إن التغييرات التي طرأت على معطيات الصراع العربي - الإسرائيلي في الأعوام الماضية، وما اعتراها من تحول بلغ مئة وثمانين درجة أحياناً، ارتبطت في المقام الأول بالتغيرات الثقافية التي بدأت تسود المنطقة، وتركت بصماتها القوية على الخريطة السياسية لدول الوطن العربي، حتى أصبحنا أمام مشهد كان من الصعب مجرد تخيله. فالاتجاهات الجديدة في بعض الدول العربية التي تبدو أحياناً مندفعة لتدشين العلاقات مع إسرائيل هي حدث غير مسبوق لأكثر من سبب. فمصر والأردن عندما أقامتا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، أجرتا ذلك في ظل مبدأ الأرض مقابل السلام، لأن أراضي الدولتين كانت محتلة، فكان المبرر قوياً، والتفسير واضحاً.
وأنا أسجل هنا، بدايةً، أنه لا بأس عندي أن تسعى بعض الدول العربية لممارسة سيادتها الكاملة في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، والعلاقات معها أمر لا يُزعجنا، لأن التطبيع المجاني آتٍ يوماً ما، ولا يمكن إنكار احتماله. فمصر، على سبيل المثال، قد وقّعت على اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، ومضت العلاقات بين البلدين على امتداد أربعين عاماً تحبو بمنطق السلام البارد، وحرمت مصر نفسها طواعيةً من ميزات السلام الدافئ، إذا كان له ميزات، وظلت الثوابت المعروفة للقضية الفلسطينية هي الإطار الذي تحركت فيه مصر والأردن وغيرهما من الدول العربية، إلى أن جاء حين من الدهر تطورت فيه مناهج التفكير وأساليب الحوار بين العرب وإسرائيل، وتلك - في نظري - قضية ثقافية بالدرجة الأولى. ولنا أن نطرح حولها القضايا التالية:
أولاً: يعود إلى عصر جمال عبدالناصر السبب في تنامي المخاوف المتبادلة بين الطرفين ودور أدوات الإعلام الناصرية في إذكاء الروح القومية وتعميق العداء مع إسرائيل وإبراز المخاطر المتوقعة منها. ويكفي أن نتذكر أنه قد جرت في البداية اتصالات غير معلنة بين الطرفين بحثاً عن حل عادل للقضية الفلسطينية، ولكن إسرائيل لم تستجب من خلال زعمائها الأوائل لسياسات عبدالناصر. ولا ننكر أن العداء الإسرائيلي أقدم من ذلك بكثير. فقد بدأ يتضح بصورة كبيرة مع ثورات الشعب الفلسطيني الباسل في ثلاثينيات القرن العشرين، التي أجهضتها نكبة 1948 وحالة الانقسام العربي التي كانت مسيطرة على المنطقة كلها. لذلك، فإنه من العبث أن نتصور مسؤولية سياسات عبدالناصر وحدها في تجسيد حدة العداء وتعميق روح الخلاف، لأن المسألة أكبر من ذلك وأخطر.
ثانياً: لقد عاش اليهود في أقطار العالم العربي من مغربها إلى مشرقها لقرون، واحتضنتهم شعوب المنطقة، خصوصاً بعد طردهم من إسبانيا مع خروج العرب منها، وسقوط حكمهم فيها. فلقد تبوّأ اليهود مواقع اقتصادية ومناصب سياسية، وعاشوا في ظل روح التسامح العربي الإسلامي لقرون عدة، ولكن إعلان قيام دولة إسرائيل ونزوح عدد كبير منهم إليها قد شكّلا صورة ذهنية جديدة بدأت تُعادي اليهود وتشعر بالخطر الذي بدأت أحداثه بين عامي 1956 و1967، ثم 1973. فقد تيقن العرب أن سياسات إسرائيل العنصرية التوسعية العدوانية قد أغلقت أمامهم قنوات التواصل، وصنعت ثقافة جديدة سائدة تشرّبتها الأجيال الجديدة منذ بداية مراحل حياتهم.
