أدت المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات القليلة الماضية إلى ظهور توقعات بأن أكبر اقتصادين في العالم "يتجهان نحو الانفصال". الحديث عن هذا الأمر ليس جديداً، فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب تحدث عنه في تغريدة خلال يونيو (حزيران) 2020، عندما كتب "الانفصال الكامل عن الصين كان أحد خيارات السياسة الأميركية"، واليوم يُبدي خلفه بايدن تشدداً أكبر في التعامل مع الصين، وفي معاقبة الشركات الصينية، مما يعزز كفة مرجحي الانفصال.
تداعيات الانفصال
وتلقى المستثمرون تحذيراً واضحاً من تداعيات الانفصال بين الصين والولايات المتحدة عبر بوابة أسواق رأس المال العالمية، وهو ما بدا جلياً في عمليات البيع المكثفة للأسهم المدرجة حديثاً لمجموعة "دي دي" بالولايات المتحدة، بعد أن أطلقت الصين تحقيقاً أمنياً في مخاطرها.
تريد بكين اليوم كبح إن لم يكن حظر وصول الشركات الصينية إلى أسواق رأس المال الأميركي، حيث يتعين عليها وبشكل متزايد الخضوع لمتطلبات التنظيم والإفصاح العادية، وواشنطن أيضاً معادية بالقدر نفسه للقوائم الصينية.
يقول الباحث المشترك في الدراسات الصينية في جامعة أكسفورد جورج ماغنوس لـ "فايننشال تايمز"، "ما يحدث اليوم هو نموذج لعملية الفصل المالي، كما هو معروف في واشنطن، أو الاعتماد على الذات كما يطلق عليها في بكين".
تحاول الولايات المتحدة الانفصال عن الصين ثاني أكبر اقتصاد، لكن الأولى ليست أكبر تاجر في العالم، فقد تقلصت التجارة الخارجية للسلع الأميركية 8.8 في المئة خلال 2020، مقارنة بالعام السابق، إذ بلغت 3.84 تريليون دولار بحسب "غلوبال تايمز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي صناعة الأجهزة الطبية بالولايات المتحدة على سبيل المثال، قد يعني الفصل كلفة إضافية لإعادة تشكيل سلاسل التوريد وتقييد استيراد المنتجات والمدخلات الوسيطة من الصين، إلى جانب الانتقام من الصادرات الأميركية من قبل بكين.
واستثمر عدد من الشركات المالية الرائدة في الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي الأموال في مشاريعهم المشتركة في إدارة الأصول والاستثمارات المصرفية الصينية، أو حصلوا على الموافقة على الشراكات المملوكة للأغلبية.
كما ارتفعت حيازات السندات والأسهم الصينية بشكل حاد، والعوامل الأساسية المألوفة والمسببة لهذه الطفرة تشمل الانتعاش الاقتصادي والفوارق في عوائد السندات بين الولايات المتحدة والصين وتحركات أسعار الصرف.
يعتقد المستثمرون أيضاً أن الصين يمكن أن تقدم الأشياء التي يريدونها، مثل الأسواق المتنامية ومجموعة كبيرة من الأصول غير المترابطة إلى حد كبير، وبالنسبة إلى البنوك الأجنبية يمكن أن تكون الصين مصدراً مربحاً لدخل الرسوم. وتواصل شركات "وول ستريت" والشركات غير المالية والمستثمرون شق طريقهم نحو الباب الأحمر للصين حيث تفتح بكين أذرعها مرحبة بهم.
يقول ماغنوس، "يجب على المستثمرين الانتباه كما أكدت تجربة (ديدي)، فهم أولاً يتعرضون بشكل مباشر لحملة الحكومة الصينية ضد عدد من المنصات شبه المالية والتقنية والبيانات الكثيفة الاستخدام التي تتدفق إليها أموالهم، وتنبع هذه الحملة من قلق الصين تجاه عدم الاستقرار المالي وتصميمها على إبقاء الشركات الخاصة الطموحة ورواد الأعمال تحت السيطرة".
