يبدو أن إسبانيا تتجه نحو مزيد من التهدئة في علاقتها مع المغرب التي شهدت توتراً خلال الفترة الأخيرة، إذ أعلنت وزيرة الخارجية الإسبانية أرانشا غونزاليس لايا استعداد بلادها "للنظر في أي حل يطرحه المغرب على طاولة المفاوضات" بخصوص قضية الصحراء، مشيرة إلى أن مدريد كانت دائماً حذرة للغاية في التعاطي مع هذا الملف". وقالت، "نفهم تماماً أن لدى المغرب حساسية كبيرة تجاه هذه القضية، ويتضمن هذا الموقف المحترم عدم رغبتها التأثير في الموقف الذي قد تتخذه الولايات المتحدة".
علاقات متأزمة
تأتي تلك التصريحات بعد تأزم العلاقات المغربية - الإسبانية إثر استقبال مدريد لزعيم جبهة "بوليساريو" إبراهيم غالي قصد العلاج من الإصابة بفيروس كورونا، إذ يتنازع المغرب والجبهة على منطقة الصحراء منذ انتهاء الاستعمار الإسباني لها في عام 1975. وتطالب "بوليساريو" باعتماد مبدأ تقرير المصير، في حين يعتبر المغرب أن التفاوض في شأن قضية الصحراء يجب أن يمر فقط عبر مقترح الحكم الذاتي، في حين تتهم الرباط مدريد بدعم الجبهة.
ويعتبر محللون أن إسبانيا هي من تتحمل المسؤولية في تدهور علاقاتها بالمغرب عبر تبني مسارات لا تليق بالعلاقات الدولية، إذ يشير الباحث المغربي عصام لعروسي
أستاذ العلاقات الدولية والخبير في العلوم الأمنية وتسوية النزاعات، إلى أن "العلاقات المغربية - الإسبانية وصلت إلى مرحلة متدنية في المرحلة الأخيرة، وذلك بعد تسرع وعبثية الحكومة الإسبانية التي خلطت الأوراق وعبثت بمفهوم العلاقات الثنائية، إضافة إلى اعتمادها على الاتحاد الأوروبي من خلال مؤسساته لمهاجمة المغرب"، معتبراً أنه "في مجال إدارة النزاعات، تبدأ الأزمة أساساً من اختلاف وجهات النظر واختلاف المواقع وتناقض المصالح، وهذا ما تبيّن من خلال معارضة الحكومة الإسبانية لمصالح المغرب الحساسة، خصوصاً في ما عُرف بملف ابراهيم غالي ودخوله إسبانيا بأوراق مزورة وبدعم من الجزائر".
وخلص الباحث المغربي إلى أنه "بهذه الطريقة وبهذه التجاوزات، فإن الحكومة الإسبانية أسهمت في تأزيم العلاقات، وبخاصة أن الاتحاد الأوروبي أصبح ملزماً بالتدخل بعد أزمة المهاجرين غير الشرعيين المتسللين عبر الحدود مع مدينة سبتة الخاضعة للسيادة الإسبانية. وأدى ذلك إلى إقصاء المغرب لإسبانيا من "عملية مرحبا" (عودة الجالية المغربية بالخارج) التي كانت تدر ملايين اليوروهات (أكثر من 500 مليون يورو) على الحكومة الإسبانية"، مشيراً أن "المغرب تعامل في هذه الأزمة بمنطق رد الصاع صاعين، إثر محاولة الطرف الإسباني بعقليته الاستعمارية القديمة، الضغط على المغرب وجعله يخضع لكل معادلة غير سليمة، باعتبار أنه في الوقت الذي يتعارض فيه الموقف الإسباني مع الموقف المغربي من قضية الصحراء، تريد إسبانيا جني مكاسب أخرى عبر إبقاء المغرب يعمل كدركي لها وللاتحاد الأوروبي، بغية حماية الحدود الجنوبية".
واعتبر لعروسي أن "هذا أمر أصبح غير محتمل وغير مقبول من طرف الديبلوماسية المغربية التي لوحت بأوراق ضغط عدة، منها إنهاء العمل باتفاق الغاز بين المغرب وإسبانيا والجزائر، إضافة إلى اعتمادها على الموقف الأميركي في قضية الصحراء المغربية، وأيضاً المقاربة الواقعية للمغرب في تعاملها مع الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة، باعتبار منطقة الصحراء المغربية بمثابة منصة لإطلاق مشاريع اقتصادية ضخمة، وأيضاً لمراقبة الحدود الجنوبية لمنطقة الساحل جنوب الصحراء، وما تكتنفه من تهديدات إرهابية. وأكثر من ذلك تتهافت دول عدة مثل إسبانيا وألمانيا على ما تختزنه منطقة التروبيك الواقعة في منطقة الصحراء من معادن التيليريوم والكوبالت والنيكل والليثيوم".
