Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين الأميركي آلن بو والفرنسي ألكسندر دوما من سرق من؟

اللغز الغامض خلف أول رواية بوليسية في التاريخ

ألكسندر دوما (غيتي)

كان المشهد مدهشاً مر عليه قرن ونيف من الزمن قبل أن يعاد اكتشافه. وهو مشهد يمكن القول إنه إيطالي بكل معنى الكلمة. وليس فقط لأنه دار في إيطاليا مع أن بطله فرنسي، بل واحد من أكبر الكتاب الفرنسيين في ذلك الزمن وفي كل الأزمنة: ألكسندر دوما صاحب "الفرسان الثلاثة" و"الكونت دي مونت كريستو" بين روائع أخرى، بل لأن نكهته "المرحة" إيطالية وأكثر من هذا لأن ما كان يمليه دوما وهو يتمشى في القاعة الرئيسة لمقر مجلته التي أصدرها في إيطاليا باسم "الإندبندنتي" تحت رعاية غاريبالدي، كان يمليه بالفرنسية لتتم ترجمته فوراً إلى الإيطالية فينشر على حلقات أسبوعية في المجلة. حدث ذلك خلال ما يقرب من شهرين بين نهاية عام 1860 وبداية عام 1861. وكان المترجمان اللذان ينصتان إلى النص يمليه دوما بالفرنسية وينقلانه مباشرة إلى الإيطالية سيدة من علية القوم هي الكونتيسا كابيتشيلاترو، ومثقف كبير ثنائي اللغة هو توريللي فيولييه الذي لن يلبث أن يؤسس صحيفة "كورييرا دي سيرا" بعد حين. والحقيقة أن هذه المعلومة الأخيرة تبدو لنا ضرورية كي نعرف أن المنصتين إلى دوما حينها كانا من المثقفين الكبار، ومن هنا كانت دهشتهما، ولكن تحفظهما على أي تصريح حين راحا يكتشفان أسبوعاً بعد أسبوع أن ما يمليه صديقهما الروائي الكبير لم يكن سوى نفس الرواية التي كان إدغار آلن بو أصدرها قبل ذلك بعشرين عاماً لتعتبر الرواية البوليسية الأولى في التاريخ!

بين رواية ورواية

كانت رواية دوما تحمل عنوان "مقتلة في شارع سان - روش" فيما كانت رواية آلن بو تحمل عنوان "المقتلة المزدوجة في شارع أولم"، بيد أن الأمر لم يكن تقارباً في العناوين فقط. ففي رواية دوما كما في رواية بو، لدينا سيدتان تقتلان في غرفة محكمة الإقفال ويعثر على جثة إحداهما معلقة في المدخنة. ولدينا جريمة تبدو بالتالي كاملة ولغزاً بوليسياً في حاجة إلى حل. ولدينا محقق يأتي ليكشف لغز الجريمة. ثم لدينا اللغز نفسه وقد تطابق تماماً بين القصتين. ومن ثم لدينا النهاية ذاتها. ومن هنا طبعاً كانت دهشة المترجمين فيما يستطرد دوما في إملاء روايته مع تبديل في الأسماء يبدو في نهاية الأمر لافتاً للنظر. لكن الأدهى من هذا أن دوما يؤرخ أحداث روايته في عام 1832 سابقة أحداث رواية زميله الأميركي بنحو عشر سنوات. ثم، ويا للعجب المطلق هنا، يصل بعد الخاتمة إلى نوع من حاشية يتحدث فيها عن صديق له هو كاتب أميركي يدعى "إدغار بو" يأتي لزيارته في فرنسا عام 1932 مزوداً برسالة توصية من الكاتب جيمس فينيمور كوبر. وهنا يروي دوما، في صلب تلك الحاشية كيف أنه استقبل ذلك الكاتب الأميركي وراح يصطحبه في جولات ليلية جرى خلالها الحديث المستفيض بينهما عن تلك الجريمة المزدوجة التي وقعت في شارع سان – روش. هو يذكر هنا أن إدغار بو هو من حل لغز الجريمة التي استعصت حتى على رجال قائد الشرطة فيدوك الذي كان معروفاً أنه نزيل المعتقل لكنه بعد خروجه التحق بسلك الشرطة. وكان هذا صحيحاً تاريخياً.