ويرى ماغنوس أن المستثمرين اليوم في مرمى النيران، حيث تكون الأصول والتقييمات هدفاً لقرارات سياسية عشوائية، ويضيف أنه حتى الآن جرى تقييد أو منع كثير من الشركات الأميركية من المشاركة التجارية مع الكيانات الصينية، ويخضع المستثمرون لإشعار التخلي عن ممتلكاتهم في عشرات الشركات الصينية المرتبطة بالقمع في شينجيانغ وهونغ كونغ وجيش التحرير الشعبي.
ويقول إن القمع وانتهاكات حقوق الإنسان والاستخدام المزعوم للعمالة القسرية أثار مخاوف لدى قطاع البيع بالتجزئة وبين نشطاء المساهمين، في شأن الجزء "إس" من معايير الاستثمار البيئية والاجتماعية والحوكمة.
أدوات الرد الصينية
يتأثر المستثمرون بالتشريعات الجديدة التي تُمكن لجنة الأوراق المالية والبورصات من المطالبة بالكشف عن معلومات المساهمين، وروابط مجلس الإدارة بالحزب الشيوعي الصيني وإصدار سجلات التدقيق لشركة مراقبة تدقيق معتمدة من الولايات المتحدة.
في حين أن الإخفاق في القيام بذلك أمر مرجح، لأن المنظمين الصينيين يحظرون شركاتهم من إجراء مثل هذه الإفصاحات بموجب أحكام سرية الدولة، مما قد يؤدي إلى الشطب بعد فترة مقترحة مدتها عامان ويقود إلى عدم السيولة ومخاطر الخسارة.
ولدى الصين أيضاً أدوات للرد، إذ أقرت تشريعاً هذا العام لمساعدة أعمالها التجارية على إلغاء تأثير ضوابط وعقوبات التصدير الأميركية التي تنطبق خارج الصين، ووافقت أخيراً على قانون مكافحة العقوبات الأجنبية الذي يوفر مظلة قانونية للشركات في الصين للاستئناف ضد العقوبات، أو مواجهة العقوبات إذا امتثلوا.
وسيؤدي هذا التراكم المتزايد في فصل القواعد واللوائح على كلا الجانبين إلى جذب مزيد من الشركات والمستثمرين إلى مساحة حرجة، حيث يصبح التناقض بين السياسة والمصالح المالية الأضيق أكثر وضوحاً، ولا أحد يعلم إن كانت هذه المواجهة ستستمر بعض الوقت، كما يقول ماغنوس، الذي أشار إلى أنه ونظراً لأن المستثمرين والشركات يواجهون مزيداً من تضارب المصالح والقرارات في شأن أي قواعد يجب الالتزام بها، ومن الذي يجب انتهاكه، فمن المرجح أن تنتصر السياسة على الرغم من أن التقويمات لا تعكس هذا حتى الآن.
دور المؤسسات المالية الأميركية في الصين
لكن هناك مراقبين يرفضون ترجيح حدوث الانفصال على الرغم من حرب التعريفات الجمركية وقيود الاستثمار بين البلدين، فاندماج الصين في الأسواق المالية العالمية مستمر على قدم وساق، كما تشارك المؤسسات المالية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها في هذه العملية، مما يجعل الفصل المالي بين الولايات المتحدة والصين أمراً مستبعداً بشكل متزايد كما يرى هؤلاء.
ويقولون إن أفضل مثال على اندماج الصين العميق في الأسواق المالية العالمية هو الزيادة الكبيرة في دور المؤسسات المالية الأميركية وغيرها من المؤسسات المالية الأجنبية في الصين، التي أصبحت ممكنة عندما خفف المنظمون الصينيون في 2019 – 2020 القيود الطويلة الأمد على الملكية وعوامل أخرى.
وتاريخياً كانت الشركات المالية الأجنبية مقيدة إلى حد كبير بالعمل في مشاريع مشتركة بحصة ملكية أقلية، في حين أدى التحرير الأخير إلى زيادة كبيرة في عدد المؤسسات المالية المملوكة بالكامل للأجانب أو المملوكة بالكامل للأجانب العاملة في الصين، بما في ذلك عدد من المؤسسات الأميركية.