يثير النظام الضريبي في تونس الجدل بسبب انتقادات تتعلق بطريقة تطبيقه والسياسة الجبائية التي توصف بالفاشلة، حيث عجزت عن توفير الموارد الذاتية لميزانية الدولة منذ عقود. ويعود ذلك لعدم الامتثال للواجب في دفع الضرائب إضافة إلى الامتيازات الممنوحة لمؤسسات لطالما وصفت بالمستفيدة والمتهربة.
فتحولت إلى أداة معطلة ومكرسة لعدم العدالة الاجتماعية، ما دفع بطيف من المتخصصين في المجال إلى الدعوة إلى عملية الإصلاح في نظام الضرائب، مطالبين بتحقيق توفيق وتوازن صعب ودقيق بين المقتضيات الاقتصادية والمتطلبات الاجتماعية، أي بين الجدوى والعدالة.
وكان آخر تلك الدعوات، دعوة الرئيس التونسي قيس سعيد، أخيراً، سهام البوغديري نمصية، المكلفة تسيير وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، إلى إرساء عدالة "جبائية" للجميع على قدم المساواة.
ضعف الرقابة
ولطالما ارتبط نظام التحصيل الضريبي في تونس بالنظام السياسي الذي اعتمد جملة إصلاحات تهدف إلى تحسين المردود الجبائي. ويرى مراقبون أن تونس لا تزال بعيدة عن تحقيق معادلة واضحة بين الحقوق والواجبات في علاقة المواطن بالجباية، وبالإدارة الجبائية، التي تبقى متوترة ومتسمة بعدم احترام الواجب الجبائي.
واعتبر الباحث الاقتصادي حسين الديماسي أن "دافعي الضرائب في تونس ينقسمون إلى شرائح مختلفة، يسهل مراقبة البعض منها. ما يدفع إلى قيامها بهذا الواجب بصفة آنية. في حين يتمكن البقية من الإفلات. مما يتسبب في خسائر للدولة تحولت إلى نزيف دائم".
وتتسم عملية تسديد الجباية لدى الأجراء بالشفافية بحكم حصولها عن طريق الاقتطاع المباشر من الأجر، وبالتالي يصعب الإفلات منها. وتحتاج مراقبة الواجب الضرائبي لدى المؤسسات الاقتصادية الكبرى إلى رقابة لصيقة، إذ يجبرها القانون التونسي على التصريح برقم المعاملات والأرباح. ومن النادر أن توفر الأرقام الواقعية في محاولة لتخفيض معلوم الجباية لديها. وتعمد أجهزة الرقابة المختصة إلى إجراء تحقيقات خاصة في هذا المجال، بهدف التحري، لكن لا يتم اللجوء إليها بصفة مستمرة بل في تواريخ متباعدة. في حين يحتاج الأمر إلى رقابة مستمرة بحكم حجم هذه المؤسسات.
كما يتحول الاقتصاد غير المنظم إلى المستفيد الأكبر من عدم ردع الدولة في هذا المجال، بحكم اتساع هذه الفئة الطاغية على الاقتصاد التونسي، والتي تمثل الأغلبية الساحقة للمفلتين من تسديد الواجب الجبائي، وهي غير ملتزمة بسبب تعاطيها أنشطة موازية للاقتصاد المنظم، حيث يصعب مراقبة أنشطتها المعلنة والموثقة لدى الإدارة المختصة.
فئات ظالمة
وتمثل المهن الحرة في تونس، "الفئة الظالمة" وفق الديماسي، إذ يتجاوز عددها 400 ألف مهنة، ولا تضع الدولة التونسية نظاماً خاصاً لهذه الفئة المكونة من وظائف حرة مثل "الطب، والهندسة، والمحاماة"، وغيرها من المهن والأنشطة المدرة للأموال، ولا تخضع لنسبة جباية محددة، بل إلى نسبة تقديرية، ترتكز على التقدير العشوائي للأرباح بطريقة غير علمية.
