تُعد كاتدرائية كانتربري أول كاتدرائية شيدت في إنجلترا، وتشكّل أيضاً موقع اغتيال رئيس الأساقفة توماس بيكيت، ومركز الحياة المسيحية على مر قرون. وعلى الرغم من تلك الجوانب التي نعرفها كلها، فإنها لا تزال تخفي بعض الأسرار.
عند النظر إلى دواخل الكنيسة، تتكشف أمام ناظريك أربع لوحات، تأكد أنها النوافذ الزجاجية الملونة الأقدم في بريطانيا، وتعود إلى ما قبل 900 عام تقريباً. إذ كشفت الاختبارات بأن تلك التحف الفنية المكوّنة من رسومات، تُجسّد أربع شخصيات توراتية، وقد صُنعت بين أوائل القرن الثاني عشر ومنتصفه حينما أُعيد بناء النصف الشرقي من الكاتدرائية.
ولا يملك المؤرخون أي سبيل في تحديد عمرها الدقيق، ويعتقدون أنها أُنجزت قبل القرن الثالث عشر. وتُعتبر اللوحات الزجاجية التي تعود إلى النصف الأول من القرن الثاني عشر أو قبله من القطع النادرة الوجود للغاية في بريطانيا، في ظل عدم توفر نماذج مشابهة تماثلها في الحجم.
وفي هذا السياق، أشار البروفيسور تيم أيرس من "جامعة يورك" إلى أنه "لأمر استثنائي أن يكون هذا الزجاج الملون المكتشف حديثاً في كانتربري، الذي يعود إلى النصف الأول من القرن الثاني عشر، قد تمكن من النجاة طوال كل تلك القرون".
في رأي موازٍ، أشارت ليوني سيليجر، وهي رئيسة حفظ الزجاج الملون في كانتربري، إلى أنه "بطريقة ما، ظلت تلك التحف الفنية التي تعود إلى القرن الثاني عشر مختبئة، على الرغم من أنها تحت أنظارنا". وتابعت "على الرغم من أن بعض المؤرخين الفنيين رجحوا بأن تاريخ صنعها يعود إلى منتصف القرن الثاني عشر انطلاقاً من أسباب فنية بحتة، فلا يمكن معرفة عمرها الدقيق بشكل مؤكد".
وفي السياق نفسه، تحظى تلك التحف الفنية باهتمام عالمي، لأن عدد الأعمال الفنية على النوافذ الزجاجية الكبيرة التي تعود إلى ما قبل عام 1150، ولا تزال موجودة في فرنسا وألمانيا، لا يتخطى أصابع اليد الواحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونجحت عالمة الآثار الدكتورة لورا أدلينغتون من "جامعة لندن كوليدج" في تطوير طريقة الاختبار المحمولة. فقد تمكنت من أقلمة جهاز أشعة سينية قابل للحمل باليد، كي يوجه ضوءاً إلى الزجاج ويولد ما يشبه البصمة عن تركيبته الكيميائية.
وبالتالي، كشف الجهاز بأن تركيبة تلك التحف الفنية تعود إلى تاريخ أقدم من اللوحات الأخرى المشابهة الموجودة في الكاتدرائية.
وفي سياق متصل، ذكر البروفيسور إيان فريستون من "جامعة لندن كوليدج" أن "التكنولوجيا أمر مثير للاهتمام فعلاً، لأنها تكشف كيف يسهم العلم في الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بالتاريخ وتاريخ الفن".
واستطراداً، لقد كشف البحث العلمي والتاريخي الجديد عن الطبيعة الاستثنائية في تاريخ الأعمال الفنية المؤرخة حديثاً، بل إنها قصة تشتمل على جوانب تجمع مصر القديمة والإمبراطورية الرومانية وصناعة الأيقونات البروتستانتية الإنجليزية.