في سياق متصل، أشار الباحث الأمني المغربي محمد الطيار إلى "وجود إسبانيا في موقف ضعف، من خلال مؤشرات من بينها اعتراف وزيرة الخارجية الإسبانية بالموقف الأميركي من قضية الصحراء، وفشل رئيس وزراء بلادها بيدرو سانشيز من انتزاع لقاء خاص مع الرئيس الأميركي جو بايدن، الأمر الذي يجعل تصريح الوزيرة الإسبانية مجرد مناورة إثر فشلها في جرّ أوروبا إلى جانبها، إضافة إلى فشلها في تحويل الأنظار عن المشكلة الأساس المتمثلة في استقبال زعيم بوليساريو بهوية مزورة، وتهريبه من العدالة بعد ذلك، ومشكلة الهجرة غير النظامية".
وكانت صحيفة "إسبانيول" الإسبانية أشارت إلى أن المغرب يتهم إسبانيا بتسهيل هرب زعيم جبهة "بوليساريو" من أراضيها، وأنه يستعد للرد المناسب على خطوة جارته الشمالية، الذي قد يشمل طرد سفيرها في الرباط. وأوضحت الصحيفة أنه "كان يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار تصنيف المغرب لجبهة "بوليساريو" جماعة إرهابية، وأن زعيمها يُعتبر جلاداً ومجرماً، وبالتالي تستنتج الرباط من خلال استضافة إسبانيا لإبراهيم غالي أن مدريد تمنح الأولوية للعلاقات الثنائية مع الجزائر والانفصاليين الصحراويين على حساب علاقاتها التاريخية مع المغرب".
لا تهدئة في الأفق
من جانب آخر، ذهب محللون باتجاه استحالة تسوية الخلافات بين المغرب وإسبانيا في الوقت الحالي نظراً لاعتبارات عدة، إذ استبعد الباحث السياسي المغربي بلال التليدي أن تشهد تلك العلاقات تسوية في الوقت الحالي، معتبراً أن "المغرب أقفل حتى الآن باب التواصل الدبلوماسي المباشر مع جارته الأوربية، وفي المقابل فإن إسبانيا مستمرة في استثمار ملف الهجرة وجرّ الاتحاد الأوروبي إلى أزمة مع المغرب، عبر استصدار قرار يدين الرباط على خلفية اتهامها باستثمار ورقة القاصرين". وأكد التليدي أن "المغرب لم يتخذ حتى الآن أي قرار حاسم ضد إسبانيا، ماعدا تجميد التواصل الدبلوماسي، إلا أنه لم يقطع العلاقات الدبلوماسية ولم يعلق التعاون الأمني مع مدريد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت الباحث السياسي المغربي إلى أن "واقع الحال يؤكد أن مساحة التنسيق بين البلدين ضاقت إلى أبعد حدود، على الرغم من المحاولات التي تبذلها إسبانيا في خط مواز للتصعيد في البرلمان الأوروبي وحلحلة الوضع وإنهاء التصعيد، فقد سربت بعض الصحف الإسبانية معطيات تتعلق بإبعاد وزيرة الخارجية أرانشا غونزاليس لايا عن تدبير الأزمة مع المغرب، وتحدثت عن تعديل حكومي واسع مرتقب في إسبانيا"، مشيراً إلى أن "الأسابيع الأخيرة شهدت تطورات مهمة تؤشر إلى تحرك مختلف للمغرب، فلم يتم الاكتفاء بقرار إرجاع القاصرين المغاربة غير المرفوقين من كل دول أوروبا، الذي قصد به المغرب إبطال مفعول الورقة التي تحاول إسبانيا استثمارها داخل البرلمان الأوربي لجر أوروبا إلى جانبها في صراعها مع المغرب، إذ اعتمدت الرباط توجهات أخرى، منها استبعاد إسبانيا من مناورات الأسد الأفريقي المشتركة مع الولايات المتحدة التي شهدت جزءاً منها منطقة الصحراء، إضافة إلى توطيد العلاقات مع بعض بلدان أوروبا الشرقية للجواب على أية تحديات مستقبلية تهم علاقتها بدول أوروبا الغربية".
