يستأنف الكاتب والروائي اللبناني جبّور الدويهي (1947) بناء عالمه الروائي، على امتداد الثلاثين عاماً المنصرمة، مضيفاً رواية جديدة هي العاشرة بالترتيب "سمٌّ في الهواء" الصادرة عن دار الساقي 2021.
يقول سيّد الرواية والقصّة الأميركي ويليام جايمس (1843-1916) ما معناه "إنّ الرواية هي تلك الآلية الفريدة التي تجعل تيّار الفكر (الوعي) شفّافاً لأبصارنا، بأن يتيح لنا النفاذ إلى ما يتبدّى لكلّ منا، في صميم تجاربه وأفكاره المكتومة، شأناً متعذّراً اختزاله". ومن هذا القبيل، أعني تكوين الشخصية النموذجية، بل الشخصيات، على ما يقوله فيليب هامون، وجعلها ناطقة بما يشتهي المؤلّف وما يرسم لها من مصائر وأفعال، وحركات، ومشاعر ولادة سلوك. كما أعني، تصوّر المؤلف للزمان والمكان، ومقاربته قضايا كان سبق له تناولها، في روايات سابقة، مثل العنف والحرب الأهلية، والدوافع الطبقية الاجتماعية، والطائفية التي توجّه سلوك الشخصيات العنفية وانتماءاتها، أو تلك الشخصيات النموذجية التي يرفع الكاتب مقامها فينأى بها عن مصير الجماعات والطوائف والمنازعات، إلى صورة المثقّف الشاهد عصره، والمفكّر في مصيره الفردي الترانساندنتالي على ما يصفه كيركيغارد، هو شخصية "بطرس" من دون أن يلفظ اسمه الصريح، على امتداد الرواية، إنما من خلال التورية.
هجرات داخلية
ولكن، قبل الولوج إلى المسائل والظواهر الجديدة في رواية "سمٌّ في الهواء" لجبور الدويهي، لا بد من إيجاز الكلام على حبكة الرواية القصصية. تبدأ الرواية برسم إطار ضيّق للغاية، في ما يسمى بلغة السينما الكاميرا ذات المشهدية الضيقة، أي عائلة مؤلفة من رجل بالغ، يعمل إسكافياً، وامرأته، وولدهما الوحيد، يربى في أجواء مشحونة بالخوف من الاقتتال داخل البلدة. ونعرف أن هذه البلدة شمالية، وتتصل بمدينة طرابلس، وأن اقتتالا بين أبنائها يجبر العائلة على مغادرتها إلى بيروت (الغربية) بلغة الحرب الأهلية، وأن هذه الحرب تحملها، للمرة الثالثة، على التهجّر إلى الشرقية، والإقامة في المناطق المتجانسة (طائفياً). وفي هذه الأثناء، يكبر الفتى (لا اسم له، ولا اسم لأبيه أو لأمّه ولا لعمّته وخالته، لدواعٍ نتحدث عنها لاحقاً)، ويلتحق بالعمل الفدائي في الأردن (سراً) مأخوذاً بشعارات القومية، فيخذله ارتياب بعض القادة بحركة فتح في دوافعه، وهو الماروني، فيعود القهقرى إلى كنف عائلته.
