تعد مدينة عمريت في سوريا واحدة من أهم الحواضر الفينيقية، التي شكلت في فترات ازدهارها أكبر تجمع ثقافي حضاري على ساحل شرق المتوسط، جامعة المظاهر الدينية الملتزمة والحضارية الترفيهية جنباً إلى جنب، هذا ما دلنا عليه الامتداد الكبير للمساحة الأثرية المسجلة التي تزيد على 6 كيلومترات مربعة وتنوع الهياكل الأثرية على دورها التجاري المهم.
وهي تقدم اليوم، ومعها مدينة بعلبك اللبنانية، صورة استثنائية عن تطور الحضارة الفينيقية.
ماراثوس
عرفت عمريت في الكتابات اليونانية باسم "ماراثوس"، وكانت تابعة لمملكة أرواد واعتبرت ضاحية برية لها، إذ خصصها الأرواديون لبناء منشآتهم التجارية والمعمارية والمساكن والقبور، وكان لعمريت أهمية اقتصادية كبيرة وعلاقات تجارية مع كل دول البحر المتوسط وخصوصاً اليونان، حيث نقلت لها فلسفتها وديانتها وصناعتها وزراعتها، وقد قدمت النقود البرونزية المكتشفة، والتي نقش عليها اسم "ماراثوس"، دليلاً قوياً على أهمية عمريت التجارية.
وأثبتت الدراسات التي أجريت في تل الموقع مرجعية السوية التاريخية الأثرية إلى الألف الثالث قبل الميلاد (الفترة الأمورية). كما يؤكد مدير معهد تاريخ وآثار الشرق الأدنى القديم هورست كلينكل، أن الأطلال الحالية في عمريت تعود إلى الفترتين السلوقية والفارسية.
تضم عمريت معبداً وملعباً ومغازل ومرفأ أثرياً ومنشآت تابعة له ومجموعة كبيرة من المدافن الطابقية المتناثرة في كافة مناطق عمريت، ويعد موقعها الأثري نموذجاً مثالياً عن الفترة الفينيقية في سوريا.
المعبد
يُعد معبد الينبوع أو معبد الهواء الطلق واحداً من أشهر رموز عمريت، ويُعتقد أنه كان مكرساً للإله "ملكارت" في صور، إله الشفاء وتجدد الحياة عند الفينيقيين. ويتكون من بحرة أو حوض مركزي محفور في الصخر الطبيعي، كان يحيط به رواق محمول على دعامات ضخمة ما يزال بعضها قائماً حتى الآن. يصل الماء إلى الحوض من ينبوع داخل كهف في الضلع الجنوبي الشرقي للحوض، كان لهذا النبع دور في الطقوس الدينية التي كانت تقام في المعبد، وينتصب في وسط الحوض هيكل مربع منحوت ومغلق في أضلاعه الثلاثة ومفتوح في الضلع الرابع، ويتوج أعلى الهيكل شرفات مدرجة.
ويتربع فوق هذا الإطار بنيان علوي مربع الشكل ويعلو جبهته شريط من المسننات المدرجة. كما يتقدم الهيكل، في الضلع الشمالي للرواق، بناء المذبح المحفور في الصخر، لم يبق منه اليوم إلا الجزء السفلي.
المدافن الملكية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يُظهر فن هندسة المدافن في عمريت وقوة الترميز الفلسفي، مدى الأهمية التي كان يوليها الفينيقيون للدفن ومراسمه، بدءاً من شكل المدفن وتفصيلاته الإنشائية والنحتية وصولاً إلى جدرانها المزينة بلوحات فريسك تحوي رموزاً لطواويس وأسماك، كما يلاحظ تأثر تصاميمها بالفنون الفرعونية واليونانية والفارسية، وهذا يعزز قوة دورها الثقافي والاقتصادي مع الحضارات الأخرى المحيطة.
يطلق أهالي المنطقة على هياكل المدافن اسم "المغازل". يتجاور اثنان منهما، والثالث يتفرد في جهة الجنوب. تقود درجات إلى داخل المدافن القائمة تحت المغازل، والتي تحيط بها حفر توضع بها توابيت فخارية.
كما وجد على سطح المدافن مُنشأة صناعية كانت تستعمل كمعصرة، وتعود إلى الفترة البيزنطية.
أقدم منشأة رياضية في العالم
يقدم ملعب عمريت الأولمبي نموذجاً أولياً في دراسة التطور التاريخي للعمارة الداخلية للصالات الرياضية عبر العصور، إذ يعد واحداً من أقدم المنشآت الرياضية في العالم، مثبتاً صحة الفرضية التي تتحدث عن أسبقية الرياضة الفينيقية على الرياضة الإغريقية، وعلى ظهور الألعاب الدينية الرياضية في فينيقيا، قبل الألعاب الإغريقية بعدة قرون، حيث احتفل الفينيقيون بألعابهم الرياضية الدينية بالقرب من المعابد قبل أن ينقلوا هذا التقليد إلى خارج أراضيهم، وكان هناك علاقة ربطت بين الملعب والمعبد تتعلق بطقوس دينية متداخلة مع منافسات رياضية تنظم تكريماً للإله بعل.
يقع الملعب في تجويف طبيعي بين هضبتين، حيث تشير هندسة مدرجاته إلى شكل حدوة حصان أو حرف "U"، ويمتد بطول 220 متراً وعرض 30 متراً، وتحيط به عشر درجات ارتفاع كل منها 0.6 متر، وتقدر سعته بـ11200 مشاهد (40 سنتيمتراً للشخص).
خصص الملعب للاحتفالات الرياضية الكبيرة، وفي مقدمتها ألعاب الستاديوم (الركض والقفر والرمي والمصارعة)، حيث نجد عند أطرافه بعض المنشآت والمباني التي كانت تقام فيها المسابقات والاحتفالات.
ويعتقد أن كلمة ماراثون جاءت من اسم المدينة "ماراثوس"، وفي هذا إشارة واضحة لأهمية ملعبها.
كشفت التنقيبات الأثرية عن بقايا دور ومنازل، وأقنية مائية متوزعة في المدينة بين المنشآت السكنية، بعضها مخصص للمياه الحلوة والآخر للمياه المالحة، كما يوجد في عمريت متحف يضم أهم المكتشفات الأثرية للموقع.
تجدر الإشارة إلى أن ما يعرض اليوم في عمريت ليس إلا جزءاً يسيراً من الآثار التي كشفت عنها التنقيبات أو التي تم تتبعها عن طريق الصدفة، إذ إن التنقيب الجدي في هذا الموقع لم يبدأ إلا قبل 50 سنة، وما زال المستقبل يبشر بالكثير.