مع اقتراب حلول موعد الذكرى الأولى لمحاولة الإطاحة برئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو، يعود المراقبون داخل بيلاروس وخارجها، إلى ما يسمونه بتقدير الموقف، واستيضاح أبعاد وآفاق تطوراته، ومدى نجاح كل من الأطراف ذات الصلة في تحقيق مراده، وما كان يبتغي تحقيقه من أهداف. وكانت أحداث الأمس القريب التي استبقت موعد حلول الاحتجاجات التي اندلعت في بيلاروس في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية في العاشر من أغسطس (آب) من العام الماضي، شهدت نشاطاً ملموساً من جانب الطرفين "المتصارعين" في بيلاروس، وكأنما يحاول كل منهما تأكيد عدالة موقفه، ونجاح سياساته التي اختارها سبيلاً لتحقيق مبتغاه.
وبينما حرص لوكاشينكو على تنشيط اتصالاته بحليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي التقاه خلال الأشهر القليلة الماضية أربع مرات، وجدنا غريمته سفيتلانا تيخانوفسكايا تشد الرحال إلى الولايات المتحدة في أول جولة لها في ما وراء المحيط، تنشد دعم "القوة الأعظم"، التي تعلق عليها شأن كثير من بلدان الفضاء السوفياتي السابق التي "شبت عن الطوق"، وأعلنت قرارها حول الخروج من ربقة ارتباطات الأمس مع "الشقيقة الكبرى" روسيا. ولم يكن غريباً أن ينضم الرئيس الروسي إلى هذه التحركات، بعد أن نجح في تهدئة وتيرة خلافاته مع البيت الأبيض، بما توصل إليه من "اتفاقات نسبية" مع غريمه جو بايدن في لقائهما الذي عقداه في جنيف في 16 يونيو (حزيران) الماضي. وكان بوتين بادر بتنفيذ ما وعد به، ونشر مقالته "العلمية السياسية" التي حاول من خلالها التأكيد أن الشعوب الروسية والأوكرانية والبيلاروسية هي شعب واحد، مستنداً في ذلك إلى كثير من مفردات التاريخ والجغرافيا التي جمعت بين طياتها أيضاً بعضاً من عناصر الإثنوغرافيا، والعقيدة الدينية، والفيلولوجيا أي علوم اللغة، وهي في هذه الحالة اللغة الروسية القديمة.
لقاءات تيخانوفسكايا
وفي الوقت الذي بدا فيه موقف الرئيسين بوتين ولوكاشينكو أكثر وضوحاً واتفاقاً تجاه كثير من القضايا المطروحة المتعلقة بمستقبل علاقات البلدين، بما في ذلك ما يتعلق بالتنسيق والتكامل حاضراً، واستكمال تنفيذ ما جرى الاتفاق حوله من بناء الدولة الاتحادية مستقبلاً، لم تسفر لقاءات زعيمة المعارضة تيخانوفسكايا في واشنطن عن مواقف حاسمة تجاه ما كانت تبتغيه وتنشده من "رعاة الحاضر والمستقبل" في البيت الأبيض. وكشفت لقاءاتها في البيت الأبيض ومقر وزارة الخارجية الأميركية عن المستوى الذي حددته واشنطن لعلاقاتها مع رموز المعارضة في بيلاروس. ومن هنا يمكن تفسير المعاني والدلالات التي اختارها المسؤولان في هاتين "القلعتين" الأميركيتين سبيلاً إلى تحديد المستوى الذي اختاراه للتعامل مع زعيمة المعارضة في بيلاروس.
