في ما تباينت ردود الأفعال والتحليلات في العاصمة الأميركية واشنطن حيال الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد وانعكاس ذلك على مسيرة الديمقراطية من ناحية، وعلى استقرار الوضع في البلاد من ناحية أخرى، ظلت الإدارة الأميركية حذرة في تعاملها مع الوضع في تونس، وامتنعت عن وصف الإجراءات بأنها انقلاب على الدستور، واكتفت بالمطالبة بالعودة إلى مسار الديمقراطية، فما هي مصالح وحدود الدور الأميركي في تونس، وما الذي ترغب واشنطن في تحقيقه ليخدم مصالحها؟
تعامل حذر
يثير إبقاء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على تعاملها الحذر حيال قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد تجميد عمل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، وتنصيب نفسه نائباً عاماً واعتزامه تكليف رئيس وزراء جديد بتشكيل حكومة جديدة مؤقتة، كثيراً من التعليقات وردود الأفعال المختلفة في واشنطن حول دوافع ومصالح الإدارة الأميركية وحدود الدور الذي يمكن أن تضطلع به خلال هذه الأزمة، فقد امتنعت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، عن وصف قرارات الرئيس التونسي بأنها انقلاب على الدستور، بعدما أعلن سعيد أنه استند إلى الفصل 80 من الدستور الذي يمنحه صلاحية اتخاذ تدابير استثنائية في حالة وجود خطر داهم يهدد الأمن القومي، في وقت لم تتشكل بعد المحكمة الدستورية التونسية، المنوط بها الفصل في مثل هذه الأمور.
وبعد نحو أسبوع كامل من هذه الإجراءات لم يتصل الرئيس بايدن بنظيره التونسي ولم يعلق على إجراءاته، واكتفى البيت الأبيض باتصال هاتفي استغرق ساعة، أجراه مستشار بايدن للأمن القومي جيك سوليفان مع الرئيس سعيد أكد فيه دعم إدارة بايدن الديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون والحاجة الضرورية كي يرسم قادة البلاد الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي، ما يتطلب تشكيل حكومة جديدة بسرعة بقيادة رئيس وزراء قادر، لتحقيق الاستقرار للاقتصاد التونسي ومواجهة جائحة "كوفيد-19" التي تعصف بالبلاد.
وفي وقت كانت مطالبات سوليفان خلال الاتصال مماثلة مع اتصال سابق أجراه وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي شجع الرئيس سعيد على التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن الإدارة الأميركية لا تزال تتعرض لضغوط قوية عكستها أصوات بارزة في الكونغرس والصحافة الأميركية كانت أكثر انتقاداً لما جرى في تونس، فقد دعا السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، إلى تواجد الولايات المتحدة والغرب على الأرض في تونس، بينما طالب باحثون بتعليق كل المساعدات الأميركية واتخاذ مواقف مشددة تجاه الرئيس سعيد، وهو ما شبهه كثير من التونسيين على وسائل التواصل الاجتماعي بالاستعمار الجديد.
بايدن تحت الضغط
بالنسبة إلى بعض المشرعين في الكونغرس وخبراء الشرق الأوسط في مراكز البحوث والدراسات في واشنطن الذين يرون في إجراءات الرئيس التونسي بداية لانتزاع السلطة لنفسه، فإن إدارة بايدن على المحك الآن، لأنها تعهدت بالدفاع عن الديمقراطية حول العالم، ولهذا ينبغي أن تتحرك بشكل أكثر فاعلية لإدانة الرئيس وتحذيره، وإطلاق ضوء أحمر يجبره على التراجع، ومبررهم في ذلك أن ما هو على المحك أكثر من مجرد ديمقراطية مختلة في دولة يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة على أطراف العالم العربي، لأن الحفاظ على الوضع في تونس يمكن أن يساعد في توفير حل طويل الأمد للمشكلة المستمرة للإرهاب الذي تشنه الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل "داعش" و"القاعدة".
ويصور هؤلاء تونس باعتبارها حالة فريدة من نوعها في العالم العربي لأنها المكان الوحيد، حسب زعمهم، الذي انفصل فيه حزب إسلامي بشكل كبير عن الحركات الإسلامية الأكثر تطرفاً مثل جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، وأن قادة حركة "النهضة" أدركوا في وقت مبكر أن انفصالهم هذا كان استراتيجية فعالة للوصول إلى السلطة، وأنهم حولوا الحركة عام 2016 إلى حزب سياسي لا علاقة له بالدين، وتخلوا عن المطالبة بتضمين الشريعة الإسلامية في الدستور العلماني في خطوة نادرة بين الأحزاب الإسلامية الكبرى.
