في العام 1983 ولمناسبة الاحتفال بالذكرى العاشرة لرحيل رسام القرن الـ 20 الأكبر بابلو بيكاسو، رأت دانيال جيرودي أمينة المتحف المخصص للرسام الراحل في مدينة أنتيب في الجنوب الفرنسي، أن الوقت قد حان لدعوة عدد من الرسامين الشبان إلى إنجاز لوحات تحمل تكريماً لبيكاسو، على أن تعطى الحرية لكل واحد من هؤلاء الرسامين كي يعبر على هواه وبحسب رؤيته للفن. يومها كان من بين الفنانين المدعوين للإسهام ذلك الأيسلندي المقيم بين ريكجافيك عاصمة بلاده، وفرنسا. كان اسمه غودموندر غودموندسن، ولكن بما أنه من الصعب حفظ هذا الاسم، أطلق الرسام الذي كان حينها قد تجاوز الـ 50 من عمره، على نفسه اسم إيرّو الذي عرف به في العالم أجمع، وحقق عبره شهرة كبيرة خلال تلك السنوات الصاخبة.
بين بيورك وإيرّو
إيرّو الذي لا تضاهي شهرته بالتأكيد شهرة مواطنته المغنية بيورك، التي تعتبر عادة أشهر أيسلندية في العالم، كان على أية حال ثاني أشهر أيسلندي بدوره، هو الذي كان من متمردي الحركات الشبابية في الخمسينيات والستينيات، واشتهر خصوصاً بـ "لوحاته الصينية" التي حققها خلال النصف الأول من سنوات الـ 70، ومن بينها واحدة ربما اعتبرت من أشهر اللوحات السياسية غداة تحركات نهاية الستينيات: "ماو في البندقية" (1974). وكان إيرّو الذي ارتبط اسمه بالإسباني آرويو وبغيره من فناني تيار التصويرية السردية، قد اختار أسلوباً سيُعرف به بشكل خاص مستقى مباشرة من فنون الشرائط المصورة، وإلى حد ما على طريقة الأميركي روي لشتنشتاين. وهو ضمن هذا الأسلوب، كان قد حقق رسوماً عن غاليلي وفاغنر وسترافنسكي وغيرهم من الذين كان يمزج البروتريهات الشخصية لهم بشخصيات تعبر عن أعمالهم وأفكارهم، وهو نفس ما فعله في أعمال أخرى له أتت في معظمها معبرة عن أفكاره السياسية المتحلقة دائماً من حول سخافة رجال السياسة.
من هوايات بيكاسو
وفي هذا السياق إذاً، وجد إيرّو من السهل عليه أن يلجأ إلى الأسلوب نفسه في تحقيق تلك اللوحة التكريمية، لمن اعتبره أستاذه في مجال الممارسة التلوينية على الأقل. ولقد ساعد إيرّو في اختياره هذا يومها ما اكتشفه وهو يقرأ فصولاً من حياة بيكاسو، من حب هذا لفنون الشرائط المصورة إلى درجة أن جرترود شتاين، الشاعرة الأميركية التي كانت تقيم معظم الوقت في فرنسا جامعة من حولها كبار الفنانين والأدباء الفرنسيين والأميركيين الزائرين، كانت في كل مرة تقوم فيها برحلة إلى وطنها تعود حاملة معها لبيكاسو، بناء على طلبه، أجزاء كانت صدرت هناك من "مغامرات كاتزنجامير كيدز"، التي كانت المفضلة لدى الصغار، وكان بيكاسو يتابعها بشغف، وسيقول لاحقاً إن أسلوبها التلويني قد أثر فيه كثيراً.
وجوه بيكاسو الحزينة
المهم أن ذلك الفصل من حياة بيكاسو وجد صداه لدى الرسام الأيسلندي، الذي رآه متلائماً كل التلاؤم مع رغباته الفنية الخالصة، ممتزجة بما تصور أن من شأنه أن يرضي الرسام الكبير لو كان لا يزال يعيش بيننا. وعلى هذا النحو، ولدت تلك اللوحة الضخمة التي لعل أبرز ما فيها ذلك البورتريه المرسوم في زاويتها اليمنى السفلى، ويمثل بيكاسو كما رسم نفسه ذات مرة، ونقول إن هذا أبرز ما فيها ببساطة، لأن ما من لوحة تبدو متطابقة في الملامح والحزن الماثل في النظرة بقدر ما يتطابق هذا البورتريه الذاتي مع البورتريه الذي كان بيكاسو قد رسمه لجرترود شتاين نفسها، وقال عنه الجميع إن بيكاسو بدا فيه وكأنه يرسم ذاته. ومن هنا بدا إيرّو في تقديمه هذا البورتريه لبيكاسو على أية إشارة أخرى، وكأنه يذكر بطريقة مواربة بهدايا شتاين التي أشرنا إليها إلى بيكاسو، مبرراً الأسلوب الفني الذي اختاره للوحة التكريم، لكن إيرّو لم يكن في حاجة إلى أية تبريرات على أية حال، فاللوحة تبرر نفسها معطية منذ النظرة الأولى كل ما ينبغي قوله عن بيكاسو أمام أنظار المشاهدين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فصول حياة في نظرة واحدة