ومن ثمّ ينال هذا الشاب (الراوي) الإجازة بالأدب الفرنسي، ويباشر التدريس في ثانويات المدينة (ابن خلدون، ثم الراعي الصالح). ويعقد صداقات مع جماعات من اليسار (التروتسكيين العرب)، وينساق معهم إلى بعض أعمال التخريب الطفيفة بحقّ الأثرياء، وذوي النفوذ في المدينة. ولكنّ الأمور تسوء، ويحدث حريق في منزل العائلة حيث كان الشاب قد وضع صندوقاً فيه ثلاث قنابل يدوية وبنادق رشاشة، فيتهدّم جزء من المنزل، ولا يعود قابلاً للسكن. عندئذ، تنتقل العائلة للإقامة في المنطقة الشرقية، وبمال سخيّ من عمّة الراوي ذات الميراث الذي جمعته من المهجر. ولمّا كان الراوي، الشاب والمعلّم، منكبّاً على القراءة ومطالعة الأدب الأجنبي والفلسفة، وكان لا يزال عازباً، عنَّ له أن يتزوّج هو الماروني، بمعلّمة الفلسفة في المدرسة، وهي شيعية. وإذ امتنعت الكنائس الكاثوليكية عن تزويجهما، بدافع اختلاف الدين، ارتأى الزواج لدى الأشوريين، فتمّ له ذلك. غير أنّ الخلاف الكبير سرعان ما نشأ بين الزوجين حول أمور تفصيلية، لها صلة بالفنون، والألوان، والانتماء الريفي، إلى أن اكتشف الراوي خيانة زوجته له، فقرر معاقبتها، فضربها وكسر لها يدها، فترتّب على ذلك حبسه سنتين ونيفاً، حدث الطلاق بينهما خلالهما. وفي ختام الرواية، نلمح الراوي وقد انعزل في إحدى القرى المطلّة على البحر، وحيداً إلا من كتبه، واليمامات، ومنظر مدينة بيروت المحترقة والمتفجرة، في 4 أغسطس (آب) عام 2020، يختتم الرواية.
البطل السلبي
ولكن ما السرّ في شخصية الراوي، بل البطل الناجي من الحروب (العشائرية الأولى، وحرب العصابات الشللية، والطائفية الأهلية الكبرى لعام 1975، وارتداداتها الاجتماعية)؟ للإجابة المحتملة أقول: لئن كان ثمة سمات مشتركة للبطل السّلبي والضحية، عبر العديد من روايات جبور الدويهي (من مثل اعتباره مثقّفاً، ومحبّاً للفنون، وضحية لهذا الحب، كما في رواية "ملك الهند") فإن شخصية الراوي المحورية، في رواية "سمٌّ في الهواء"، والمجرّدة من الاسم الصريح - شأن كل شخصيات الرواية التي أعود إليها، لا يني المؤلّف يمحضها العديد منَ الخصال؛ فمن الفتوة إقبالٌ على المخاطر، وتفحّص القتلى في الحرب الأهلية الصغرى داخل بلدته الشمالية غير المسمّاة، رغم كونه وحيدَ والديه، فإلى الشباب وإقدامه على مؤازرة القضية الفلسطينية والدفاع عنها وقد بلغ التاسعة عشرة، بانضمامه إلى المقاومة في الأردن، وعودته مخيّباً بسبب إساءة النظرة إلى دوافعه - من قبل حركة فتح - باعتباره مارونياً. ومن ثمّ انضواؤه في صفوف تنظيم "التروتسكيين العرب" ذي الخطاب السياسي المستلّ من معاجم الفلسفة المثالية الهيغلية والماركسية.
ولما بلغ مرحلة النضج، وبات مدرّساً للغة الفرنسية وآدابها في الثانويات الرسمية والخاصة (ابن خلدون، ثم الراعي الصالح) قرنَ إيمانه بالوحدة الوطنية بالممارسة، فارتضى الزواج من زميلته الشيعية في إحدى الكنائس الأشورية. وفي آخر مطافه، استقال من التعليم وانصرف إلى القراءة والكتابة، مطلِّقاً زوجته بعد خيانتها، ومكباً على القراءة والكتابة، ومتأملاً في الطبيعة البشرية الحاملة بذور الشرّ، وفي المجتمع اللبناني الحامل "سُمّ" الطائفية والحروب الأهلية في هوائه، ومستشرفاً الانفجار الرؤيوي الحاصل على مرأى منه، وهو الساكن في قرية جبلية مشرفة على المدينة.