وفي هذا الصدد، تقترح الاختبارات التي أُجريت على الزجاج الملون في كنائس داخل إنجلترا وفرنسا بأن جزءاً من لوحات كانتربري صُنعت من الزجاج الروماني القديم الذي أعيد تذويبه، وقد صُنع منذ نحو الألف عام.
وتجدر الإشارة إلى أن الزجاج الملون النورماندي مصنوع من قطع زجاجية بستة ألوان مختلفة، هي الأحمر والزهري والبنفسجي والأصفر والأخضر والأزرق.
وكذلك كشفت الاختبارات عن أن التركيبة اللونية الزرقاء مستخلصة من الكوبالت، وهو معدن لم يكن صنّاع الزجاج الأوروبيون يعرفون مصادره الطبيعية في القرن الثاني عشر. عوضاً عن ذلك، لجأ أولئك الصُنّاع (أو مورّدوهم) بشكل شبه مؤكد إلى الحصول على الكوبالت من خلال إعادة تدوير آلاف المكعبات الزجاجية الزرقاء/ [التي تحتوي] على الكوبالت، المستخدمة في فسيفساء الجدران الرومانية، وغالباً ما وُجِدَت في إيطاليا. ومثلاً، يُعتقد بأن العمال في القرون الوسطى أزالوا نحو 40 طناً من مكعبات الفسيفساء من جدران أحد أكبر المباني العامة في روما القديمة، هي حمامات كركلا.
فضلاً عن ذلك، يُعتقد أن زجاج كانتربري يحتوي أيضاً على مكون أساسي من مصر القديمة. إذ تقترح الاختبارات العلمية على الزجاج الملون بالكوبالت الأزرق في نوافذ الكنائس التي تعود إلى العصور الوسطى في أماكن أخرى، بأن المكون الإضافي في صهر الزجاج، وقد استُخدم أساساً في صنع الزجاج الأزرق المستخدم في التحف الفنية الأولى في كانتربري، ليس سوى الصودا (أي بيكربونات الصوديم). وبصورة فعلية، يُعرف أن كل الصودا المستخدمة من قِبَل الرومان في صنع مكعبات زجاج الفسيفساء الزرقاء (الكوبالت) مصدرها البحيرات المالحة في منطقة وادي النطرون في شمالي مصر.
وقد أُعدت أساساً بهدف استخراج الصودا، وذلك لأن المصريين القدامى كانوا بحاجة إلى الصودا من تلك البحيرات المالحة، في تحويل الجثامين إلى مومياوات.
وبالتالي، كشفت الأبحاث أيضاً عن طبيعة الأجزاء الرئيسة للتصميم الداخلي للمبنى النورماندي الشاسع [كاتدرائية كانتربري]. إذ تجسّد اللوحات الأربع أربع شخصيات تقليدية من أسلاف المسيح الذين يرد ذكرهم في العهد القديم. ولكن من المؤكد بأن تلك الرسومات شكلت في الأساس جزءاً من سلسلة مؤلفة من 40 شخصية من أسلاف المسيح، وكانت شبيهة بـ"الموكب" الذي زيّن الجزء الداخلي الكامل للقسم الشرقي من الكاتدرائية، وقوامه النوافذ التي شكلت في ما مضى القسم العلوي ضمن ذلك الجزء من المبنى.
ومن ناحية عقائدية مهمة، من وجهة نظر كنيسة العصور الوسطى، تبرز نقطة ملفتة تتمثّل في أن غالبية أسلاف المسيح التقليديين كانوا في الواقع ملوكاً وأمراء، وتلك عقيدة ذات أهمية سياسية بالنسبة إلى الكنيسة التي حرصت على ترويج فكرة يسوع المسيح كملك السماوات وأنه من خلال الكنيسة يمثّل أيضاً القوة المطلقة على الأرض.
وبالعودة إلى التصميم، صُنع زجاج نوافذ كانتربري على يد نافخي الزجاج في العصور الوسطى. ويبدو ذلك واضحاً من خلال الرسم التوضيحي النادر في مخطوطة مزينة بالذهب من العصور الوسطى.
