هناك أحداث يمكن أرشفتها، بالقول إنها بدأت سنة كذا وانتهت سنة كذا، لكن "السيرك" بما هو ألعاب ترفيهية لمشاهدين يطلبون الانبهار بحركات رياضية أو حيوانات غريبة تتصرف بحسب أوامر مدربها، أو مشاهدة المهرجين المضحكين، لا يمكن القول إن هذا النوع من "السيرك" بدأ في عام محدد، فالألعاب الجماعية والمهرجون والسحرة لطالما كانوا يؤدون أدوارهم وألعابهم في الطرق وفي ساحات المدن وفي قصور الملوك والسلاطين لتسليتهم وإضحاكهم. ربما يمكن اعتبار الألعاب الرومانية التي كان يشاهدها الإمبراطور وحشد كبير من المواطنين الرومان من أنواع "السيرك"، وقد ادعى الفيلسوف الإغريقي ترتليان أن أول ألعاب "سيرك" نظمتها الإلهة سيرس تكريماً لوالدها هيليوس، إله الشمس.
انتشار "السيرك" حول العالم
"السيرك" كألعاب لا يمكن تحديد تاريخ بدايته ولكن يمكن تحديد زمن تحوّله إلى مؤسسة منظّمة تديرها مجموعة من الناس يقومون بعملهم طوال الوقت، وينتقلون جميعهم من بلدة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى.
عمر السيرك كما نعرفه حالياً يبلغ 250 عاماً تقريباً، ويعتبر فيليب أستلي والد "السيرك" الحديث، وبدأت القصة في عام 1768، مع أستلي، وهو فارس ماهر، حين بدأ في إقامة معارض لركوب الخيل في حقل مفتوح على الجانب الجنوبي من نهر "التايمز"، في عام 1770، استأجر "أكروبات" ومشاة حبل مشدود، وسحرة، ومهرجين لملء فترات التوقف بين ألعاب الفروسية، تطورت العروض على مدار الـ 50 عاماً التالية، فدخلت فيها الفرقة الموسيقية كمؤثرات أثناء القيام بألعاب خطرة وبهلوانية أو فقرات المهرجين الذين يمثّلون مسرحية كوميدية قائمة على الحركة.
وتطورت الأماكن التي يقام فيها "السيرك"، في أواخر القرن الـ 18 إلى أواخر القرن الـ 19، تم بناء أماكن "السيرك" بحسب الطلب كمساحة دائرية مركزية تحيطها المقاعد من كل الجوانب وقد يكون فوقها خشبة مسرح. ولم تكن لهذه الأبنية أسقف بعد، ثم ظهرت الخيام الكبيرة المعروفة باسم "القمم الكبيرة" في منتصف القرن الـ 19 حين بات "السيرك" متجولاً، وصار هذا النوع من الخيام الأكثر شيوعاً، وغالباً كان قطر الساحة في "السيرك" 13 متراً، كما أراد أستلي في أواخر القرن الـ 18، لأن هذا الحد الأدنى للقطر الذي مكّن الفارس البهلواني من الوقوف منتصباً على حصان والدوران في حلقة داخل الساحة. ثم اتبعت كل "السيركات" هذا المقياس لحلباتها.
بين القديم والحديث
في روما القديمة، كان "السيرك" عبارة عن مبنى لسباقات الخيول والعربات وعروض الفروسية والمعارك المنظمة والقتال والمصارعة وعروض الحيوانات المدربة والمعارك معها، ولإعادة أحداث المعارك البحرية غمروا "السيرك" بالماء وأنزلوا فيه سفناً مصغّرة لتمثّل أجواء المعركة، ومع ذلك، لم تكن مباني "السيرك" الرومانية دائرية بل مستطيلة بنهايات نصف دائرية، وحجزت المقاعد السفلية للأشخاص ذوي الرتب والمناصب العليا، وكانت السلطات تدعم مالياً هذه الألعاب لكي تقام على أكمل وجه، وفي "السيرك" الروماني فقط لم يتم الفصل بين النساء والرجال إذ كانوا يتخالطون في المدرجات وهو الأمر الممنوع داخل المدينة وفي الأماكن العامة.