العام الغامض 1832

ولكن في المقابل سيبدو أن بقية المعلومات التي يوردها دوما في هذا السياق مختلقة وروائية. وهذا ما سوف يؤكده بعد قرن ونيف الصحافي الإيطالي أودو كوادري الذي سيكتشف ذلك النص المجهول لدوما في الإيطالية وينشره في بدايات القرن الحادي والعشرين دون أن يتمكن من العثور على أصله الفرنسي ولا حتى على أي ذكر له في مخلفات وأرشيفات حضور دوما في إيطاليا. فبالنسبة إلى كوادري كان ثمة بالفعل معرفة وثيقة بين دوما وإدغار آلن بو وفينيمور كوبر، حيث إن الثلاثة كانوا أعضاء في جمعية ماسونية تعمل على حصول عدد من البلدان على استقلالها كاليونان وإيطاليا وبولندا.... لكن الواقع والوثائق تقول إن آلن بو لم يزر فرنسا في التاريخ الذي تفترضه حاشية رواية دوما. ناهيك عن أن هذا الأخير كان في العام نفسه، 1832، منهمكاً في أمور عدة، منها إصابته بوباء الكوليرا التي اجتاحت باريس وخوضه العديد من المبارزات ومحاولاته التي تكللت بالنجاح، أخيراً، لغزو فؤاد تلك التي سوف تصبح زوجته، إضافة إلى مشاركته في انتفاضة الخامس من يونيو التي اندلعت خلال جنازة الجنرال لامارك... لقد امتلأ ذلك العام كما سيرى كوادري في تحقيقه البارع بأحداث وانشغالات كانت لا تسمح للكاتب بأن يستقبل زميله الأميركي ويمضي معه في جولات ليلية هادئة تملؤها الأحاديث حول الجرائم، لا سيما منها تلك التي تتحدث عنها رواية دوما التي عبثاً بحث كوادري عن أثر لها في سجلات البوليس الفرنسي. ومن هنا استنتاجه المنطقي بأن دوما إنما ابتكر تلك الحكاية من خيالاته تماماً كما فعل إدغار آلن بو.

غياب أي مبرر

ولكن كيف حدث أن خيال دوما لم يرشده إلا إلى تلك الحكاية التي كان آلن بو قد "اخترعها" بدوره؟ هنا يكمن الجانب الأبسط من اللغز. أما الجانب الأكثر تعقيداً فيتعلق بكيف سمح دوما لنفسه بأن يكتب الحكاية من جديد وينسبها إلى إبداعه بعد عشرين عاماً من صدورها بقلم بو، وهل كان الكاتب الفرنسي الكبير الذي دبج ألوف الصفحات بل حتى سيقال إنه في نهاية الأمر سيكون واحداً من أوائل مبتكري النوع البوليسي وبشكل أكثر أهمية وحذقاً من بو في فصول عديدة من روايته الكبرى "الكونت دي مونت كريستو"، هل كان في حاجة لأن يستعير من زميله الأميركي وتحديداً أن يستعير نصاً معروفاً ومقروءاً على نطاق واسع؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل هو سكوت عن فضيحة؟

في الحقيقة أن ما من أحد يمكنه أن يحير جواباً... ناهيك عن أن عدم نشر النص في الفرنسية زاد غموض اللغز غموضاً، وكبل يدي الباحث الإيطالي الذي بعد ما اكتشف النص الإيطالي وأجرى عنه بحوثاً واستقصاءات، وجد نفسه أمام مزيد من الأسئلة التي لا يمكن العثور على إجابات لها إلا لدى صاحب الشأن نفسه. وهنا حتى الفرضيات ستبدو واهية بعد كل شيء. إضافة إلى أن السيد المترجم فيولييه حتى بعد ما أسس صحيفة "كورييري ديلا سيرا" لم يجد نفسه قادراً على، أو راغباً في توضيح الأمور هو الذي ربما كان انتهى به الأمر إلى طرح أسئلة عديدة على الروائي الكبير وكان هذا يجيبه عليها بوضوح وإقناع! وربما كان الأمر يقوم في أن دوما قد شرح لمستمعه أنه كان قد حكى الحكاية يوماً أمام إدغار آلن بو فحرفها هذا ونشرها وها هو دوماً يستعيد الآن ما هو ملكه دون أن يسعى إلى إثارة أي فضيحة...!

ثائر وتاجر أسلحة

ويبقى، أخيراً، جانب من الحكاية لا يمكن أن نختم هذا الكلام من دون أن نوضحه. فما الذي كان يفعله ألكسندر دوما في إيطاليا في ذلك الحين، ولماذا أصدر مجلة بالإيطالية، ولماذا تحت رعاية غاريبالدي؟ حسناً اللغز هنا يبدو أقل غموضاً بكثير. ففي الحقيقة أن دوما كان مشاركاً وللمرة الثالثة في حياته في ثورة حقيقية هي الثورة الإيطالية التي كان يتزعمها غاريبالدي. وكانت مهامه تشمل شراء الأسلحة للثوار مقابل بضائع من إنتاج إيطالي يتولى هو بيعها على هواه من دون أن ينقده غاريبالدي ليرة. ولقد تكاثرت تلك التبادلات في ذلك الحين إلى درجة أن الكاتب أقام في باليرمو بصقلية وافتتح مؤسسة إعلامية ليصدر فيها مجلة "الإندبندنتي" (المستقلة)، على اسم الشعار الأساسي للثورة الغاريبالدية، وراح ينشر فيها المقالات السياسية والقصص المسلسلة وما إلى ذلك من نصوص كانت إما تترجم من تراثه المعروف أو مباشرة من نصوص يبتكرها في حينه ويصار إلى ترجمتها فوراً ونشرها. ومن الواضح أن "مقتلة شارع سان – روك" تنضوي بأسرارها في هذا السياق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة