يندر أن يقرأ المرء تاريخاً للثقافة الأميركية اللاتينية من دون أن يجد فيه ذكراً لتلك السيدة التي تحمل اسماً يكاد يكون شاعري الرنة: فيكتوريا أوكامبو. وكذلك الحال حين يقرأ المرء حوارات مطولة أو فصولاً من ذكريات كتاب عاشوا في بيونس آيرس أو غيرها من مدن القارة اللاتينية الكبرى في العصر الذهب للازدهار الثقافي فيها، دون أن يجد المتحدثين يذكرون تلك السيدة. بل إن ذكرها يتوسع ليشمل مدناً أوروبية رئيسة مثل مدريد وبخاصة باريس وبروكسل. فجميعهم، من بورخيس إلى كورتاثار وفاليري ومن غومبروفتش إلى دريو لا روشيل وأندريه مالرو ومن هم من طبقتهم وعلى شاكلتهم عرفوا تلك السيدة عن قرب وأحبوها إلى درجة أنها حين اعتقلت ذات مرة أيام حكم الديكتاتور خوان بيرون تداعى عشرات الكتاب والمفكرين من أنحاء العالم لتوجيه رسالة إلى السلطات الأرجنتينية تطالبها فيها بالإفراج عنها. ولم تجد تلك السلطات مفراً من أن تنصاع تحت ضغط تلك النخبة العالمية فتطلق سراحها خلال أقل من ستة وعشرين يوماً هي التي كان يمكن لها أن تقبع في السجون سنوات طويلة كما حدث لغيرها من المعتقلين في السجون البيرونية تلك الأيام. ومن اللافت أن كاتباً كبيراً هو ألبير كامو لم يكن من عادته توقيع ذلك النوع من العرائض والرسائل وقع الرسالة بل حتى اتصل بعشرات من كبار الكتاب الأوروبيين طالباً منهم التوقيع.
الإبداع المرفوض
ومع ذلك لم تكن فيكتوريا أوكامبو مناضلة سياسية عنيدة، ولا حتى مبدعة بالمعنى الصارخ للكلمة. وهي لئن كانت جربت الكتابة الروائية والرسم وما شابههما من ضروب الإبداع سرعان ما أدركت أن ذلك ليس مجالها. فاكتفت من الكتابة بنصوص عن حياتها واستعراض لأفكار كبيرة شغلت ذهنها وشهادات عن زمنها أصدرتها في عدد لا بأس به من كتب لعل أفصحها في التعبير عنها كتاب صدر بعد سنوات من موتها (عام 1979 عن 88 سنة) بعنوان "على سبيل الشهادة" سرعان ما ترجم إلى الفرنسية والإنجليزية ليعيد إلى الواجهة تلك التي ناضلت في سبيل الثقافة والمرأة والعدالة الاجتماعية والتقارب بين الحضارات، لا سيما بين أوروبا وأميركا اللاتينية، وبذلت جهدها ومالها لدعم مشاريع ثقافية وفكرية بين القارتين، ما جعل جورج لويس بورخيس أحد كبار أدباء الأرجنتين يقول عنها في خطاب تأبيني ألقاه في الأونيسكو بباريس عند تكريمها إثر رحيلها: "في زمن كما في منطقة من العالم، لم تكن فيهما المرأة سوى جزء من نوع، جرؤت فيكتوريا على طرح نفسها كإنسان فرد. وهي وصلت إلى تكريس ثروتها الطائلة كما جهودها الدؤوبة من أجل التعليم في هذا البلد وهذه القارة. وأنا شخصياً أدين بكثير لفيكتوريا لكنني أدين لها أكثر بوصفي أرجنتينياً".
"السيدة – أبو الهول"
لكن بورخيس لم يكن الوحيد الذي يكن لها كل هذين الاحترام والممنونية. فبول فاليري كان يلقبها بـ"السيدة – أبو الهول" لعملها بصمت. ودريو لا روشيل أعلن لها أنه يخشى أن يغرم بها إلى الأبد، وروجيه كايوا لم ينس أبداً تأسيسها واحدة من أعظم المجلات الأدبية في فرنسا "الآداب الفرنسية"، ودعوته لإدارتها كي يوصل إلى الفرنسيين والأوروبيين ثقافة أميركا اللاتينية، وغومبروفيتش سيقول إنه كان سيستحيل عليه العيش في بوينس آيرس لولا وجود فيكتوريا فيها... وحتى رابندرانات طاغور الذي ارتبط معها بعلاقة شديدة الغموض، لم يتوان عن السفر من الهند إلى إنجلترا كي يلتقيها ويعيش إلى جوارها ردحاً من الزمن. والحقيقة أن هذا كله نجده في كتاب "على سبيل الشهادة" الذي بقدر ما تصف فيه فيكتوريا الحياة الثقافية التي عايشتها بين قارات عديدة ومدن أكثر عدداً، وثقافات لا تعد ولا تحصى، نجد فيه إشارات بديعة إلى علاقتها هي بتلك الحياة بل واتخاذها زمام المبادرة في العديد من الشؤون التي خاضت فيها ومن ذلك تأسيسها مجلة "سور" (الجنوب) التي نشر فيها بورخيس بين آخرين، العديد من قصصه ومحاضراته. كما نُشرت فيها نصوص رائعة لوالتر غروبيوس (حول الهندسة المعمارية) ودريو لا روشيل الذي ظل عشيقها حتى غاص في التعاون مع النازيين فلفظته.
