حين شارك الرسام الفرنسي الراحل قبل ثلاث سنوات من الآن جاك مونوري، في ذلك المعرض العالمي والفريد من نوعه الذي أقيم في العاصمة اللبنانية في ربيع عام 1978 تحت شعار "المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين"، ربما كان واحداً من المشاركين الأقل شهرة الذين أتوا يومها بلوحاتهم من عدد كبير من بلدان العالم معربين عن رغبة الفن الجماعية في رفد القضية الفلسطينية بأبعاد فنية كانت تستحقها. بالكاد كان العالم قد سمع باسم مونوري أو شاهد إنتاجه الفني يومها، ومع ذلك من المؤكد أن مشاركته لفتت الأنظار بشكل استثنائي وأثار فنه من الفضول ما جعله على الفور واحداً من نجوم المعرض على الرغم من ازدحام هذا بقامات فنية راسخة أتت من فرنسا خصوصاً وإيطاليا وإسبانيا وأميركا اللاتينية واليابان وعدد من بلدان أوروبا الشرقية.
أسماء كبيرة في بيروت
في اختصار كان ثمة في بيروت يومها احتفال فني ينطلق من العالم كله ليصب في فلسطين ويجمع أسماء كان يمكن بالكاد لأحد أن يجمعها، ولوحات يعصى تجميعها على أي مؤسسة في العالم. وقد نفتح هلالين هنا لنتساءل: أين صارت تلك اللوحات وكيف اختفت؟ بيد أن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو جاك مونوري الذي ربما أحس دائماً أن انطلاقته العالمية بدأت يومذاك في مدينتنا وهو ما لم يسهُ أبداً عن قوله حتى بعد ما صار له من الشهرة ما تجاوز كل أبناء جيله، لا سيما مجايليه وزميليه، إذ ربط المؤرخون والنقاد اسمه باسميهما: الإسباني آرويو والفنلندي إرو ليصنف الثلاثة في خانة تيار جديد سمي يومها تيار "التصويرية الوصفية" من دون أن يعني هذا الاسم شيئاً لأحد على أي حال، ومن دون أن يتنبه كثر إلى أن جذور هذا التيار تعود إلى الإيطالي غوتوزو، وأن كثراً ومنهم اللبنانية المقيمة الآن في لوس أنجليس سيتا منوكيان، كانوا قد مارسوه بالتزامن مع الثلاثي الأوروبي.
قتل يحمل الرقم 5
المهم أن مونوري وبصرف النظر عن التزامه أو عدم التزامه بالقوانين المفترضة لذلك "التيار" ولد بشكل ما في المعرض البيروتي، وذلك بالتحديد عبر الاهتمام الذي أثارته لوحته البديعة "قتل رقم 5" التي استخدم فيها مرآة حقيقية ألصقها في ثنايا المشهد بحيث تعكس صورة الناظر إلى اللوحة وكأنه هو القتيل. أدهشت اللوحة "التداخلية" هذه يومها جمهور المعرض تماماً كما كان قد فعل معرض سابق لمونوري كان قد أقيم في غارليري مايت في فرنسا تحت عنوان عام هو "تكنيكولور"، وكان العنوان مستقى هذه المرة من السينما التي سوف تمعن أكثر وأكثر وطوال العقود التالية التي بات مونوري فيها أحد أكبر الفنانين الفرنسيين، حضوراً في لوحاته إلى درجة أن النقاد لم يعودوا يتحدثون عن هذا الفن إلا في ارتباطه بالفن السابع، ولكن أيضاً بالروايات البوليسية المعروفة عالمياً باسمها الفرنسي "رومان نوار" ثم بعد ذلك بطغيان اللون الأزرق في معظم لوحاته، وهو لئن كان لوناً يمكن العودة في جذوره إلى الأزرق الذي اشتهر رمبراندت باستخدامه، فإن بائع ألوان فرنسي كان مونوري من زبائنه صنع له أزرق خاصاً سماه "أزرق مونوري".
"ديفا" المستوحى من لوحاته
والحال أن هذا الاهتمام بواحد من الأبعاد الأساسية في فن مونوري لم يقتصر على الأزرق الذي ابتكره البائع، بل تجاوز ذلك ليشمل أهل السينما حيث نعرف أن المخرج الفرنسي جان جاك بينيكس لم يخف أبداً بناءه فيلمه الأكثر شهرة "ديفا" (1981) انطلاقاً من سلسلة لوحات أنجزها مونوري في ذلك الحين تحت عنوان "أوبرات جليدية" وقد لا نكون في حاجة إلى أن نذكر هنا أن صفة جليدية تحيل هنا إلى الأزرق الذي يهيمن على مجموعة رسوم مونوري كما على مشاهد الفيلم الليلية في معظمها، لكننا في حاجة إلى التذكير بأن الفيلم نفسه ينتمي إلى البعد الثالث الذي طغى دائماً على رسوم مونوري: الرواية البوليسية السوداء. وهو الأمر الذي جعل واحداً من دارسيه يتحدث عن "الشاشة السوداء/ الزرقاء لليالي البيضاء" التي عاشها مونوري ابن مونمارتر الذي فضل في سنواته الناضجة أن يعيش في الريف وتحديداً في ضاحية مدينة كاشان بعيداً عن الصخب وضجيج العالم منصرفاً إلى إنجاز لوحات كانت تزداد ضخامة وازرقاقاً وغموضاً، مع إطلالات على نوع خاص من "واقعية مفرطة" تحيل دائماً إلى السينما الأميركية التي كان من عشاقها.
