عاد التضخم، إذ جاء الارتفاع الأخير في المعدل الرئيس للمملكة المتحدة للمرة الأولى منذ سنتين، متجاوزاً هدف "بنك إنجلترا" البالغ اثنين في المئة، بعد مرور مجرد بضعة أيام من بلوغ كُلف المعيشة في الولايات المتحدة أعلى مستوى لها منذ 13 سنة. ولفترة من الوقت، ظل تجار أسواق المال يرفعون معدلات الفائدة التي تدفعها المصارف والمقرضون، والتي تمرر إلينا عبر قروض الرهن العقاري والسيارات، في حين بدأ المحللون في القلب التجاري للندن مناقشة إمكان أن تعمد "لجنة السياسة النقدية" إلى رفع معدلها الخاص بالاقتراض في وقت مبكر العام المقبل.
وهناك نتيجتان مؤكدتان ستنجمان عن اجتماع "لجنة السياسة النقدية" في بنك إنجلترا هذا الأسبوع، إذ ستقرر ترك السياسة النقدية بلا تغيير مع تصويت عضو وحيد، هو كبير الاقتصاديين المنتهية ولايته والمفكر المبتكر أندرو هالداين، لمصلحة التشدد في السياسة النقدية من خلال وقف العمل ببرنامج التيسير الكمي الذي تبلغ قيمته 875 مليار جنيه استرليني (1.214 مليار دولار).
ولا ينبغي لارتفاع التضخم أن يكون مفاجئاً، إذ أدى التلقيح إلى ارتفاع في النشاط، ما من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار في الأعمال، وسيكون من الضروري رفع معدلات الفائدة في مرحلة ما للمرة الأولى منذ أغسطس (آب) 2018، وسيُوقف برنامج التيسير الكمي تدريجياً.
في المقابل، لا تعني تلك المعطيات ضرورة العودة إلى المناقشة الشهرية العقيمة التي شهدناها خلال العقد الأول من القرن الـ 21، بشأن ارتفاع معدل الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية أو لا.
لقد تغيرت أشياء كثيرة منذ ذلك الوقت، حتى أن التعامل مع ارتفاع معدل الفائدة باعتباره نذيراً بإحياء جديد للعشرينيات الهادرة (تكرار ازدهار عشرينيات القرن الـ 20 عقب نهاية الحرب العالمية الأولى)، يُعد حماقة شديدة.
وعلى الرغم من إغراء أن نعتبر معدلات التضخم والفائدة المنخفضة عرضاً من أعراض "كوفيد-19"، وبالتالي توقع ارتفاعها مع تراجع معدلات الوفيات والحالات الجديدة وحالات الإدخال إلى المستشفى، من شأن ذلك ألا يأخذ في الاعتبار التغيرات البنيوية الهائلة التي طرأت على الاقتصاد.
وتذكيراً، لامس معدل الفائدة الصفر منذ مارس (آذار) 2009 عندما تدخل "بنك إنجلترا" لتجنب وقوع الاقتصاد في ركود بتأثير من الأزمة المالية العالمية التي ابتدأت في 2008.
وخلافاً للنمط الذي شهدناه على مدى القرنين الماضيين، لم يعد النشاط الاقتصادي يشبه نابضاً مضغوطاً، بل زحف بخطوات هزيلة.
وربما لم تسجل البطالة مستوى الـ 3 ملايين عاطل من العمل الذي شهدناه خلال الركود في ثمانينيات القرن الـ 20، لكن نمو الرواتب تباطأ. وحافظ برنامج الإجازات المدفوعة على مداخيل 2.4 مليون شخص، لكن مع تدني الثقة باستمرارهم في وظائفهم فور رفع شبكة الأمان هذه.
وتذكروا أن التيسير الكمي أفاد أصحاب الثروات بسبب أثره في أسعار الأصول كالعقارات والأسهم والسندات والأعمال الفنية وحتى العملات المشفرة.
واستناداً إلى تلك المعطيات، يتعين على واضعي السياسات أن يتحملوا المسؤولية عن إعادة بناء اقتصاد يعمل لمصلحة الناس وليس العكس، ووفق ما أشارت إليه "مؤسسة القرار" البحثية، يتعين على واضعي السياسات أن يخشوا ارتفاع معدلات البطالة أكثر من زيادة معدلات التضخم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن بعض الأسباب التي أدت إلى تباطؤ اقتصادنا وُجدت حتى قبل الأزمة المالية العالمية، ومن بين هذه العوامل شيخوخة السكان وارتفاع متوسط العمر المتوقع، وانخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع نسب الإعالة من الغير، وهي عوامل من شأنها أن تقلل النمو في الأجل البعيد. وهناك أيضاً ما يسمى بتخمة المدخرات البعيدة الأجل لدى الصين وغيرها من البلدان الآسيوية، التي أبقت معدلات سوق المال منخفضة.
في المقابل، تتلخص المسألة الوحيدة التي يتعين على واضعي السياسات أن يعالجوها في انهيار نمو الإنتاجية، وقد تبدو الإنتاجية باهتة، لكنها تشكل نواة الصحة الاقتصادية. وبحسب الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل بول كروغمان، "ليست الإنتاجية كل شيء، لكنها في الأجل البعيد تشكل كل شيء تقريباً". ويرجع السبب في ذلك ببساطة إلى أن قدرة أي دولة على رفع مستويات المعيشة تعتمد بالكامل تقريباً على زيادة إنتاجية كل عامل فيها.
وخلال السنوات الأخيرة بدت مستويات الإنتاجية في المملكة المتحدة مخيبة للآمال بالمعايير الدولية، بل ركدت بالمقارنة مع معدل نمو تاريخي طويل الأجل بلغ 2.0 في المئة سنوياً. ووفق حسابات "مكتب الإحصاءات الوطنية"، إذا استمرت الإنتاجية في الاتجاه الذي شوهد حتى عام 2007، لأدى ذلك إلى وصولها إلى ما يزيد على 16 في المئة مما هي عليه بالفعل، وبالتالي لأدى ذلك أيضاً إلى نمو الاقتصاد بما يوصله إلى حجم يفوق حاله اليوم بحوالى 300 مليار جنيه، ما يعادل 11 ألفاً و500 جنيه لكل أسرة.
وتوضيحاً، ثمة عدد من العوامل المتنافسة في هذا المجال، وقد يرجع الأمر إلى التكنولوجيا التي تلغي الوظائف ذات الأجور الجيدة، وترغم الناس على العمل بأجور أقل، وكذلك فلربما تأتت الأزمة من إحجام أصحاب العمل عن الاستغناء عن العاملين في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي ابتدأت في 2008، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية مع تباطؤ الناتج، وقد يندرج ضمن تلك العوامل المستوى المتدني في الاستثمار بعد تلك الأزمة المالية العالمية، أو تردد المصارف في إقراض الشركات الجديدة.
ومن حسن الحظ أن "مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية" موّل إنشاء "معهد الإنتاجية" بهدف التحقيق في هذه الأحجية، ويُعد حل تلك الأحجية أمراً أساسياً، ويصح ذلك أكثر الآن مع تأثير فيروس كورونا في النمو بشدة. وسيترك الفشل في فعل ذلك [التوصل إلى حل لتلك الأحجية] تأثيراته في الأجيال المستقبلية، فيوقعها في فخ الرواتب المنخفضة مع ارتفاع الأسعار والمعدلات.
© The Independent