ولهذا يعتبر هؤلاء أن رفض إدارة بايدن محاسبة تحركات سعيد ووصفها بأنها استبدادية سيشجعه على التمادي، وسيقوض القوى السياسية داخل البلاد التي تدافع عن الفصل الدستوري بين السلطات، الذي حافظ على تجربة تونس الديمقراطية التي استمرت 10 سنوات، وأن موقف الإدارة الأميركية لا يهدد فقط الأمن القومي الأميركي والشراكات الاقتصادية في شمال أفريقيا، بل سيوفر حجة للمنظمات الإرهابية مثل "داعش" و"القاعدة"، للقول إن الديمقراطية هي نظام حكم فاشل، الأمر الذي لن يزعزع استقرار تونس فحسب، بل قد يؤدي أيضاً إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في شمال أفريقيا.
نفوذ أميركي كبير
تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ كبير تحت تصرفها، أهمها المساعدة الاقتصادية التي تشمل اتفاقية مؤسسة تحدي الألفية التي تم توقيعها أخيراً بقيمة 500 مليون دولار، كما خصصت الولايات المتحدة منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم التحول في تونس، تركز بالأساس على ضمان وتعزيز الأمن الداخلي والخارجي، ودعم الممارسات الديمقراطية والحكم الرشيد، والنمو الاقتصادي المستدام.
وفي عام 2019، وقعت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وتونس اتفاقية ثنائية للأهداف الإنمائية لمدة خمس سنوات لتوفير ما يصل إلى 335 مليون دولار، لدعم زيادة فرص العمل في القطاع الخاص وتعزيز الديمقراطية، كما وقع البلدان اتفاقات تعاون قانونية وتجارية عديدة، وأطلقا لجنة اقتصادية مشتركة عام 2016، وتواصل الحكومة الأميركية دعم جهود تونس لجذب الاستثمار الأجنبي، بخاصة في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والطاقة والأمن والزراعة والرعاية الصحية والسياحة، وبلغ حجم التجارة بين البلدين 931 مليون دولار، وفقاً لبيانات عام 2019، بعجز تجاري أميركي يبلغ تسعة ملايين دولار، وتتمتع واشنطن بنفوذ كبير في صندوق النقد يمكن أن يساعد حكومة سعيد التي تسعى للحصول على قرض مدته ثلاث سنوات بقيمة أربعة مليارات دولار من الصندوق.
وهناك نفوذ آخر في المجال الدفاعي، إذ وقعت تونس والولايات المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2020، اتفاقاً مدته 10 سنوات يغطي تدريب القوات التونسية وخدمات صيانة الأسلحة الأميركية، وهذا بعد أن شهدت العلاقات الدفاعية تطوراً خلال السنوات العشر التي أعقبت الثورة التونسية، وتركز التعاون على التدريب على مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود التونسية مع ليبيا المجاورة التي ينشط فيها المتطرفون الإسلاميون وقوى أخرى أجنبية، واستهدف الاتفاق الدفاعي طويل المدى مساعدة تونس على حماية موانئها البحرية وحدودها ودحر الإرهاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي عام 2015، صنفت واشنطن تونس على أنها حليفة رئيسة للولايات المتحدة من خارج "الناتو"، ما سمح بتعزيز التعاون العسكري بين البلدين اللذين يجريان مناورات مشتركة بانتظام، ومنذ عام 2011 قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية بمليار دولار إلى الجيش التونسي، وفقاً لقيادة القوات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم".
وبسبب هذا النفوذ الكبير للإدارة الأميركية، تطالب بعض الأصوات في واشنطن الرئيس بايدن بأن يفعل كثيراً لإيصال الرسالة إلى الرئيس سعيد بأن التدفق المستمر للمساعدات والاستثمارات الدولية والتعاون في المجالات كافة يجب أن يكون مشروطاً بالسلوك الديمقراطي.