كان أول "سيرك" في مدينة روما هو "سيرك ماكسيموس"، وتم بناؤه بالكامل من الخشب، ثم تم توسيعه على مرحلتين فصارت مدرجاته تتسع لـ 250 ألف متفرج وهو عدد قياسي في ذلك الوقت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حديثاً كانت إنجلترا رائدة "السيرك" قد بدأت خلال القرن الـ 18 بتشييد مبانٍ لهذا الغرض في المدن الكبيرة مثل ميدان سباق الخيل بلندن، والذي بات في النهاية كمزيج من "السيرك" وحديقة الحيوانات والمسرح.
افتتح "السيرك" الملكي في لندن في عام 1782 من قبل تشارلز ديبدين الذي أعطى اسم "السيرك" لهذا النوع من الألعاب المتنوّعة، في عام 1782، أسس أستلي "سيرك" "أمفي الإنجليزي" في باريس، وهو أول "سيرك" في فرنسا، ولكن تم تشييد 18 "سيركاً" دائماً في مدن أوروبا بعد ذيوع شهرته عالمياً.
وصل "السيرك" إلى الولايات المتحدة الأميركية مع الإنجليزي جون بيل في عام 1792 في فيلادلفيا، وحضر جورج واشنطن أحد العروض فيه.
التأثير الأميركي في "السيرك"
أسهم "السيرك" الأميركي في إحداث تغيير كبير في شخصية "السيرك" الحديث، واحتل الحوار الهزلي التقليدي للمهرج مكاناً أقل بروزاً مما كان عليه سابقاً، وتم استبدال فقرات الفروسية بالعروض البهلوانية المتقنة وعروض المشي فوق الحبال وعروض المهارة والقوة والجرأة التي تتطلب توظيف أعداد هائلة من المؤدين، وكذلك آلات معقّدة ومكلفة.
منذ أواخر القرن الـ 19 وحتى النصف الأول من القرن الـ 20، كان "السيرك" المتنقل الترفيه الأحب للمتفرجين في الولايات المتحدة، واجتذب اهتماماً كبيراً، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، تراجعت شعبية "السيرك" مع وصول أشكال جديدة من الترفيه، مثل التلفزيون. وفي ستينيات القرن الـ 20 ضايقت جمعيات الرفق بالحيوان إدارات "السيرك"، فتم إقفال بعضها واندمجت أخرى، وخفت بريق "السيرك" كترفيه حتى التسعينيات حيت دخلت تقنيات جديدة في عمله، وعملت الشركات على جذب المتفرجين بكل طرق الدعاية والإغراء، فعادت لها الحياة وانتشر "السيرك" الحديث والمعاصر في أهم مدن العالم كـ "سيرك باريس" الشهير و"سيرك فيينا" وغيرهما في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، و"السيركات" الآسيوية الصينية واليابانية التي تقوم على أداء عرض الخفة والحركات البهلوانية المعقدة.
تطوير
في عام 1919 أعرب لينين في الاتحاد السوفياتي عن رغبته في أن يصبح "السيرك" "شكل الفن الشعبي"، بمرافق ومكانة تضاهي المسرح و"الأوبرا" و"الباليه". جاء الاهتمام به إلى حد تأميمه من قبل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وافتتاح جامعة خاصة بتعليمه في عام 1927 والمعروفة باسم "مدرسة سيرك موسكو"، وكان "السيرك" الروسي يقوم على ألعاب "الجمباز" المتقنة والماهرة، وحين قام "سيرك" موسكو بجولات دولية تلقى إشادة واسعة لهذا الاتقان المدهش لألعاب "الجمباز".
يجمع "السيرك" المعاصر بين مهارات "السيرك" التقليدية والتقنيات المسرحية. يمكن القول إن النوع المعاصر يركّز على التأثير الجمالي العام وعلى تطوير الشخصية والقصة وعلى تصميم الإضاءة والموسيقى الأصلية، وغالباً ما يتم تأليف الموسيقى المستخدمة في الإنتاج حصرياً له. ونادراً ما تظهر أعمال الحيوانات في "السيرك" المعاصر بسبب تكاثر جمعيات الرفق بالحيوان وتركيزها على معاملة الحيوانات غير الإنسانية في "السيرك"، على عكس "السيرك" التقليدي، إذ كانت أعمال الحيوانات غالباً جزءاً مهماً من فقرات "السيرك" الترفيهية.