخر تبدو عليه مظاهر الفخامة والجمال، لكنه مجرد سجن أولاً وأخيراً.
اهتم مصمم الديكور أيضاً بتصميم الإضاءة الداخلية للشارع والسجن، حرصاً منه على اكتمال الصورة في تشكيلاتها الجمالية، وعلى تعميق الدلالة المراد إيصالها. وكان الديكور بالفعل أحد العناصر الرئيسة التي لعبت دوراً مهماً في العرض، جمالياً وفكرياً، وبدا أن مصممه اهتم بقراءة النص جيداً وتحليله ليخرج بهذه الرؤية التشكيلية، التي تعبر عن فهم ووعي بوظيفة الديكور في العرض المسرحي.
الموسيقى والأغاني في العرض (وضعها محمد حسني)، جاءت هي الأخرى، بسيطة ومرحة ومتحررة، في منظر الشارع، ومفعمة بالشجن في منظر السجن، لتوافق طبيعة الحدث وأجوائه. وتحررت الأغاني من التقاليد الشعرية، ولم تهتم كثيراً بفكرة المذهب والكوبليه، أو بالوزن والقافية، أغلبها كلمات مرسلة، هي أقرب إلى "الريستاتيف" الحديث المنغم الذي يعكس الإيقاعات الطبيعية للحديث اليومي. وهو اختيار ذكي وواع هو الآخر، بخاصة أن الغناء، كان حياً، ويأتي من وضع الحركة، وليس من وضع الثبات، وهو ما يتطلب مهارة وجهداً مضاعفين من المؤدين.
كلاب طبيعية
عنصران آخران من دونهما لم تكن الصورة لتكتمل، أولهما الملابس (صممتها أميرة صابر)، والتي جاءت متوافقة تماماً، وبدقة متناهية، مع طبيعة الأدوار التي يلعبها الممثلون. ففي العرض، أنواع عديدة من الكلاب، كان عليها أن تصمم لكل منها ما يناسب نوعه، وحجمه، وبشكل يقربه كثيراً إلى الواقع. وقد استخدمت الفرو كخامة صنعت منها ملابسها، وربما تكون هي الخامة الأنسب لممثلين يؤدون أدوار كلاب، مع ما تسببه لهم من حرارة شديدة تستلزم وجود أجهزة تبريد في المسرح عالية الكفاءة. أما العنصر الآخر فهو الماكياج (وضعه إسلام عباس)، وراعى فيه كذلك التفاصيل الدقيقة لوجوه الكلاب، على تنوعها واختلافها، فبدت الوجوه كأنها لكلاب طبيعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفنان ضياء شفيق صمم رقصاته مراعياً التكوين الجسدي للكلاب وطريقة حركتها، ونجح في تطويع أجساد الممثلين لتحاكي طبيعة الكلاب، مع ما تطلبه ذلك من مرونة ولياقة وفرتها فترة التدريب الطويلة التي خضع لها الممثلون.
استطاع المخرج قيادة هذه المجموعة من الممثلين الجدد، بمعاونة صناع عناصر العرض الأخرى، ليقدم في النهاية عرضاً مسرحياً جريئاً، ومختلفاً، ومغامراً، سواء في فكرته، أو في طريقة تنفيذه. ورغم مأساوية الحدث وثقله، وأسئلته الموجعة، فقد جاء ذلك كله مؤطراً بالبهجة والمرح، وأفصح عن مواهب تمثيلية جديدة تمثل إضافة طيبة للمسرح المصري، أنكر كل منهم ذاته، وتخفى وراء الشخصية التي يلعبها، في عرض جماعي لا بطولة فيه، ولا أدوار ثانوية، وربما تكون تلك إحدى مآثره الكبرى.
أما لماذا اختار كاتب النص كلمة "دوغز" (Dogs) وليس "كلاب" فربما للهروب بشكل غير مباشر من تأويلات تحيل إلى واقع بعينه، وإن أحالت، وبشكل مباشر. لكنه أمر لا ينتقص من قيمة العرض وأهميته وذكائه، وقدرته على طرح موضوع شائك وكأنه يقدم مجرد لعبة طريفة، وممتعة، لممارسيها ومشاهديها.