هل يمكن القول إن الروائي جبور الدويهي اهتدى أخيراً إلى شخصية المثقّف النموذجية الكاملة الأوصاف، أي النقيض من صورة الشخصية المجرّدة من الصفات التي أرادها الروائي الكبير روبير موزيل، في روايته الشهيرة "رجل بلا مواصفات" تجسيداً للكائن المتماهي كلياً مع جماعته وجمهوره إبّان صعود الأحزاب التوتاليتارية مثل النّازية والشيوعية، في ثلاثينيات القرن العشرين؟ ربما يكون ذلك، تأكيداً لصورة الفرد والفردية الأثيرتين لدى الكاتب، واللتين يعزو إليهما تقدّم البلاد سابقاً وانحلاله حاضراً، وإن يكنْ ذلك على وقع معارضة يسارية ديمقراطية التوجّه وغربية المضمون، ومتعالية على الغالبية العظمى من أفراد الشعب، أيا يكونوا.
هوية متفردة
وفي مقابل هذه الهوية المتفرّدة والمتمرّدة والمثقّفة (لشخصية الراوي البلا اسم ما خلا تلميحاً سريعاً يرد اسمه إلى القديس بطرس) بكلّ المقاييس، يضع الروائي الدويهي جمهور القرّاء في إزاء الشخصيات المتخاذلة السلبيّة نظير شخصية والد الراوي، الشيوعيّ في شعاراته، وقليل المهابة والخبرة، والخائن زوجته، والسارق مقتنيات فنية من بيت استأجره ابنه من مال إرثه من عمّته، ليذهب بالمال إلى صاحبته المرأة المتزوّجة، والعارف زوجها بفعلتها. ثمّ إنّ عمّة الراوي التي لحقت بنزواتها، فتزوّجت برجل عجوز لتكسب منه إرثاً جديراً بالاعتبار، هي بدورها تدخل في هذه الخانة. وخالته كذلك، تلك التي لحقت برجل متزوّج إلى أن انتزعته من حضنها، ومضت معه إلى إفريقية لتلد له صبياً أسود البشرة، فتتسبب له بذبحة قلبية أودت به، وما لبثت أن تزوجت بوالده، بعيد وفاة والدته قهراً وحنيناً إلى زمن عصيّ على العودة.
ولكن ماذا يمكن الكلام على استراتيجية إغفال الاسم العلم، سواء من الأشخاص، والشخصيات الرئيسة وتلك الهامشية، نظير إغفال الكاتب أسماء الأماكن الضيّقة والتفصيلية، واكتفائه بأسماء مدينة (طرابلس) وأسماء شوارع قليلة في مدينة بيروت (مثل شارع المكحول، حيث المبنى الذي اختاره الراوي لإقامة العائلة، وأخوية قلب يسوع التي لم يتردد والده عن الانتماء إليها، رغم كونه شيوعياً على ما يدّعي، واسم الفندق بيريت- سور- مير الذي أقام فيه الراوي أيام عزوبته، وحيث التقى بألمانية وسويدية وفرنسية وغيرهنّ، ثم اسم صاحب اللوحات التي اختار الراوي أن يعلّقها في غرفة عمّته أي التيناوي)؟ ولعلّ الكاتب قصد من وراء هذا الإغفال الإيحاء بأنّ التعيينَ المقنّن الذي بحمله يستدلّ منه على ميل مضمر إلى نمذجة بل إلى ترميز يفيض عن المأمول من الصدقية، إلى الكشف عن أحد قيعان المأساة اللبنانية، وإماطة اللثام عن عديد من الحقائق. وأولاها أنّ العنف، بل الحرب الأهلية ماثلة حقاً في تضاعيف الإنسان اللبناني، وربما العربي، ولا تشكّل الدواعي أياً تكن (قبلية، وعشائرية، ثم طائفية، ومذهبية) سوى الشرارة لإطلاقها. "بقي السّلاحُ مستتِراً في جيوبِ المعاطف الواسعة، ومزيّتاً، جاهزاً خلفَ أبوابِ البيوت، لم يسقطْ قتلى ولكن كان هناكَ سُمٌّ في الهواء".
