انزلاق لبنان إلى وضع أمني وعسكري ومخاطر اندلاع مواجهة عسكرية مع إسرائيل، في ظل أزمته الداخلية متعددة الأوجه، السياسية والاقتصادية المالية المعيشية، ما لبث أن جرى ضبطه.
تدحرجت مظاهر التصعيد العسكري في شكل غير متوقع بين الأربعاء 4 والجمعة 6 أغسطس (آب) نتيجة إطلاق جهة مجهولة صاروخين من الجنوب اللبناني نحو شمال إسرائيل، سقط أحدهما في منطقة مفتوحة في مستوطنة كريات شمونة من دون إصابات أو أضرار تذكر، في حين سقط الثاني في الأراضي اللبنانية، بحسب ما أفادت المعلومات الأمنية، فردّت إسرائل فجر الخميس 5 أغسطس بقصف جوي لمنطقة مفتوحة في منطقة الجرمق، قضاء جزين، ما تسبب بحرائق في الأحراج.
وعاد "حزب الله" فردّ على هذا القصف بأكثر من 10 صواريخ على منطقة مفتوحة في محيط مزارع شبعا المحتلة، من دون إصابة الجيش الإسرائيلي، أعقبها الأخير بقصف مدفعي كثيف في محيط تلال كفرشوبا متسبباً بحرائق في الأحراج.
التسخين العسكري يزيح أزمات الداخل عن الشاشات
التسخين العسكري المتبادل على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية الجنوبية كان مفاجئاً، وطرح أكثر من علامة استفهام، خصوصاً أن شرارة هذا التصعيد الذي استنفر اتصالات التهدئة ومخاوف قوات الأمم المتحدة الموجودة في المنطقة من اندلاع مواجهات خطيرة، على الرغم من أن الجانبين، الجيش الإسرائيلي، و"حزب الله"، تقصّدا حصر القصف في مساحات مفتوحة غير مأهولة، ولا يوجد فيها مواقع أو عناصر عسكرية من الطرفين.
فجأةً، غاب عن شاشات التلفزة في لبنان وبعض التلفزيونات العربية والعالمية مشهد الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، الذي هز العالم، وملأت ذكراه الفضاء الإعلامي، باستعادة وقائع المأساة وكافة تفاعلاتها السياسية، ومنها إدانات أهالي الضحايا والجرحى، وعشرات الآلاف الذين دمرت أو تضررت منازلهم، للسلطة الحاكمة والمسؤولين الذين علموا بوجود مادة نيترات الأمونيوم التي تسبب انفجارها في المرفأ ذلك النهار بمآسٍ وكوارث ودمار... لتحتل أنباء التوتر في الجنوب الأولوية.
نقل التسخين العسكري أيضاً
أخبار الأزمة الحكومية وجهود الرئيس المكلف نجيب ميقاتي مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لإزالة العقبات من أمام ولادة هذه الحكومة التي ينتظرها ويلح على إنجازها المجتمع الدولي واللبنانيون كي تدير الأزمة الاقتصادية المالية بعد فراغ دام سنة.
الاتهامات للحزب والشرارة مجهولة الهوية
أفضت الاتصالات الدولية والمحلية التي ترعاها القوات الدولية (يونيفيل) إلى إبلاغ فريقي التصعيد المعنيين أنهما لا يريدان الحرب، إلا إذا أرادها الفريق الآخر، وهو الأسلوب الذي يعتمده كل فريق للتعبير عن أن التصعيد كان محسوباً له ألا يؤدي إلى توسيع المواجهة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذهب المراقبون إلى التفتيش عن سبب موجة التسخين هذه التي شهدها لبنان في ظرف حساس، فاعتبر بعضهم أن القصد منها تحييد الأنظار عن الوضع الداخلي المأزوم الذي يعرض "حزب الله" وحليفه الرئيس عون لحملات من خصومه المحليين والخارجيين، في حين جنح البعض الآخر إلى ربطها بحرب الناقلات في خليج عمان، وتفاعلاتها على الصعيد الدولي بعد اتهام إيران باستهداف ناقلة نفط تشغلها شركة إسرائيلية في إطار الحرب المخابراتية بين طهران وتل أبيب، وسط تهديدات أميركية وبريطانية بالرد على هذا العمل على الرغم من النفي الإيراني للمسؤولية عن استهداف الناقلة.