فلم تجد تيخانوفسكايا الاهتمام الذي كانت تنشده من اللقاء مع أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركية. وكانت الخارجية الأميركية قصرت لقاءات زعيمة المعارضة البيلاروسية مع نائبة الوزير فيكتوريا نولاند التي تذكرها الأوساط الروسية والمعارضة من رموز الثورة البرتقالية في أوكرانيا، بما نزلت به إلى ميادين العاصمة الأوكرانية من "سندوتشات وفطائر" لتوزيعها على فصائل المعارضة التي افترشت قلب العاصمة في مطلع عام 2014. أما بلينكن فلم يحدد لها الوقت الكافي والمناسب لها، مكتفياً بإطلالة سريعة على مكتب نائبته، اقتصر خلالها على حديث خاطف أشبه بالتحية والسلام والسؤال عن الصحة والأحوال! هذه هي الصورة الحقيقية التي حاولت وزارة الخارجية الأميركية تجميلها ببيان اضطرت إلى الاعتراف فيه بأن فيكتوريا نولاند نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ومستشار الوزارة ديريك شول التقيا في واشنطن مع المعارضة البيلاروسية سفيتلانا تيخانوفسكايا. وأشارت الوزارة، في بيانها الصادر بهذا الصدد إلى أن وزير الخارجية الأميركي كان حاضراً "في جزء من الاجتماع". ومضى البيان ليقول، إن اللقاء تناول "بحث ومناقشة ضرورة إنهاء الإجراءات القاسية المستمرة من جانب نظام الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، وتم كذلك التشديد على ضرورة الإفراج غير المشروط عن جميع السجناء السياسيين في بيلاروس، وإجراء حوار سياسي شامل، وكذلك انتخابات رئاسية جديدة تحت إشراف دولي". وأضاف البيان تأكيد الجانب الأميركي "على دعم الولايات المتحدة الثابت، للتطلعات الديمقراطية للشعب البيلاروسي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى نحو مماثل لما استقبلت الخارجية الأميركية تيخانوفسكايا، كان لقاء زعيمة المعارضة البيلاروسية في البيت الأبيض. فقد اقتصر برنامج زيارتها على لقاء مع جاك ساليفان مستشار الأمن القومي الأميركي الذي أكد لها دعم واشنطن "لشعب بيلاروس والاحترام لشجاعة وحزم المعارضة... في نضالها من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان". وأصدر البيت الأبيض بياناً يقول فيه، إن "الولايات المتحدة مع شركائها وحلفائها، ستواصل محاسبة نظام لوكاشينكو على أعماله، بما في ذلك من خلال فرض العقوبات"، إلى جانب مطالبة الإدارة الأميركية بضرورة سماح لوكاشينكو بإجراء تحقيق دولي في حادث هبوط طائرة "رايان إير" في مينسك يوم 23 مايو (آيار) واعتقال رومان بروتاسيفيتش الناشط البيلاروسي المعارض الذي كان على متنها. وأضاف البيان أيضاً المطالبة "بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والدخول في حوار سياسي شامل وحقيقي مع قادة المعارضة الديمقراطية وممثلي منظمات المجتمع المدني، إلى جانب العمل من أجل إجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة تحت رعاية وإشراف منظمة الأمن والتعاون في أوروبا".
أما عن اللقاء مع الرئيس جو بايدن فقد اقتصر على بضع كلمات لم تخرج بمضمونها عما قاله المسؤولون الأميركيون، وهو ما عاد بايدن وكشف عنه "ليس في بيان رسمي"، بل في تغريدة له عبر "تويتر" أرفقها بصورة تجمعه مع زعيمة المعارضة البيلاروسية وهو يتحدث إليها وقوفاً، يقول فيها "تشرفت بلقاء تيخانوفسكايا في البيت الأبيض هذا الصباح. وتقف الولايات المتحدة إلى جانب شعب بيلاروس في سعيه من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان". ومن اللافت في هذا الشأن، ان بايدن ومثلما قامت نولاند بتوزيع الفطائرعلى "ثوار كييف" من ممثلي الثورة البرتقالية في فبراير (شباط) 2014، حرص على مغادرة مكتبه بعد اللقاء، للحاق بضيفة البيت الأبيض، وتسليمها مجموعة منتقاة من "بسكويت البيت الأبيض" حسب وصف تيخانوفسكايا زعيمة المعارضة البيلاروسية التي أعربت عن سعادتها بما تلقته من أنواع البسكويت، أيما سعادة.
إدانة نتائج الانتخابات
كانت الولايات المتحدة تزعمت في مثل هذا الوقت من العام الماضي حملات إدانة النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في بيلاروس وفاز فيها الرئيس الحالي بنسبة تزيد قليلاً على 80 في المئة من أصوات الناخبين، متقدماً على مرشحة المعارضة سفيتلانا تيخانوفسكايا التي خاضت الانتخابات "بديلاً" عن زوجها الذي كانت سلطات بيلاروس اعتقلته قبيل إجراء الانتخابات، ما كان سبباً في اندلاع مظاهرات الاحتجاج والإدانة داخل بيلاروس وخارجها.
وعلى الرغم من ضراوة الحملات والتظاهرات التي اشتعلت عاصفة في بيلاروس في الأيام الأولى التي أعقبت إعلان نتائج الانتخابات، وتشدد بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكذلك الدوائر الغربية التي سرعان ما اتخذت قراراتها بفرض مختلف العقوبات ضد لوكاشينكو وعدد كبير من أنصاره، فقد صمد النظام بفضل الدعم المطلق من جانب روسيا وزعيمها بوتين. وكان الرئيس الروسي تجاوز كثيراً من أخطاء نظيره البيلاروسي، ربما تداركاً وإدراكاً من جانبه أن روسيا وقياداتها السياسية والعسكرية هي المستهدفة في نهاية المطاف بعد الإجهاز على بيلاروس بوصفها أحد أهم البلدان التي يمكن أن تغلق بها الولايات المتحدة حلقة حصارها حولها، وتنتهي من خطة إشعال الثورات الملونة ضد بلدان الفضاء السوفياتي السابق التي كانت حققت نجاحاً ملموساً في جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا. وقد بدا ما قدمته روسيا من دعم اقتصادي وعسكري، أحد أهم العناصر التي استندت إليها سياسات لوكاشينكو في تشددها ضد منافسيه ومعارضيه في الداخل البيلاروسي. ومن هنا وعلى الرغم من توقعات كثير من المراقبين حول احتمالات انفراجه نسبية، والإفراج عن أقطاب المعارضة من حبيسي النظام، لا سيما بعد أن أقدم لوكاشينكو على لقائهم داخل سجن "كي جي بي" في مينسك، فإن أياً من هؤلاء لم يصدر بحقه أي قرار بالإفراج عنه. بل وهناك من أصدرت المحكمة قرارها في 28 يونيو الماضي بحبسه مع الأشغال الشاقة لمدة 14 عاماً، وهو فيكتور باباريكو الذي كان أحد المرشحين الرئيسين للانتخابات الرئاسية السابقة منافساً لألكسندر لوكاشينكو، على الرغم من أنه كان يتمتع بعلاقات طيبة مع موسكو، فضلاً عن أن هناك من كان يعتبره أحد الشخصيات البديلة التي يمكن لموسكو الاعتماد عليها في حال رحيل لوكاشينكو لسبب أو لآخر.