فإلى جانب لمحة الحزن التي تبدو فاقعة في اللوحات العديدة التي ينقلها إيرّو عن بيكاسو، وتذكر بنظرة الرسام الحقيقية التي يكاد الحزن يكون دائماً سمتها الأولى دون أن يكون في حياة الرسام ما يبررها، هناك العشرات من التفاصيل التي ترسم أمامنا وفي نظرة إجمالية معظم مراحل حياة الرسام منذ وصوله فقيراً مجهولاً ومعدماً من وطنه الإسباني الأصلي، معتمراً قبعته البائسة وأدواته ساعياً إلى البحث عن مكان ومستقبل في بلد يضج بالمبتدئين المحاولين الفاشلين، وصولاً إلى أعلى ذرى النجاح، وقد أصبح سيد الفن في فرنسا والعالم من دون منازع خلال عقود قليلة. وما حدث خلال تلك العقود، عرفت ريشة إيرّو وأقلامه وألوانه كيف تخطه على صفحة تلك اللوحة مستقى مباشرة من فن بيكاسو نفسه. وذلك عبر الاستعانة بالعشرات من أشهر لوحات بيكاسو، بل من أقلها شهرة أيضاً ملأ بها الرسام الأيسلندي كل بقعة وزاوية من دون أي ترتيب تاريخي أو حكم قيمة على الإطلاق. كان مراده أن ينقل إلى ناظري مشاهد اللوحة وفي لقطة واحدة، عوالم بيكاسو كلها، ناهيك عن تركيزه على عدد لا بأس به من لوحات رسم بها الرسام الكاتالوني عدداً من النساء اللواتي رسمهن وارتبط بهن. ولعل اللافت في هذا المجال أن إيرّو قد تعمد أن ينقل إلى تلك اللوحة الجامعة وبشكل خاص، تلك اللوحات العديدة التي كان بيكاسو قد رسمها في مدينة أنتيب نفسها خلال العام 1946 وما حوله. وهو رسمها طبعاً في نفس ذلك المكان الذي كان يخصه ليصبح لاحقاً مقر متحف أعماله في مدينة الجنوب الشرقي الفرنسي نفسها، حيث تقبع اليوم تلك اللوحة التكريمية التي تبدو في نهاية الأمر تكريماً لبيكاسو ولنساء بيكاسو ولمدينة أنتيب نفسها. ومن هنا النجاح الكبير الذي تحققه هذه اللوحة من بين عشرات اللوحات التكريمية التي أنجزت للمناسبة.
معارض لا تُحصى
وحتى لئن كان إيرّو في العام 1983 حين رسم فيه هذا "البورتريه" الشامل لسلفه الكبير، مشهوراً شهرة يستحقها بفضل إنجازاته الفنية التي كان يحققها بحزق وسرعة، لدرجة كانت تمكنه من أن يقيم أربعة أو خمسة معارض لأعماله في العام الواحد، وغالباً من خلال اهتماماته السياسية التي كانت تجعل من فنه سلاحاً دائماً في سبيل القضايا الإنسانية وقضايا التقدم. ونتذكر على العموم أنه كان واحداً من التشكيليين العالميين الذي شاركوا في معرض الفنانين العالميين من أجل فلسطين في بيروت عام 1976، على الأرجح، فإن "بورتريه" بيكاسو الذي نتحدث عنه هنا قد زاد من شعبيته ووسّع من نطاق جمهوره، ليتعدى معجبيه الأيديولوجيين ويفتح فنه على آفاق جديدة.
مزاوجة الفن والسياسة
ولد إيرّو في مدينة أولافسفيك الأيسلندية عام 1932، ويحكى أنه كان في الـ 10 من عمره حين وقع بين يديه كاتالوغ لوحات معروضة في متحف "موما" النيويركي، فشغف به وصار لا يفارقه. وبالتالي كان من الطبيعي ما إن صار في الـ 17 من عمره، أن يلتحق بمعهد الفنون الجميلة في العاصمة ريكجافيك، حيث بدأ يدرس بشكل خاص فنون الورق المقطّع. وفي ربيع 1951 نال دبلوم أستاذية الفن ليلتحق بعد عامين بأكاديمية الفنون في أوسلو عاصمة النرويج. وهو راح منذ ذلك الحين يوزع سنواته بين ممارسة الرسم وتدريسه، والتجوال بين المدن الأوروبية زائراً بعضها مقيماً في بعضها الآخر، ودائماً منشغلاً برصد ما يحدث في عالم الفن، كما في عالم السياسة، ولقد راح بالتدريج يمزج بينهما، لاسيما منذ أواسط سنوات الـ60 حين خاض النضال السياسي في صفوف اليسار المتطرف، لاسيما في باريس، التي كانت قد أضحت موطنه الثاني ومنطلقه إلى العواصم والمدن الأخرى، إذ كان أصبح فناناً يعتبر من بين أقوى أبناء جيله وأكثرهم التزاماً بالقضايا السياسية، التي لا تزال تشغله حتى اليوم على أية حال إلى جانب انشغالاته الفنية المتنوعة، ولكن التي يبقى محورها تلك اللوحات البديعة الموروثة من فن الشرائط المصورة.