إنني أتذكّر أحياناً أن وزير المالية المصري كان يهودياً، هو يوسف أصلان قطاوي باشا، ولم تكن هناك تلك الحساسيات التي عرفتها المنطقة، حتى إنه قيل إن عميد الأدب العربي طه حسين قد حضر احتفال افتتاح الجامعة العبرية عام 1926، وترأس المؤسسة الثقافية التي أصدرت مجلة "الكاتب" في منتصف أربعينيات القرن الماضي، وكانت برأسمال يهودي وإدارة تمضي على النسق ذاته. فلقد كان ذلك عصر داوود حسني وزكي مراد وغيرهما من الفنانين والأدباء اليهود، فلم يكن الناس يرفضون الصوت الساحر للمطربة ليلى مراد باعتبارها يهودية الأصل، أو الممثلة راقية إبراهيم التي ظهرت في أحد أفلام الموسيقار محمد عبدالوهاب قبل أن تصل إلى إسرائيل بعد فرارها إلى إحدى الدول الغربية، بينما بقيت شقيقتها نجمة تمارس مهنة التمثيل بعد أن تزوجت من مصري مسلم. ويكفي أن نتذكر أن في القاهرة وحدها أكثر من عشرة معابد يهودية، وفي الإسكندرية أيضاً بعض منها، ولم يحدث عدوان على أحدها في أعوام 1948 أو1967، ولا 1973. والأغلب الأعم من العرب متحضرون، ولكن الأزمة كانت دائماً في سياسات إسرائيل وممارساتها الاستفزازية العدوانية مع أزمة فقدان الثقة المتبادلة بين الجانبين، فضلاً عن استخدام البعض للقضية الفلسطينية وكأنها "قميص عثمان" عند اللزوم!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً: كان للتدخلات الأجنبية من القوى الكبرى أثرها البالغ في تعقيد الأوضاع وإلقاء مزيد من المخاوف المتبادلة، خصوصاً تجاه قضايا الأمن وارتباطها بما يسميه الطرفان السلام العادل. وقد بدأت بريطانيا لتكون الراعي للدولة العبرية منذ تصريح بلفور، 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، ثم تولت الرعاية بعدها فرنسا التي بدأت الخطوات الأولى في المشروع النووي الإسرائيلي بإنشاء مفاعل ديمونة في خمسينيات القرن الماضي، حتى بدأت المشكلة الكبرى بدخول الولايات المتحدة الأميركية الساحة والتعامل مع إسرائيل وكأنها إحدى الولايات الأميركية في المنطقة ومساندتها في حروبها، فضلاً عن حمايتها من المنظمات الدولية ووضعها في إطار خارج الشرعية والقانون الدولي. لذلك، كان طبيعياً أن تسود المنطقة ثقافة الريبة والمخاوف والشكوك التي سيطرت على الشرق الأوسط لعقود طويلة.
رابعاً: لقد زرع العرب، وربما الإسرائيليون أيضاً، ذلك (التابو) الذي يتشكّل من مجموعة من المخاوف السياسية والدينية، ويعطي لكل طرف صورة مغلوطة عن الطرف الآخر، ويسمح بالمبالغة في تصوير الأشياء وتحقيق الأمور. لذلك، توهّم العرب أن إسرائيل قوة لا تقهر، وتوهّم الإسرائيليون أن العرب على الجانب الآخر أمة لا تدرك الحقائق ولا تعي طبيعة الأمور، بل تمضي على طريق يجعلها بعيدة عن روح العصر وتطوراته. لذلك، اختفت لعقود طويلة ثقافة السلام. وعندما قام الرئيس المصري محمد أنور السادات بمبادرته عام 1977، فإن الصدمة كانت أكبر من أن يحتملها العقل العربي والوجدان القومي. أما الآن، فإن الدنيا قد تغيرت، والأمور تحولت، وما كان مرفوضاً بالأمس أصبح مقبولاً اليوم. إنها نظرية هنري كيسنجر الذي كان يرى أن عامل الزمن يقوم تلقائياً بتغيير مواقف الأطراف المتصارعة ويصنع روحاً جديدة تتولد منها ثقافة مختلفة.
خامساً: لقد أصبحنا أمام مشاهد جديدة لم تكن في الحسبان. وأكرر أننا لسنا بصدد تقييم ما حدث. فالإرادة السياسية لكل دولة ذات سيادة هي حقها المطلق، بل إن تفكيري شخصياً يقترب دائماً من الواقع ويرى أن مواجهة الحقيقة أفضل كثيراً من الدوران حولها والالتفاف عليها، في ظل شعارات عاطفية وأفكار قد تبدو أحياناً أقرب إلى التنفيس عن مشاعر مكتومة بدلاً من أن تكون بلورة لرؤية صحيحة. وفي ظني أنه يمكن الاحتفاظ بالثوابت، ولكن في إطار واقعي، لأن القطيعة في حد ذاتها ليست العلاج الأمثل لمواجهة المشكلات، بل إن اقتحام جوهر القضايا هو الفيصل، شريطة ألا يكون ذلك بمنطق الهرولة أو الاندفاع السريع. فنحن أمام صراع العقول وصدام الأفكار، ولا بد من أن نتحسّب للمناخ الدولي والبيئة السياسية التي تحيط بنا جميعاً.
إنني ممن يظنون أن التغييرات في المواقف والسياسات تتولد أساساً من تغييرات كبرى في الثقافات وأساليب التفكير ومناهج البحث لدى أصحاب كل مشكلة. لذلك، فإنني أقول إن ما جرى في عالمنا العربي منذ أحداث ما سمي الربيع العربي، هو تعبير عن تحول ثقافي قد يأخذنا في طريق مختلف، ولكن لا بد من التعامل معه واستثمار نتائجه، لأن التحولات الثقافية أصبحت المتغير المستقل الذي تتبعه عوامل أخرى في جوانب حياتنا الفكرية، ونبني عليها مواقفنا السياسية. فالثقافة هي بغير جدال وقود العالم المعاصر، إذ إن العولمة ثقافة، وصراع الحضارات ثقافة، وحتى الحرب على الإرهاب ثقافة.