وكانت مؤسسة "تشاتمان هاوس" البريطانية أجرت استطلاعاً للرأي عبر الهاتف حول مدى اتساع دائرة المناصرين لفيكتور باباريكو والرأي في موضوعية الأحكام، لتكشف النتيجة عن أن نسبة 90 في المئة من المشاركين في الاستطلاع لا تثق في عدالة الحكم الصادر ضد باباريكو. وكانت محاكم بيلاروس أصدرت أحكامها أيضاً ضد كثير من المعتقلين من ممثلي المعارضة بالسجن لفترات تراوحت بين أربع وسبع سنوات، وهو ما لقي إدانة كثيرين من ممثلي منظمات حقوق الإنسان في الداخل والخارج على حد سواء.
أما عن علاقات بيلاروس مع الدول المجاورة لها ومنها أوكرانيا وليتوانيا، فقد راحت تسير من سيء إلى أسوأ، لا سيما بعد أن أعلن الرئيس لوكاشينكو ما يسمى بحرب "الهجرة غير الشرعية" سلاحاً ضد من كانت بيلاروس ترتبط معهم بعلاقات تعاون وصداقة على النقيض من مسار سياسات التكامل والتنسيق مع الشريك الاستراتيجي في موسكو. وذلك في توقيت مواكب للكشف عن محاولات اغتيال رئيس بيلاروس وما جرى من تعاون مع موسكو في الكشف عنها وإحباط تنفيذها واعتقال عدد من مدبريها.
وبهذا الصدد يقول مراقبون، إن تزايد الضغوط وفرض مزيد من العقوبات ضد بيلاروس ورئيسها يمكن أن يدفع إلى الارتماء أكثر في أحضان موسكو. وتتعالى بعض الأصوات في بروكسل منادية بضرورة عدم التمادي أكثر في فرض العقوبات ضد روسيا، خشية ردود الأفعال التي لا بد أن تكون في نهاية المطاف في غير صالح التوجهات الأوروبية. ونقل موقع "لينتارو" الروسي عن غريغوري إيفي الأستاذ في جامعة رادفورد (فيرجينيا، الولايات المتحدة الأميركية) ما قاله حول أن "العقوبات الغربية ستضرب بيلاروس بشدة"، فضلاً عن تفاقم ما تواجهه من مشكلات جراء ما فرضته بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من عقوبات اقتصادية صارمة على بيلاروس، إلى جانب قطع علاقاتها الدبلوماسية مع جيرانها أوكرانيا وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة مجاورة. ومضى ليشير إلى المفارقة التي تقول إنه "إذا تحدثنا من حيث منطق رد الفعل الغربي على الأحداث في بيلاروس، فهذه حلقة رائعة للغاية من حيث الإنتاجية المضادة. لأن الاتحاد الأوروبي يدفع بيلاروس إلى أحضان روسيا أكثر من أي وقت مضى".
وخلص البروفيسور الأميركي إلى القول، إن عدد خبراء الشؤون البيلاروسية في العالم قليل جداً في العالم، مؤكداً أن "الذين يصنعون السياسة في الاتحاد الأوروبي ليسوا بالتأكيد واحداً منهم، فضلاً عن أنهم غير مهتمين بهذا"، في إشارة الى المأزق الذي تعيشه الدوائر الغربية ما جعل القائمين عليها "ضحايا أيديولوجيتهم الخاصة". واختتم تعليقه بقوله "عندما يدرك الاتحاد الأوروبي ما فعله عملياً مع بيلاروس، فسيكون الأوان قد فات. لكنهم سيجدون شبحاً آخر، ويوجهون انتباههم إليه ويبقون على جواد أبيض كمدافعين عن القيم الديمقراطية". وذلك يعني ما سبق وخلص إليه بوتين ورفاقه في موسكو حين قال، إن الاتحاد الأوروبي يحقق نتائج معاكسة تماماً لما قام بفرضه من عقوبات.