وإضافة إلى حجب المساعدات الخارجية التي من المحتمل أن تؤدي إلى نتائج عكسية في بلد فقير مثل تونس، تمتلك الإدارة الأميركية أدوات أخرى يمكن أن تستخدمها، بما في ذلك الأدوات الرمزية المهمة مثل رفض الاجتماعات رفيعة المستوى، إضافة إلى الخيارات العملية، كمبيعات الأسلحة، لكن إدارة بايدن مترددة للغاية في استخدام أي منها.
حدود الدور الأميركي
لكن إدارة بايدن تبدو غير راغبة أو غير قادرة على فعل الكثير في تونس، لأن المسؤولين يتخذون مواقفهم بحذر، وينتظرون ليروا كيف ستسير الأمور قبل الإدلاء بأي تصريحات انتقادية بهدف الحفاظ على العلاقة التي تنامت مع تونس خلال السنوات العشر الأخيرة.
وعلى الرغم من اعتناق الرئيس بايدن قضية الديمقراطية، فإنه لم يشر إلى اهتمامه بإحياء ما تبقى من "الربيع العربي"، كما أشارت إدارته في مواضع كثيرة إلى تحول اهتمامها إلى المحيطين الهندي والهادئ، حيث يمكن أن تواجه الصين، وأنها لا تريد شيئاً من الشرق الأوسط، ولهذا يرى كثيرون أن بايدن بقدر ما هو مدافع عن الديمقراطية، يعد في الوقت ذاته ممارساً للسياسة الواقعية، ومن الواضح أن اهتمامه الرئيس ليس رعاية الديمقراطيات الجديدة في الشرق الأوسط، ولكن رعاية الديمقراطيات الناضجة في الدول الصناعية والمتقدمة ضد التهديدات الاستبدادية من القوى الكبرى مثل الصين و روسيا.
ويبدو أن بايدن، كرجل براغماتي، اعتبر أن الديمقراطية لم تكن مجزية بشكل كبير في تونس، فقد ظلت هشة منذ نشأتها وحتى الآن، وكان انتزاع سعيد للسلطة مرغوباً فيه بين الجماهير الحاشدة التي اشتكت من الفساد المستشري في البلاد، وتعاني بشدة من الاحتياجات الأساسية، ولهذا أصبح من الواضح أن الحديث عن ديمقراطية مستقرة ومستدامة يتطلب قدراً من الاستقرار الاقتصادي.
لكن ذلك لا يعني أن إدارة بايدن سوف تغض الطرف عما يجري في تونس، فإضافة إلى الضغوط الداخلية من أعضاء الكونغرس من الحزبين، تجد الإدارة نفسها ملزمة أخلاقياً دفع الرئيس سعيد إلى الالتزام بما تعهد به يوم اتخذ إجراءاته ضد الحكومة والبرلمان، ولهذا سيتعين على الرئيس الحفاظ على مكانته الأخلاقية العالية في تونس، بعدم التحايل على العملية السياسية لفترة طويلة.
رغبة واشنطن
بغض النظر عن مدى الإشكالية المتعلقة بالبرلمان، سيكون من الأفضل رفضه بأصوات المقترعين في الانتخابات، وليس عبر الإجراءات الأحادية أو التهديد بإطلاق النار، وإذا لم يمتثل الرئيس سعيد فإنه سيخاطر بخسارة دعم قوى سياسية حيوية في الداخل، فضلاً عن خسارته دعم وتأييد اللاعبين الدوليين، بخاصة الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من إدراك واشنطن أن رغبة التغيير كانت تختمر في تونس منذ فترة طويلة بعد الفوضى البرلمانية المتواصلة، والاقتصاد المتعثر، وأزمة حالات جائحة "كوفيد-19"، ورد فعل الحكومة الكارثي لها، وأن شعبية الرئيس سعيد حافظت على قوتها في استطلاعات الرأي، إلا أنها تريد التأكد بأن الديمقراطية لم تمت في تونس، ولكنها فقط في خطر.
ستكون الأسابيع الثلاثة المقبلة التي تنتهي عندها الـ 30 يوماً التي حددها الرئيس لتعليق البرلمان، حاسمة لتحديد المسار الذي سوف تسلكه البلاد، فإذا لم يتم وضع خارطة طريق للخروج من الفوضى الحالية بحلول ذلك الوقت، فإن الدولة تخاطر بعودة البرلمان مرة أخرى، بالتالي وضع البلاد أمام فترة من عدم الاستقرار التي لا ترغب الولايات المتحدة في رؤيتها مرة أخرى.