ودُمرت غالبية ما تبقى من اللوحات التي تعود إلى الفترة النورماندية الأساسية في حريق هائل اندلع في عام 1174. ومن المرجح أن اللوحات الزجاجية الأربع التي نجت كانت في حنية الكنيسة (الجزء الدائري المقبب) إلى أقصى الطرف الشرقي من المبنى النورماندي، باعتباره الجزء الذي ربما تضرّر أقل من سواه جراء الحريق.
في المقابل، لقد أُزيلت تلك الحنية بهدف إنشاء ضريح ضخم لأسقف كانتربري، توماس بيكيت، الذي اغتيل هناك في 1170 بتحريض ملكي.
ويبدو أن اللوحات الأربع النورماندية الصنع التي نجت تجسّد أسلاف المسيح، وهم الملك داوود، والأمير ناثان (شقيق الملك سليمان) والملك رحبعام (ابن سليمان) والملك آبيا (حفيد الملك سليمان). ولعلها وُضعت في مكان آمن مدّة 40 سنة قبل أن يُعاد تركيبها على النوافذ في الأطراف الشمالية المبنية حديثاً في الكاتدرائية.
وتظهر الأدلة التاريخية بأن تلك اللوحات بقيت هناك حتى أواخر القرن الثامن عشر، حينما قُسمت تلك المجموعة الرباعية وفُصلت عن بعضها بعضاً. إذ وُضعت لوحتان في النافذة الجنوبية الكبرى من الكاتدرائية واثنتان في النافذة الشرقية الكبرى.
وفي سياق متصل، تُظهر الأبحاث التاريخية أيضاً بأن نقل اللوحات إلى مواقع جديدة جاء في صلب الأحداث التي حصلت منذ أكثر من 150 عاماً، حينما أقدم رجل دين حاقد أوقف عن مهامه في ما بعد في كاتدرائية كانتربري خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، على تدمير اللوحات الزجاجية الملونة الأصلية.
وحمل ذلك الرجل اسم ريتشارد كولمر. وقد ترأّس مجموعة المتشددين في الكاتدرائية، وكرّس وقته لتدمير صور القديسين (أو أي صور أخرى صلى لها الناس). من الناحية العقائدية، عمل كولمر على الالتزام المطلق المتشدد بما تضمنته "الوصايا العشر" المعروفة عن حظر عبادة الصور، بل اعتبر ذلك تجديفاً. لحسن الحظ، لم يعتبر كولمر أن لوحات أسلاف المسيح تشكّل أدوات للصلاة أمامها، وبالتالي لم تُدَمَّر. بيد أن أعماله المتمردة ضد صُوَر وتماثيل القديسين ومريم العذراء وحتى يسوع المسيح، أدت إلى أعمال شغب في كانتربري وحتى إلى موجة غضب في البرلمان. وفي المقابل، أدى الأمر نفسه إلى تخصيص بعض المساحة في النوافذ الجنوبية والغربية للكاتدرائية، نُقِلَت إليها اللوحات الأصلية الأربع النورماندية الصنع في أواخر القرن الثامن عشر.
وعلى الرغم من أن لوحات أسلاف المسيح الأصلية الأخرى في كانتربري دُمرت بالكامل كلها في حريق 1174، فقد أُعيد رسمها (لكن وفق أسلوب أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر)، وازدادت أعدادها بشكل ملحوظ خلال إعادة تشييد الكاتدرائية. وإضافة إلى اللوحات الأربع الأصلية القديمة، تمكنت 31 لوحة بين تلك التي أُعيد رسمها من تخطي عاملي الزمن والحوادث. وتالياً، فقد باتت تشكل أكبر مجموعة في العالم من اللوحات التي تعود إلى العصور الوسطى وتجسد الأسلاف التقليديين للمسيح.
© The Independent