حكاية مجلة استثنائية
في كتابها تروي فيكتوريا حكاية تأسيس تلك المجلة التي لعبت– ولاحقاً مع دار النشر التي أُلحقت بها وحملت نفس الاسم– دوراً هائلاً في انتشار كتابات أدباء أميركا اللاتينية. فتقول إن البداية كانت خلال محاضرة عن فن تشارلي شابلن التقت خلالها الكاتب الأميركي والدو فرانك الذي دعاها لزيارة الولايات المتحدة، وكانت النتيجة أن قامت طوال سنوات الثلاثين بعدة رحلات إلى ذلك "العالم الجديد" حيث التقت بعض كبار الكبار في الإبداع العالمي بدءاً من جاك لاكان ورامون ديلا سيرنا وسيرغاي إيزنشتاين والمعماري لو كوربوزييه... ولقد أطربتها تلك اللقاءات إلى درجة أنها حين سألت والدو فرانك عن أفضل الطرق لجمع كل هؤلاء الناس قال لها إن الوسيلة الأفضل هي إصدار مجلة ثقافية تحلقهم من حولها. ففعلت رغم أن أباها الثري نبهها إلى أن المشروع سوف يغرق ويغرقها معه. ولقد صدر العدد الأول يومها عند مفتتح عام 1931 في أربعة آلاف نسخة نفدت خلال أيام قليلة بين مدريد وباريس والأرجنتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كي تعبر المرأة عن ذاتها
إلى جانب ذلك راحت فيكتوريا تهتم بقضية المرأة فأصدرت عام 1936 دراسة بعنوان "المرأة وتعبيرها عن ذاتها" لقيت صدى واسعاً ما أدى إلى تأسيس "اتحاد المرأة الأرجنتينية" وكان التأسيس مناسبة أطلقت من خلالها فيكتوريا نداء للتضامن بين نساء العالم. وهو نفس ما سوف تفعله بعد حين وإثر اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية حيث وقفت إلى جانب الجمهوريين ضد فرانكو وفاشييه. وبعد ذلك حين اندلعت الحرب العالمية الثانية وقفت علانية ضد النازيين وساندت الحلفاء إلى درجة أنها حين حرر هؤلاء باريس عند نهاية الحرب العالمية الثانية، قادت في بيونس آيرس مظاهرات نسائية صاخبة لدعم الحلفاء. وهي تلك المظاهرات الشهيرة التي سارعت قوات الديكتاتور بيرون إلى قمعها... لكن الحلفاء لم ينسوا لها ذلك الموقف إذ سارعت الحكومة البريطانية إلى اختيارها من بين الأميركيين اللاتينيين جميعاً لتحضر محاكمات نورمبورغ ضد القيادات النازية حيث أُجلست في الصفوف الأولى ما جعل كاميرات العالم أجمع تصورها في لحظة مجد نادرة.
بين "الأنا" و"الأنت"
ولكن إذا كان العالم كله قد خص تلك السيدة للمناسبة باحترام وتقدير تستحقهما، فإن السلطات البايرونية التي ظلت فيكتوريا تحمل لها قدراً كبيراً من الاحتقار والعداء، راحت تراكم التقارير عنها، حتى اليوم الذي انفجرت فيه قنبلتان في ساحة "2 مايو" في العاصمة الأرجنتينية خلال تظاهرات احتجاج نظمها الاتحاد العام لعمال الجمهورية الأرجنتينية، فسارت الشرطة إلى اعتقال فيكتوريا متهمة إياها بالتواطؤ في ذلك... لكن كتاباً من أنحاء العالم كافة إضافة إلى التشيلية غابرييلا ميسترال حاملة جائزة نوبل للآداب والرئيس الهندي جواهر لال نهرو، احتجوا على ذلك كما أشرنا، ما دفع السلطات إلى إطلاق سراح السيدة التي كانت قد تجاوزت الستين من عمرها يومذاك. ومنذ ذلك الحين باتت فيكتوريا تعتبر من بين كبار "حكماء العالم" رغم تواضعها الذي تخفيه مثلاً تلك الكلمات التي وجهها إليها الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار يوماً قائلاً في تعليقه على عدم كتابتها إلا نصوصاً توثيقية وبحثية: "أنت لم تخافي يا سيدتي أبداً من "الأنا" وذلك ببساطة لأنك كنت دائماً متنبهة للـ"أنت"، هذا الضمير الذي يتخذ فيه ضمير المتكلم "أنا" كل معناه"...
أرستقراطية في ميدان الثقافة
بقي أن نذكر أن فيكتوريا أوكامبو ولدت عام 1890 في بوينس آيرس لعائلة بالغة الثراء ما مكنها من أن تتلقى كل دراستها بالفرنسية على عادة الأرستقراطيين الأرجنتينيين. وهي بدأت تنشر نصوصاً بحثية في عام 1924 بتشجيع من الفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غاسيه، ما أدخلها حلقات الثقافة الفرنسية والإسبانية من باب عريض لكنها فضلت دائماً أن تكون راعية للفنون وللقضايا الإنسانية الكبرى على أن تكون مبدعة في تلك الأصناف الإبداعية التي جربتها لكنها سرعان ما تخلت عنها على عكس واحدة من أخواتها الست، سيلفانا، التي ستصبح لاحقاً واحدة من كبيرات كاتبات الأرجنتين.