وأنّ مظاهر التقوى والإيمان يسعها أن تغطّي على أكثر المشاعر عدوانية لدى الإنسان، عنيتُ الحقد على الآخر، والرغبة في القضاء عليه وإماتته. وأنّ رؤى الكثير من الأحزاب اللبنانية (والعربية) كانت مفارقة للواقع، متعالية عليه، وأنّ أفرادها أنفسهم مصابون بلوثة الطائفية يخفونها بشعارات تقدّمية وتحريرية وغيرها. وأنّ تعيينَ أفعال الشخصيات ورسم ملامحهم وتصرّفاتهم قد تكون، بحسبه، أدلّ على طواياها وطبيعتها من انتماءاتها الأوّلية (الطائفية، والمناطقية، والحزبية، والمذهبية) التي تشير إليها الأسماء.
مسار واقعي
ليس المسرح المكاني في رواية "سمٌّ في الهواء" رمزياً وحده، والمتمثّل في هذا المسار المتعاكس، من إحدى بلدات الشمال، إلى شارع المكحول في الحمرا، فإلى ضواحي بيروت الشرقية، ثم العودة إلى فندق بيريت- سور- مير، والزواج في منطقة قريبة من ثانوية الراعي الصالح، فإلى الاستقالة، والصعود إلى إحدى القرى المطلة على مدينة بيروت آخر مطاف الراوي منطوياً على نفسه، ليس هذا المسرح سوى رمز لمسار واقعيّ لعشرات آلاف العائلات مشته، وهي تنزل إلى المدينة وتعمر اختلاطها، ثمّ انصرفت عنه إلى الجبال، تاركة وراءها نتاج النزاع والعدائية السالف الكلام عليهما، في مقابل مسار آخر، معاكس تماماً سلكته جموعٌ أخرى في ما أفرزته ملحمة التهجير المتبادلة بين طرفي الحرب الأهلية المشؤومة في لبنان، منتصف سبعينيات القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعدّ هذه الرواية الجديدة للكاتب اللبناني جبور الدويهي، "سمٌّ في الهواء" العاشرة في تعداد الروايات، وهي: اعتدال الخريف، وريّا النهر، وعين وردة، ومطر حزيران، وشريد المنازل، وطبع في بيروت، وحيّ الأميركان، وملك الهند. إلى جانب مجموعة قصصية هي: الموت بين الأهل نعاس، وقصة للأطفال بعنوان: روح الغابة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كتاباً نقدياً شاملاً عن الروائي جبور الدويهي، أصدرته الجامعة الأنطونية، بإدارة الأكاديمية باسكال لحود، عام 2020، عن الروائي جبور الدويهي، في سياق سلسلة أعلام تصدرها الجامعة، بعنوان "اسم علَم"؛ وقد ضمّ الكتاب دراسات عن الروائي جبور الدويهي من وجهات نظر أكاديمية وأدبية. تطرّق الكاتب خالد زيادة إلى دراسة "أدب جبور الدويهي أو الرواية اللبنانية المضادّة"، في حين درس الباحث ملحم شاوول "وظائف الفضاء المدني في ثلاث من روايات جبور الدويهي"، بينما تناول الناقد جورج دورليان "المنحى البوليسي في روايات الدويهي، وفي رواية (ريا النهر) نموذجاً". أما الكاتب فارس ساسين فقد نظر في "سحر الرواية وسحر الشعر". كما قدمت الناقدة وفاء أفيوني شعراني دراسة بعنوان "الراوي وشيطانه الأعرج: من المضاء إلى المعتّم في شخصيات جبّور الدويهي". بالإضافة إلى ثلاث دراسات بالفرنسية لكلّ من الكاتبة سونيا دايان هرزبرون حول "المأساة العربية"، والكاتب الفرنكوفوني شريف مجدلاني حول "الحركة والجمود في رواية (ريّا النهر)"، والناقدة هدى رزق-حنّا حول "اتّهام الروح القبلية في رواية (مطر حزيران)".