أميركية فن فرنسي
وهنا لا بد من التركيز على هذا البعد "الأميركي" في فن مونوري، وتحديداً بارتباطه بالسينما والرواية البوليسية. فنحن إذا أخذنا على سبيل المثال هنا لوحته الغامضة، رغم واقعيتها التي تكاد نكون مفرطة والمعنونة "أسود رقم 9" (1990)، سنجدنا مباشرة في حضرة العناصر الأساسية التي شكلت الجزء المركزي من أسلوبه "اللون الأزرق الليلي الطاغي على قسمي اللوحة الأعلى والأسفل، والعالم السينمائي الخالص الذي يجعل المشهد كله يبدو وكأنه مستقى من مشهد سينمائي، لا سيما في التوليف بين وجهتي نظر للمشهد الواحد الملتقط هنا من زاويتين لا يخلو الجمع بينهما من إبهام مدهش، من دون أن يفوتنا أن هذا المشهد "السينمائي" يبدو في نهاية الأمر وكأنه من فيلم مقتبس عن رواية بوليسية، بل إننا كذلك أمام لغز بصري يطلب من مشاهد اللوحة أن يبذل جهداً تحليلياً فائقاً كي يدرك العلاقة البصرية بين الجزء الأعلى والآخر الأسفل من تلك اللوحة المزدوجة التي يصل ارتفاع جزأيها إلى 180 سم، وعرضها إلى 150 سم. وهي على أي حال علاقة توليفية تمت إلى التوليف السينمائي بأكثر من صلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عالم رجال العصابات
صحيح أن مونوري قد اهتم أكثر ما اهتم بهذا البعد السينمائي في لوحاته، وهو الذي أكد دائماً أن تكوينه كان سينمائياً أكثر منه تشكيلياً إلى درجة أنه، على سبيل المثال، لفرط إعجابه وتأثره بفيلم "سكيرفيس" الذي شاهده للمرة الأولى في طفولته، ثم شاهده عشرات المرات بعد ذلك، كرس له أكثر من لوحة منها واحدة تنتمي إلى سلسلة "تكنيكولور" تصور واحداً من رجال العصابات يطلق رصاص رشاشه في شارع لا يمكن أن يكون سوى شارع أميركي في النهاية. غير أن السينما والرواية السوداء وحتى اللون الأزرق لم تطغ وحدها على نتاج مونوري التشكيلي، فهناك كذلك بعض الحيوانات التي شغلته لمرحلة ما، لا سيما منها النمر الذي صوره، وربما مستوحياً من ملامحه قوة أنثوية جعلته يكرس لوحات عديدة تصور لقطات مكبرة لوجه نمر مقرونه بلقطة مكبرة لتلك المرأة "أدريانا" التي رسمها في لوحات عديدة باكراً منذ بدايات سنوات السبعين أي منذ بداياته. وهناك لديه أيضاً مشاهد عائلية لا تخلو من إبهام وغموض حتى وإن خلت من أبعاد الرعب التي تطغى على لوحاته السينمائية والبوليسية. وهناك المشاهد الطبيعية التي قد تبدو بجمالها ودعتها وكأنها نوع من استراحة محارب في المسار الفني لهذا المبدع الاستثنائي الذي قد يكون في إمكاننا التساؤل دائماً حول إصراره على الابتعاد عن الإعلام والحياة الفنية واللقاءات المتلفزة، كما يمكننا أن نتساءل حول ما دفعه دائماً إلى الزعم أنه يصغر سنه الحقيقية بما لا يقل عن عشر سنوات.
تجاهل محير!
فلئن كان جاك مونوري قد ولد عام 1924 (ما يعني أنه كان في الرابعة والتسعين حين رحل عن عالمنا عام 2018) فإنه كان يصر دائماً على أنه من مواليد عام 1934! مهما يكن عندما رحل جاك مونوري مكللاً بمجد فريد واستثنائي في عالم الفن التشكيلي الفرنسي اعتبر كثر أن هذا العالم قد أصيب بخسارة كبيرة متسائلين في الوقت نفسه عن السبب الذي جعل مونوري، كإرّو وكلازن وإيفان ميسّاك وبخاصة مجايلهم الإسباني آرويو لا يلقون لا كأفراد ولا كتيار ذلك الاهتمام الثقافي والنقدي الذي يستحقونه... والذي كان يفترض به بحسب أحد المعلقين أن يكون أكبر كثيراً من ذاك الذي حظي به وارهول أو روزنكويست المجايلين لهم!