يظهر القارب الصغير أخيراً تحت ضوء القمر، وهو يتمايل بصورة خطرة في عرض البحر الأسود. كان ركابه قد انطلقوا من ساحل بحر إيجة التركي متجهين إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، وكانوا من مئات الآلاف من المهاجرين من جميع أنحاء آسيا وأفريقيا الذين يتجمعون في تركيا على أمل الوصول إلى أوروبا.
لكن بعد فترة وجيزة من رحلتهم، واجهتهم مشكلة. استخدم أحد الركاب هاتفاً محمولاً للاتصال برقم طوارئ دولي. وصلت نداءات الاستغاثة من قبل الركاب إلى إحدى دوريات السواحل التركية، التي انطلقت في مهمة إنقاذ، في عملية أصبحت خلال السنوات الأخيرة ممارسة مألوفة وخطيرة للغاية في البحار المتقلبة.
أحياناً، تواجه القوارب المليئة بالمهاجرين مشكلات في المحركات. لكن في كثير من الأحيان، يتعرضون للتخريب المتعمد من قبل المهربين الذين يحاولون استخدام قارب معطل لإبعاد السلطات عن القوارب الأخرى. وفي أحيان أخرى، يتعرضون للتهديد من قبل سفن خفر السواحل اليونانية، التي تلحق أضراراً بالقوارب وتعيدهم نحو الساحل التركي.
يقول الرائد سعدون أوزدمير ، قائد مجموعة شمال بحر إيجه التابعة لخفر السواحل التركي، مع بدء إحدى مهمات الإنقاذ، "يمكن أن يكون ذلك (نداء الاستغاثة) بسبب اعتراضهم أو بسبب مشكلة ميكانيكية. وهذا لم يعد يكتسي أي أهمية الآن".
كانت عمليات العبور في بحر إيجه مستمرة منذ سنوات، بخاصة على طول هذا الشريط الساحلي الذي تنتشر فيه عشرات نقاط الانطلاق المحتملة. ولقد سعت السلطات التركية إلى تسليط الضوء على عمليات الاعتراض للمهاجرين التي تقوم بها اليونان، والتي انتقدتها جماعات حقوق الإنسان وحتى الاتحاد الأوروبي، باعتبارها قاسية وربما انتهاكاً للقانون الدولي، كوسيلة لتشويه سمعة خصم قديم.
لكن تُظهر مهمة الإنقاذ مع خفر السواحل لعبة ثلاثية محفوفة بالمخاطر ومربكة بين اليونانيين والأتراك والمهاجرين على مقربة من بعضهم بعضاً في البحر وفي جوف الليل.
كانت قد مضت ساعات الصباح الأولى (أي بعد منتصف الليل) عندما انطلقت سفينة خفر السواحل التركية مصحوبة بمجموعة صغيرة من الصحافيين الدوليين، بمن فيهم مراسل "اندبندنت"، من ميناء جزيرة كوندا التركية إلى القارب المنكوب. كان القمر مكتملاً، ومياه البحر تتلألأ في ليلة صافية.
أبحرت سفينة خفر السواحل من نوع "كان-19" بسلاسة خارج الميناء، ثم دوّى هدير محركيْها اللذيْن تبلغ قوتهما 1500 حصان، واتجهت بكامل سرعتها إلى خليج كاندارلي، غرب جزيرة تافسا أو جزيرة الأرنب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان البحر هادئاً والليل منعشاً وبارداً – وهو موسم مثالي لمحاولة العبور. ففي هذا الوقت من العام، ينفذ خفر السواحل التركي ما لا يقل عن خمس أو ست عمليات إنقاذ أسبوعياً.
يشرح الرائد أوزدمير أن سفينة خفر سواحل أخرى وصلت هناك في وقت سابق، وهي تراقب القارب، لكن الإنقاذ لن يبدأ حتى وصول القارب مع الصحافيين.
ومع اقتراب السفينة من الموقع التقريبي للمهاجرين، برزت سفينة خفر السواحل اليونانية من الظلام، على بعد بضع مئات الأمتار، في المياه الإقليمية اليونانية على ما يبدو. فجأة، ضرب طوفان من الضوء الساطع على سفينة "كان-19". لقد سلط القارب اليوناني الأضواء الكاشفة على السفينة التركية، في ما بدا أنه كان تهديداً.