ما دفع إلى استنتاجات كهذه أن شرارة هذا التصعيد انطلقت الأربعاء 4 أغسطس، الذي كان يوم حداد وطني على ضحايا انفجار المرفأ الزلزالي، والذي امتلأ بفعاليات تحيي الذكرى، تخللتها مواقف تطاول كافة المسؤولين المتهمين من قبل الرأي العام، بأنهم إما قصروا، أو تواطأوا في الإبقاء على نيترات الأمونيوم في المرفأ، ما تسبب بانفجارها وبالمأساة التي ما زال اللبنانيون يعيشون تداعياتها الإنسانية المحزنة.
ومن بين من طاولتهم الاتهامات تكرار للشبهات التي رددتها في الأشهر الماضية بأن "حزب الله" تولى حماية استخدام مادة نيترات الأمونيوم من قبل حليفه النظام السوري، مع أن التحقيق لم يحسم هذه النقطة بعد.
لكن المشهد السياسي اللبناني لم يخلُ من تركيز خصوم الحزب على هذه التهمة، في وقت تصاعدت في الأسابيع الماضية التكهنات التي تنسب إلى الحزب بأنه يقف وراء إطالة الفراغ الحكومي في البلد، عبر ترك حليفه عون وصهره النائب جبران باسيل يبتدعان الشروط والعقبات أمام تأليفها.
لم يحتمل قادة "حزب الله" هذه الاتهامات، وفي كثير من الأحيان غضبوا من تكرارها، بمن فيهم الأمين العام حسن نصر الله في إحدى خطبه، فضلاً عن نفيه منذ وقوع الانفجار أن يكون لحزبه وجود في مرفأ بيروت.
فالأشهر الماضية شهدت المزيد من التجرؤ على الحزب من قبل معارضي دوره في لبنان. وفي خلال تظاهرات وفعاليات الذكرى ظهرت لافتات كتب عليها "لا نريد إيران". وفي هذه الحالة ليس مستبعداً أن يلجأ الفريق الذي تستهدفه الحملات الداخلية إلى افتعال مواجهة مع الخارج لتصبح الأولوية مواجهة "العدو"، بحسب خصوم الحزب.
يعتمد هؤلاء الخصوم في ربط التصعيد الذي حصل بسعيه إلى حجب الأنظار عن الحملات ضده، على أن شرارة التسخين الذي شهدته الجبهة الجنوبية اشتعلت من إطلاق الصاروخين، فيما كانت فعاليات الذكرى في أوجها، من دون أن تعلن أي جهة لبنانية أو فلسطينية مسؤوليتها عن العملية.
باتت هناك قناعة أن أفعالاً من هذا النوع لا تتبناها أي جهة يصعب أن تحصل في الجنوب من دون علم جهاز الأمن الفعال في الحزب.
وغالباً ما تتوخى تسطير رسالة إما للجانب الإسرائيلي أو للداخل اللبناني، خصوصاً أن إطلاق الصاروخين لم يحدث في ظل أي فصل من فصول المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية التي بررت في حالات سابقة لصق العملية بعناصر فلسطينية ترغب في نصرة فلسطينيي الداخل... هكذا لا يتهم الحزب بأنه البادئ، لكنه يتوقع ردة الفعل الإسرائيلية، فيبرر لنفسه الرد على عليها بقصف يعلن مسؤوليته عنه بحجة أن العدو قام بخرق الهدنة.
وفي المقلب الإسرائيلي فريق حاكم على رأسه يائير ليبيد أكثر تطرفاً من اليميني بنيامين نتنياهو، ينتهز الفرصة، لأسباب داخلية أيضاً من أجل إثبات تشدده أكثر من سلفه، فاستخدم الطيران للمرة الأولى منذ سنوات، للرد على على صواريخ "مجهولة الهوية".
