قصص اكتشاف الأماكن الجديدة كثيراً ما تثير الدهشة والتساؤل حول مدى ضخامة عالمنا وعمقه، وكثرة المواقع التي لا نزال نجهل وجودها، ويعود عمر بعضها إلى آلاف السنين.
وصدفة الاكتشاف تتكرر اليوم على سواحل البحر الأبيض المتوسط، هذه المرة حين لفتت حراشف سمكة نادرة أنظار الغطاسين السوريين في رحلة استكشاف بين أمواج البحر العاتية، بالقرب من جرف صخري في قرية السمرة الساحلية سعياً لمعرفة تضاريس المكان واكتشاف خفاياه، ووصف المكتشفون المكان البحري بـ"الكاريبي السوري".
يومها، تخطّت متعة هواية الغوص في أعماق المياه الدافئة في يوم حار، إلى بدء مهمة اكتشاف غير مسبوق لكهف بحري على الشواطئ السورية يُعدّ الأول من نوعه، عبر مغامرة بين هواة الحياة المائية من غطاسين، وسمكة كانت سبباً مباشراً بهذا الكشف.
المغامرة في أعماق الجوف المظلم
بدأت قصة الكهف المائي المُسمّى "تسوغي بيران" حين ولج أعضاء الفريق وأثناء جولة استكشافية بحرية لهم كالمعتاد، خليج شط الأرمن ببلدة السمرة في 26 يونيو (حزيران) الماضي، مستغلين حركة الموج الهادئة وصفاء مياه الخليج.
في ذلك الوقت تفاجأ الفريق المؤلف من تسعة أفراد بوجود فجوة في صدع صخري يكاد يلامس سطح الماء أخفته أمواج البحر. يروي أعضاء فريق الجمعية "دفعنا الفضول إلى الدخول وكانت النتيجة أن الفجوة أخفت وراءها كهفاً دهليزياً ملتوياً ضيقاً داخل صدر الجرف الصخري".
في هذه الأثناء، كان الغواصون مجبرين على النزول لمسافة خمسة أمتار تحت سطح الماء، وتارة العوم ليكملوا طريقهم، يدفعهم الفضول إلى الاتجاه نحو المسلك لمعرفة نهايته.
ظل استطلاع المكان لمسافة تزيد على 30 متراً وبدهليز ضيق لا يتجاوز عرضه مترين، ضمن طريق غير واضح المعالم بسبب الظلام الدامس تجاوز الـ 80 في المئة، بعدها وصل الفريق إلى موقع انكشفت فيه الرؤية بوجود فتحة صغيرة.
على أمل العودة
ويلفت رئيس مجلس إدارة الجمعية السورية للاستكشاف والتوثيق محمود الكفري، إلى أنه مع الوصول إلى هذه النقطة يكون الفريق ابتعد عن المدخل الرئيس، وبات الوضع خطيراً لعامل ضيق المكان وضغط حركة الأمواج في منطقة يميل بها الممر بزاوية 90 درجة، وتتكثف فيها الأمواج البسيطة، "ما أجبر الفريق على الالتفاف والخروج على أمل العودة في مرات مقبلة بعد تحضير المعدات اللازمة".
ولطالما كان المستكشفون يأملون فك ألغاز هذا الجرف، مع رغبة بكشف خفاياه إلى أن حصل ذلك بعد متابعة سمكة نادرة "الجرنارد" المجنحة ذات اللون الأحمر، ما دفعهم إلى اللحاق بها، فدخلت فجوة وكذلك فعل الغطاسون.