يقول أوزدمير إنه يجد مثل هذا السلوك شائناً، وانتهاكاً لقواعد سلوك الملاحين وانحرافاً عما يعنيه أن تكون عضواً في أي فريق خفر سواحل. وأضاف قائلاً "إنهم لم يأتوا من أجل الإنقاذ أو المساعدة، إنهم هناك لاعتراض المهاجرين".
إنها لعبة خطرة. على الرغم من أن شريكيْ الناتو يتفاعلان على مستوى القيادة، إلا أنه لا يوجد تواصل مباشر بين سفنهما في البحر. وإذا اكتشف الأتراك سفينة عالقة على الجانب اليوناني من المياه، فربما يتصلون بنظرائهم على القناة 16، وهي القناة المخصصة للاتصالات حول الهجرة غير النظامية.
بدت فرصة وقوع حادث أو تصادم بين خفر السواحل التركية واليونانية عالية. في عام 2018، تحول تصادم بين سفن البحرية اليونانية والتركية إلى حادث دولي، تمت تسويته في النهاية من قبل وزيري خارجية البلدين.
في أبريل (نيسان)، اتُهمت تركيا بمحاولة رطم زورقين تابعيْن لدورية أوروبية مشاركة في عملية مراقبة على الحدود. وكتب كوستاس مافريدس، العضو القبرصي اليوناني في البرلمان الأوروبي، قائلاً "في كلتا الحالتين، تم تجنب الاصطدام بصعوبة في اللحظة الأخيرة".
في الشهر الماضي فقط، زعمت السلطات اليونانية أن سفينة تابعة لخفر السواحل التركي شرق جزيرة ليسبوس، تسببت في أضرار طفيفة لإحدى سفنها.
لكن اليونان تعرضت أيضاً لانتقادات بسبب سلوكها المتهور، حيث اتُهمت مراراً بأخذ المهاجرين الذين عبروا إلى مياهها الإقليمية، ووضعهم في عوامات مطاطية وسحبهم إلى عرض البحر ثم تركهم هناك، إما للموت أو لإنقاذهم من قبل خفر السواحل التركي.
في بعض الحالات، يُزعم أن اليونان أعادت حتى المهاجرين الذين تمكنوا من الوصول إلى اليابسة. وفي هذا الصدد، كتبت دنيا مياتوفيتش، مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، في رسالة موجهة إلى سلطات أثينا في مايو (أيار) قائلة "أشعر بقلق خاص إزاء الزيادة في الحالات المبلغ عنها، التي قام فيها الضباط اليونانيون بوضع المهاجرين الذين وصلوا إلى جزر شرق بحر إيجة من تركيا عن طريق القوارب، الذين تم تسجيلهم في بعض الأحيان كطالبي لجوء، في عوامات إنقاذ وتمت إعادتهم إلى المياه التركية".
تصر أثينا على أن تركيا تسهل تدفق المهاجرين، واتهمت خفر السواحل التركي بتوجيه القوارب إلى المياه اليونانية، وهو ادعاء تنفيه أنقرة بشدة.
يقول الرائد أوزديمير إن حوالى 70 في المئة من قوارب المهاجرين التي يُقابلونها هي تلك التي تصدها اليونان. ولقد أوضح خفر السواحل التركي، أنه أنقذ 6956 على الأقل في الأشهر الستة الأولى من عام 2021، مقارنة مع 11728، خلال نفس الفترة من العام الماضي، لكنه يتوقع أن ترتفع الأرقام خلال أشهر الصيف حيث يؤدي تخفيف قيود فيروس كورونا إلى مزيد من السفر.
لكن يشكل تحديد موقع قوارب المهاجرين تحدياً لخفر السواحل. وعلى الرغم من توفر سفينة "كان-19" على أحدث تقنيات المراقبة والكشف، إلا أنها غير مجدية لرصد القوارب التي يستخدمها المهاجرون على مسافة بعيدة.