سيناريوهات
وفي وقت لا تتضح فيه مآلات أزمة العلاقات المغربية - الإسبانية، لفت أستاذ العلاقات الدولية المغربي تاج الدين الحسيني إلى "وجود ثلاثة سيناريوهات محتملة، أبرزها انقشاع الأزمة استناداً إلى السوابق التاريخية التي انتهت دائماً بالتسويات السريعة"، مشيراً إلى "وجود وساطات مهمة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، أبرزها تلك الفرنسية، إضافة إلى أن الولايات المتحدة تأخذ الأمر بجدية. أما السيناريو الثاني فهو القطيعة، باعتبار أن المغرب لا يمكن أن يكون المتضرر الأساس، إلا أنه سيلحقه بعض الضرر، ولكن الرباط اختارت منذ عام 2016 ألا تضع كل بيضها في سلة واحدة، وأن تنوع المعاملات بشكل كبير"، مؤكداً أنه "إذا حدث ما حدث وأصبحت القطيعة مفروضة، فالمغرب يملك مخارج يمكن أن يمر منها نحو مستقبل أفضل". ولفت الحسيني إلى أن "السيناريو الثالث هو الاحتفاظ بالوضع القائم"، معتبراً أن "هذا الوضع يمكن أن يفسر بتأويلات عدة، من بينها أن المغرب أخذ على نفسه التزاماً بأن النزاعات السياسية لا يمكن أن تتطور إلى نزاعات ذات طبيعة اقتصادية، وأن الفاعلين الاقتصاديين يشعرون بالحماية في المغرب ويمارسون نشاطهم بكل ارتياح".
وذكّر الحسيني بأنها "ليست الأزمة الوحيدة في مجال العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا، بل شهدت تلك العلاقات أزمات كادت تقود الطرفين مباشرة إلى الحرب، كما هو الشأن بالنسبة لأزمة جزيرة المعدنوس (ليلى)، حين تدخل وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، كولين باول، لوقف احتمال المواجهة العسكرية بين الرباط ومدريد".
سوء فهم تاريخي
في السياق، أشار المؤرخ المغربي حسن أوريد إلى وجود "سوء فهم تاريخي لا يزال يجثم بظلاله على العلاقات بين المغرب وإسبانيا، وأن الإسبان ينظرون إلى المغرب كفاعل أثّر في تاريخهم، منذ الأندلس المسلمة وإلى غاية القرن الـ 20 عبر محطات عدة كانت لها تداعيات كبيرة على إسبانيا". وأوضح الكاتب المغربي أنه "كان يُفترض تجاوز هذا الإرث التاريخي خلال ما شهدته إسبانيا من تحولات بعد وفاة الجنرال فرانكو، وتبني دستور عام 1978، لكن العلاقات بين البلدين لم تكن دائماً تعرف رخاء، بل شهدت أزمات بشكل دائم".
وخلص أوريد إلى أن "إسبانيا ترغب في أن تكون جسراً بين الشرق والغرب، وتنادي بتحالف الحضارات، وهي تدرك أن الأمر يمر عبر المغرب، مثلما أن المغرب يريد أن يكون جزءاً من العالم المتطور ويدرك أن المسار يمر عبر إسبانيا".
وفي حديثه عن بعض المحطات المزعجة في العلاقات بين البلدين، أشار أوريد إلى "الرؤية التي صاغها مارسيلينو أوريخا الذي كان وزير الخارجية الإسبانية عقب دستور 1978، والذي نصح بابقاء المغرب دوماً منشغلاً، إذ إن الوزير كان يعتبر المغرب مصدر إزعاج"، مشيراً إلى "المحطات التي عرفتها العلاقات الثنائية في غضون الـ 20 سنة الماضية، ومنها صراع ملف الصيد البحري وموقف إسبانيا المتذبذب من المقترح المغربي الخاص بمنح منطقة الصحراء الحكم الذاتي، إذ لم تبد حماسة بعكس فرنسا وأميركا، كما أن إسبانيا انخرطت في محاولة التأثير في الولايات المتحدة وأوروبا بعد الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، قبل أن تستقبل زعيم "بوليساريو" إبراهيم غالي، ومن دون إخبار أو تشاور مع المغرب، وهي النقطة التي أفاضت الكأس". كما اعتبر الكاتب المغربي أن "العقيدة العسكرية الإسبانية لا تزال تؤمن بأن المغرب يشكل خطورة على إسبانيا، وأن مدريد يمكن أن تخوض حرباً بسبب مدينتَي سبتة ومليلية التي تطالب الرباط باسترجاعهما".