ويجزم الكفري بعدم وجود وثائق لكهوف غارقة على الشواطئ السورية، "هذا النوع من الاكتشاف يحتّم تموضع كتل صخرية على الشاطئ، ومن الممكن في المستقبل الوصول إلى اكتشافات مشابهة، وبالتأكيد لا يوجد كهف غارق نصل إلى داخله سباحة، وهذا ما يكسب الاكتشاف أهميته".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السياحة المائية
ومع هذا الاكتشاف، يتوقع خبراء محليون ازدهار السياحة المائية، لا سيما هواة البحر والغطس، خصوصاً أن الكهف المائي يقع قبالة قرية السمرة الساحلية الشهيرة، التي ارتبط اسمها باسم المسلسل الكوميدي السوري "ضيعة ضايعة"، إذ دارت وقتها كاميرا التصوير في أرجاء أجمل المشاهد الطبيعية في تناغم وانسجام بين الجبل والبحر، وحظيت بإقبال سياحي واسع ومنقطع النظير قبل اندلاع الحرب.
وتشي المعلومات الأولية التي وصل إليها الفريق الكشفي والجيولوجي إلى أن الكهف الغارق أخفته الأمواج لزمن بعيد جداً، ومن المرجح في معطيات أولية أنه منحوت بعاملَي الموج والتآكل الميكانيكي كون الطبيعة المحيطة صخرية كلسية بحسب التشكيلات الطبيعية للموقع.
دراسة المكان النادر
ومع الاكتشاف الجديد واستكمال الغوص لنهايته في المرحلة الثانية للفريق، ستزور مجموعة من الجيولوجيين المتخصصين من تجمع الجيولوجيين السوريين، وهو فريق تطوعي أطلق موقعاً إلكترونياً ويضم أكاديميين ومهتمين، المكان للاطلاع عليه أكثر ودراسته.
وأكد عضو تجمع الجيولوجيين السوريين بشار الصالح، التحضير حالياً وبالتعاون مع المؤسسة العامة للجيولوجيا والجهات التطوعية التخصصية، لزيارة الكهف وتقدير العمق وارتفاعه ومساحته وعمره الزمني.
وأضاف في معرض حديثه "عادة ما تتشكل هذه الكهوف بوجود كتل صخرية جبلية بمحاذاة الشاطئ، وهذه الصخور مائلة بزاوية نحو البحر، وهي من الصخور الكلسية سهلة التفتت والذوبان بالماء، وهذا ما توافر في الكهف المكتشف".
كما يرى الصالح أهمية سياحية عالية لذلك، إذ يُعدّ مصدر جذب لمحبي الاستكشاف وهواة الحياة المائية أيضاً، و"يمكن رؤية أشكال مميزة للصخور والأنواع الحية والتمتع بالغطس".
وتُعتبر الكهوف البحرية الشهيرة في العالم قليلة جداً، ولعل أبرزها كما يعدّدها عضو تجمع الجيولوجيين "أسد البحر" في الولايات المتحدة الأميركية، "سمو دورنس" في اسكتلندا، "شاطئ بيناجيل" في البرتغال، والكهف الأجمل "كويفاس دي مارمول" في تشيلي. وتشكّل هذا الكهف من الرخام والمميز فيه أنه يتغير لونه بحسب مستوى الماء وفصول العام، وتظهر فيه الجدران زرقاء والمياه زهرية.
محمية مائية
ويعجّ المكان المكتشف بمحمية بحرية تضم أصناف حيوانات نادرة في تناغم بين الموقع الخلاب ومياه البحر الصافية، الأمر الذي دفع أعضاء الفريق الكشفي إلى توثيق أحياء مائية من أسماك وكلماري مع وجود المرجان.
وفي مسعى للحصول على مزيد من الاستكشافات، أكدت الجمعية بكوادرها الإصرار على المتابعة والاستمرار بالبحث إلى نهاية الكهف، في محاولة لاكتشاف المزيد من أسرار الحياة المائية بعد توفير المعدات المناسبة وتدريب الكوادر على يد متخصصين واستكمال ما بدأوا به بأسرع وقت. في حين تدلّ جميع المعطيات على وجود امتداد لعمق المغارة لن يتوانى المغامرون عن فك لغزها في قادم الأيام.