يقول الرائد أوزدمير "من المستحيل اكتشافهم من نقطة تبعد أكثر من ميل واحد. إذا كانت هناك عملية عبور على بعد خمسة أميال إلى الشمال أو الجنوب منك فلن تظهر لك على الرادار".
وأوضح أنه من أجل الكشف عن جميع عمليات العبور على طول الساحل الذي يسهل اختراقه، يجب وضع قارب لخفر السواحل عند كل ميلين بحريين.
يظهر القارب المنكوب المليء بالمهاجرين أخيراً، أولاً كنقطة على بعد مسافة، ثم ينمو بشكل أكبر. تبطئ سفينة "كان-19"، ويرتدي رجال الإنقاذ ملابس جراحية كإجراء وقائي من "كوفيد-19". بعد ذلك تأتي الخطوة الأكثر خطورة.
تثير الأمواج اضطراب حتى مياه البحر الساكنة نسبياً. ويمكن لسفينة"كان-19" التي يبلغ طولها 22.5 متر، ووزنها 30 طناً أن ترتطم بسهولة وتقلب الزورق المطاطي الهش الذي يقترب منها. في هذه الأثناء، يلقي خفر السواحل الحبل للمهاجرين ويطلب منهم التمسك به.
وبينما يجري سحب عوامة المهاجرين إلى مقربة سفينة "كان-19"، ينتشر الذعر بين المهاجرين وهم يحاولون الصعود على متنها. يقول لهم أحد الضباط "واحداً واحداً،" لكن لا أحد يعلم تماماً من أين أتوا أو أي لغة يتحدثون بها.
يكافحون للصعود إلى المركب، ويتسلقون السلم، ثم يشقون طريقهم إلى سطح سفينة "كان-19".
ينحدر جميعهم من الصومال، وهم تسعة رجال وامرأة تدعى أدوما ويبدو أنها في مرحلة متأخرة من الحمل. يشرح محمد أحمد حسن بلغة عربية ركيكة أنه سافر إلى تركيا من مقديشو قبل عامين، وعاش في منطقة أنقرة لمدة عامين، وحاول توفير المال للمهربين لإيصاله إلى أوروبا. وقال راكب آخر، إنه أمضى عاماً في قطف التفاح قبل أن يقامر بمدخراته في رحلة العبور هذه.
استقلوا قارب العبور من شاطئ مهجور وانطلقوا نحو المجهول بعد تلقي بعض الإرشادات الأساسية للإبحار من المهربين، ودفع كل منهم لهؤلاء 250 دولاراً أميركياً.
في هذا الصدد، يقول يوسف، وهو أحد المهاجرين، "لقد أتى بنا أحدهم إلى هنا وأعطانا القارب وقال لنا انطلقوا".
كانت الرحلة تسير بسلاسة، ولكن في مرحلة ما توقف المحرك، وبدأ الماء يتسرب إلى داخل العوامة القابلة للنفخ.
يقول حسن "كنا في القارب لمدة ثلاث ساعات عندما اشتعلت النيران في المحرك. كانت تفقد الهواء".
بعد العودة إلى اليابسة، نُقل المهاجرون إلى مرفق تابع لوزارة الداخلية، حيث قُدمت لهم ملابس نظيفة وماء وشيء من الأكل.
كان كثير منهم قد تخلصوا من أوراق هوياتهم، ما يزيد من تعقيد ترحيلهم إلى بلدانهم. ويقول الرائد أوزديمير، إن كل مهاجر يخضع لإجراءات تحديد بيومتري [استدلال بيولوجي] لهويته. في عام 2020، استقبلت تركيا 454 ألف مهاجر غير نظامي، سواء عبر البحر أو عبر البر، على طول حدودها المختلفة.
يتحدث المترجم الوحيد من منظمة الهجرة الدولية اللغة الدارية أو الفارسية، ما يجعل من الصعب التواصل معهم. لكن من خلال مزيج من اللغات واللهجات، يخبر شخص ما المهاجرين، بأنه سعيد لكونهم الآن في أمان.
أجاب أحد المهاجرين، وهو يتحدث الإنجليزية قائلاً "أنا سعيد لأنكم أنقدتمونا".
أسهم برهان يوكسكاس في إعداد هذا التقرير.
© The Independent