يلفت بعض خصوم الحزب إلى أن تقصّد توقيت الصاروخين مجهولي الهوية في 4 أغسطس، الذي خصصت له محطات التلفزة منذ أسابيع برامج جرى بثها وصولاً إلى فتح الأثير لفعالياته على مدار الساعة، يرمي إلى خلق حدث ينقل الاهتمام إلى موضوع يتسم بقدر من الخطورة الأمنية والعسكرية، من باب المواجهة المحتملة مع إسرائيل من ناحية، ومن ناحية أخرى يلاحظ هؤلاء أن اليوم نفسه لإطلاق الصاروخين، شهد المؤتمر الدولي الذي رعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر تقنية الفيديو، والذي تخللته كلمات من رؤساء ووزراء خارجية وممثلي 30 دولة أجنبية وعربية ذات دلالة سياسية حمل فيها كبار قادة هذه الدول الحكام اللبنانيين والطبقة السياسية، مسؤولية تمادي الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية لعدم تشكيل الحكومة التي يشترط المجتمع الدولي قيامها لتقديم المساعدات للدولة اللبنانية كي ينهض البلد من المأزق الذي هو فيه.
وبمعنى آخر، جرى التصعيد في الجنوب في ظل ظروف متشابكة محلية وخارجية، تعزز استمرار الإدارة الخارجية لأزمة لبنان، والتي كان "حزب الله" اعترض على بعض جوانبها، لا سيما عندما ازداد التنسيق الأميركي - الفرنسي.
مؤتمر باريس وحضور بايدن والوزير السعودي
لكن هذا المؤتمر انتهى إلى جمع 370 مليون دولار قيمة مساعدات إنسانية ستقدم إلى اللبنانيين عن طريق منظمات المجتمع المدني، لا عن طريق المؤسسات الحكومية خشية ابتلاعها من الفساد السياسي والمالي الذي يعشش فيها، وللحيلولة دون استخدامها في الحملات الانتخابية قبل أشهر من الانتخابات المنتظرة في مايو (أيار) 2022 المقبل...
تميز المؤتمر بمؤشرات تلقي الضوء على التوجهات الدولية حيال الوضع اللبناني المعقد، إضافة إلى الحرص على تجنب تقديم المساعدات عن طريق المؤسسات الرسمية.
أول المؤشرات حضور الرئيس الأميركي جو بايدن الذي مثله مثل الرئيس ماكرون الذي أنّب الطبقة السياسية على النكوث بالتزاماتها، حض على التحرك "الآن" لتأليف حكومة طال انتظارها.
إلا أن لحضور بايدن الذي اختار دعم المبادرة الفرنسية والوقوف خلفها بدلاً من الانخراط المباشر في جهود معالجة الأزمة، دلالات أهمها حسب المتصلين بالإدارة الأميركية ودبلوماسييها، أنه رسالة بأن واشنطن لم تترك المنطقة، كما يعتبر معظم الأوساط، على الرغم من تركيز إدارته على مواجهة الصين. وثانياً تأكيد العزم على مساندة التحرك الفرنسي. وثالثاً، استجابة لتحرك لوبي لبناني مؤلف من أميركيين من أصل لبناني وبعض أعضاء الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين، على أن تعيد الإدارة الاهتمام بإنقاذ لبنان من أزمته، وتجنب انتقاله إلى الفوضى في حال الانهيار الكامل.
إلا أن عودة واشنطن إلى الانخراط في لبنان تزعج إيران والحزب الذي اعتبر تشكيل الحكومة تحت الضغط الفرنسي - الأميركي "إذعاناً لانتداب أميركي - فرنسي"، منذ أن طرح الرئيس المكلف السابق سعد الحريري صيغته الحكومية قبل أن يعتذر.
ازدياد الانخراط الدولي لبنانياً يقلق الحزب
وعلى أهمية حضور الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي المؤتمر، خصوصاً أنه الداعم العربي الأول للمبادرة الفرنسية، ويعتبر نفسه شريكاً فيها، فإن مشاركة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، بناءً على إلحاح فرنسي - أميركي، بعد أن كانت الرياض قد غابت عن المؤتمر الذي رعته فرنسا مع الأمم المتحدة لدعم الجيش اللبناني، كانت عاملاً جديداً على طريق انخراط السعودية في المعالجات لأزمة لبنان، الذي تعتبر أن قادته يخضعون لنفوذ "حزب الله" وإيران.
