كان فريديريك الكبير يقول "الدبلوماسية بلا قوة مثل الموسيقى بلا آلات". لكن إدارة الرئيس جو بايدن توحي بأن المعادلة تغيرت، فهي تتصرف منذ الوصول إلى البيت الأبيض كأنها تمتلك سلاحاً سحرياً يحل كل مشكلة، اسمه الدبلوماسية. وهي تتصور أن خبرة الرئيس بايدن الكبيرة في السياسة الخارجية ومواهب فريق الأمن القومي، ولا سيما ذكاء وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، وتجربة روبرت مالي، في التفاوض مع إيران، كافية لمواجهة التحديات مع روسيا والصين وإيران، وإيجاد تسوية للصراع العربي-الإسرائيلي. دبلوماسية وقمة في جنيف مع من وصفه بأنه "قاتل"، وهو الرئيس فلاديمير بوتين الذي يحكم روسيا منذ عام 2000 وسيبقى حتى عام 2036 بموجب تعديل دستوري أقره البرلمان. بوتين "القيصر" الذي لم يجد حتى اليوم، كما أعلن أخيراً، من "يستحق قيادة روسيا"، لكنه "يأمل في الوصول إلى يوم يستطيع فيه تسمية ذلك الرجل". دبلوماسية مع الزعيم الصيني شي جينبينغ الذي يقول "إن الحزب والشعب يقولان للعالم إننا نجيد، لا فقط تدمير العالم القديم بل أيضاً خلق عالم جديد". ودبلوماسية مع النظام الإيراني الذي يسمي أميركا "الشيطان الأكبر" ويشن "حرب عصابات" بالوكالة لطردها من الشرق الأوسط. فماذا فعلت ما سماها جوزف ناي "القوة الناعمة" مقابل "القوة الصلبة" وسمتها هيلاري كلينتون "القوة الذكية"؟ لا اختراق مع روسيا، ولا اختراق مع الصين، ولا "سحر" للدبلوماسية على الدهاء الإيراني.
الاتفاق النووي
ذلك أن إدارة بايدن استعجلت الرغبة في العودة عن انسحاب دونالد ترمب من الاتفاق النووي، خشية وصول طهران إلى "صنع قنبلة نووية خلال أشهر أو أسابيع"، بحسب بلينكن. قبلت أن تكون المفاوضات غير مباشرة من خلال الشركاء في الاتفاق النووي. تنازلت سلفاً عن الإصرار على ربط العودة إلى الاتفاق بما يجعله "أوسع وأقوى"، وأعادت إلى الأرشيف مطالبها المتعلقة ببرنامج الصواريخ الباليستية والنفوذ و"السلوك المزعزع للاستقرار" في الشرق الأوسط. واستعدت، كما أبلغ وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، مجلس الشورى، لرفع "90 في المئة من العقوبات" مقابل عودة طهران عن خرقها الالتزامات. واستمرت في الحرص على التفاوض غير المباشر على الرغم من تصعيد الميليشيات العراقية التابعة لـ"الحرس الثوري الإيراني" في إطلاق الصواريخ على السفارة الأميركية في بغداد، والمطار ومطار أربيل وقاعدة عين الأسد وأي موقع فيه قوات أميركية. لكن طهران هي التي أوقفت التفاوض إلى ما بعد تسلم الرئيس الجديد المتشدد إبراهيم رئيسي مهامه وتأليف حكومته وفريقه المفاوض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قوة الأفكار
ولا مهرب من إدراك الواقع: إيران مصممة على امتلاك سلاح نووي، أو أقله على تجميع المواد اللازمة لصنعه مع معرفة كيفية صنعه. ولن يوقفها أي اتفاق عن إكمال البرنامج العسكري سراً. ولا هي أنفقت عشرات آلاف المليارات من الدولارات، وتحملت كل أنواع العقوبات من أجل برنامج نووي سلمي يساعدها العالم كله عليه. ألم تبدأ إنتاج معدن اليورانيوم ورفعت التخصيب إلى نسبة 60 في المئة، وهدد الرئيس روحاني بالتخصيب على نسبة 90 في المئة الكافية لإنتاج القنبلة؟ أليس التباطؤ في التفاوض أمراً يسمح بتراكم الخبرات على الرغم من الحاجة الملحة إلى رفع العقوبات؟ وأيهما أشد خطراً على المنطقة: امتلاك القنبلة أم تطوير الصواريخ واستمرار السلوك المزعزع للاستقرار والتحكم ببغداد ودمشق وبيروت وصنعاء؟
يقول الدكتور هنري كيسنجر في كتاب "نظام عالمي" "القوة ليست فقط القوة العسكرية والاقتصادية بل أيضاً قوة الأفكار"، وأميركا تملك القوة العسكرية والاقتصادية لكنها تفتقر إلى الأفكار. فمن الوهم مواجهة التحديات الأمنية والعسكرية بالدبلوماسية. والإدارة في حاجة إلى استراتيجية متكاملة للتركيز على "الصراع والتنافس والتعاون" مع روسيا والصين، واللعب مع إيران، بصرف النظر عما سمته "الإيكونوميست" البريطانية، "مبدأ بايدن" الصيني.
أميركا عائدة إلى القيادة، كما يردد بايدن، لكن المكتوب على جدران أفغانستان والعراق عشية الانسحاب هو: أميركا مرت من هنا، وليس بالقوة وحدها ولا بالدبلوماسية وحدها تتحقق الأهداف.