ويعود ذلك إلى عدم توفر إدارة محاسبة لدى هؤلاء، ولم تبذل الدولة مجهوداً خاصاً لمراقبة هذه الفئة. إلا أن الحكومة التونسية عمدت منذ 3 سنوات إلى إلحاقها بالنظام الجبائي الحقيقي، وتغيير هذا المعيار التقديري، إلى الاحتكام إلى نسبة معينة من الأرباح. في خطوة إصلاحية غير مسبوقة لكنها اصطدمت بالرفض، كما بدا تعاطي السلطة المسؤولة ضعيفاً للغاية في مواجهة تلك القطاعات. وشكل ذلك مؤشراً على هشاشة الجهاز الرقابي في تونس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استراتيجية غير ناجعة
وتعود الوظيفة الرقابية إلى إدارة مختصة بوزارة المالية، وهو جهاز مكون من آلاف المراقبين، لكنه يتصف بضعف أدائه وعدم قدرته على تغطية الخريطة الجبائية في البلاد. وتبقى الاستراتيجية الرقابية الضامن الوحيد لضرب الإفلات من تسديد الواجب الجبائي، حيث تضع البلدان المتقدمة أساليب مراقبة دقيقة وذكية. ولا تفتقر الإدارة التونسية إلى الكفاءات اللازمة لوضع جهاز ناجع، إلا أن هذا الأمر لم يحدث حتى الآن.
71 في المئة من الموارد
وأدت كل هذه المعطيات إلى حرمان تونس من أهم الموارد الذاتية لتمويل الميزانية وتسجيل عجز في هذا المجال، ففيما توفر الجباية الضرائبية 90 في المئة من الموارد الذاتية في ميزانية مختلف الدول، فهي لا تتجاوز الـ71 في المئة من الموارد الذاتية للميزانية في تونس.
ويقع سد النسبة المتبقية لتمويل الميزانية التونسية على عاتق القروض. ويسهم التهرب الجبائي بطريقة مباشرة في رفع نسبة الاقتراض. وبات ذلك أحد أبرز العوامل التي دفعت إلى إغراق تونس بالديون، وفق الباحث الاقتصادي حسين الديماسي.
ويعود ذلك إلى النظام الجبائي المختل الممهد للتهرب وانعدام العدالة الجبائية، وعدم توفر رقابة ناجعة ومستمرة.
هدر المال العام
"ولا تستخدم أداة التحصيل الضرائبي كما ينبغي لدعم التنمية التشاركية ورفد المالية العمومية، بل تحولت إلى أسلوب لهدر المال العام"، وفق رمضان بن عمر، الناطق باسم "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية".
وأشار ابن عمر في حديثه إلى أن "الامتيازات الجبائية تحولت إلى نفقات جبائية بعد أن أسست لتكون في الأساس معاملات تفضيلية توفر للمؤسسات من قبل الدولة، عادة لتحفيز سلوك اقتصادي أو اجتماعي معين، مثل الاستثمار في المناطق التي تفتقر إلى التنمية. ولأن هذه الامتيازات تتعلق بضرائب أو استخلاصات جبائية مؤجلة فهي تؤدي إلى خسائر على مستوى موارد الدولة، ولذلك تعتبر إنفاقاً عمومياً غير مباشر، ومن هنا أصبحت إنفاقاً جبائياً. وتأتي بأشكال متعددة. ففي تونس، وجهت جميع الامتيازات الجبائية تقريباً نحو المؤسسات وليس نحو الأشخاص".
وتشمل أنواع الامتيازات الإعفاء الكلي من الضريبة، أو باعتماد نسب ضريبية مخفضة حيث يمكن للشركات أن تستفيد من نسبة ضريبة أقل من المعدل العام، والذي يبلغ في تونس 25 في المئة، أو من خلال الخصومات، وهي المبلغ الذي يمكن للشركات خصمه من قاعدتها الخاضعة للضريبة. وهي السياسة التي وضعها القانون لتحقيق أهداف مختلفة ويبقى المبدأ العام هو التشجيع على الاستثمار في أي مجال وخدمة المجهود الوطني. لكن لا تؤدي هذه السياسة وظيفتها في جزء كبير من المؤسسات المستهدفة، بسبب عدم دخولها دائرة الإنتاج على الرغم من الحصول على جميع هذه الامتيازات، وبالتالي وجب مراجعتها والتأسيس لعلاقة تعاقدية توفر المنفعة المتبادلة بين الدولة وهذه المؤسسات المتمتعة بالامتيازات.
حجم العجز الجبائي
ويؤدي عدم نجاعة المنظومة الجبائية في تونس إلى خسائر مالية تجسدت في عجز جبائي يبلغ 25 مليار دينار (9 مليارات دولار) سنوياً.
وتشكو المنظومة الجبائية من نقص في الدعم اللوجيستي وهو الركيزة الأولى للمراجعات الجبائية الرقابية، حيث لا يتجاوز عدد المراقبين 1600 موظف في الإدارة المعنية بوزارة المالية.
ويضاف إلى ذلك تشتت التشريعات والقوانين التي تحتاج إلى التوحيد تحت سقف تصور كامل لمنظومة ناجعة مدرة للأموال على خزينة الدولة.