وعبّر الوزير ابن فرحان عن الموقف السعودي بقوله، "نجدد التضامن مع الشعب اللبناني في أوقات الأزمات والتحديات"، لكنه رد الأزمة اللبنانية إلى "إصرار (حزب الله) على فرض هيمنته يمثل السبب الرئيس لمشاكل لبنان".
وحثّ السياسيين اللبنانيين "من جميع الأطراف على تأدية واجبهم الوطني لمواجهة هذا السلوك، تحقيقاً لإرادة الشعب اللبناني في مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات اللازمة".
وربط "أي مساعدة تقدم إلى الحكومة اللبنانية الحالية أو المستقبلية تعتمد على قيامها بإصلاحات جادة وملموسة، مع ضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها وتجنب أي آلية تمكن الفاسدين من السيطرة على مصير لبنان".
تحييد الضغوط على الحليف الرئاسي
شكّل المؤتمر ضغطاً إضافياً على "حزب الله" في ظل سيطرته على القرار اللبناني، وإن لم يسمه الرؤساء والوزراء الذين حضروا، لأنهم أجمعوا على إدانة الطبقة السياسية وعلى الذين يعرقلون قيام حكومة جديدة، المتهم بتأخيرها حليف الحزب الرئيس عون، والذي يقف الحزب وراءه.
فقيادة الحزب تترك لعون وصهره النائب جبران باسيل وضع الشروط التعجيزية على ولادة الحكومة، فيما تصاعدت الحملات الداخلية عليه بأنه هو من يحجب تلك الولادة، ويتلطى بحليفه الرئاسي.
ويرى عديد من السياسيين أن التسخين في الجنوب ينقل الضغوط على عون كي يسرع تأليف الحكومة مع الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، إلى التركيز على ضمان خفض التصعيد في الجنوب، ومناقشة الشكوى التي قدمها لبنان الرسمي على إسرائيل لقصفها الأراضي اللبنانية.
كما أن التسخين جنوباً رسالة إلى المجتمع الدولي بأن الحزب قادر على قلب الطاولة إزاء ما يتعرض له وحليفه عون من تهديدات بفرض عقوبات على معرقلي الحكومة، تحدث عنها ماكرون، ومن ثم وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن.
أما بالنسبة إلى قراءة بعض الأفرقاء، فتذهب أبعد من العوامل المحلية، وترهنه بالتطورات العسكرية الأمنية في وقائع المواجهة الإيرانية مع الدول الغربية، بعد اتهام الأخيرة من دول الناتو إلى مجموعة الدول السبع طهران بأنها وراء الهجوم على ناقلة النفط التي تشغلها شركة إسرائيلية في بحر عمان، على الرغم من نفيها ذلك. وهو ما دفع زعيم تيار "المستقبل" إلى القول في تعليقه على أحداث الجنوب، إن "لبنان ليس جزءاً من الاشتباك الإيراني - الإسرائيلي في بحر عمان، والدولة بقواها العسكرية والأمنية الشرعية هي المسؤولة عن حماية المواطنين وتوفير مقومات السيادة". كما حذر من "استخدام الجنوب منصة لصراعات إقليمية غير محسوبة النتائج والتداعيات".
سواء أكان هدف التصعيد يخدم أهدافاً داخلية للحزب أم إقليمية وإيرانية، فإن التصعيد المضبوط بالأغراض السياسية التي تقف وراء القيام به تسبب بردود فعل عكسية عليه، وبمزيد من التجرؤ ضد سلوكه من قبل أهالي بلدة شويا الدرزية في منطقة العرقوب الجنوبية، حين صادروا الراجمة التي استخدمها لإطلاق الصواريخ من محيطها، وضربوا العناصر الحزبية وحطموا آلياتهم نتيجة سخطهم من استخدام منطقة قريبة من منازلهم، ومن احتمال رد إسرائيل في شكل يؤدي إلى استهداف القرية. وكاد الأمر يتطور إلى مواجهات مذهبية لولا تدخل القيادات من الفريقين.