استلزمنا الأمر مليون سنة فقط كي ندرك طريقة صنع الثياب. ويقع ذلك الوقت بين الزمن الذي بدأنا فيه التخلص من شعر أجسادنا لنغدو قردة عارية، والزمن الذي شرعنا فيه بستر أجسادنا بجلود الحيوانات كي نتدفأ. الدليل على هذا من الناحية الأركيولوجية (الآثارية) واضح إلى حد كبير. بيد أن الأمر لا يعني طبعاً أننا سنجد أمامنا كماً كبيراً من مخلفات ثياب الحفلات ومعاطف الفرو العائدة إلى العصر الحجري. لكن لدينا (على الأقل) بنطال صوفي عمره 3 آلاف سنة، بنقشات تزينية مطرزة على ساقيه (ارتداه خيالة من الرحل في آسيا الوسطى). أما الأسمال الأقدم التي بحوزتنا الآن – بعضها محبوك بخيوط كتان ملتوية – فتعود إلى نحو 34 ألف سنة.
كذلك يمكننا العثور على دليل أقدم في هذا الإطار يتمثل بأدوات كانت تستخدم لإنتاج الثياب. إذ جرى العثور على أدوات يدوية، مثل المثاقيب والإبر، من النوع الذي كان سيلزم لقطب وتخييط جلود الحيوانات وتحويلها إلى قطع لباس، وتعود تلك الأدوات المكتشفة إلى نحو 50 ألف سنة (وجد أبرزها في كهف دينيسوفا في سيبيريا). وإذا منحنا التقدير الزمني هامشاً أوسع وأخذنا في الاعتبار الأدوات الأكثر بدائية التي عثر عليها، فإن نماذج الثياب الأولية تعود فقط إلى فترة نشوء الإنسان العاقل (الـ هوموسابيان)، أي إلى نحو مئة ألف أو مئتي ألف سنة (أصل قملة الجسم، التي تعيش في الثياب، قد يعود إلى ما يناهز الـ 170 ألف سنة). لذا من الواضح أن أسلافنا البشر كانوا قد عاشوا عراة بالكامل، طوال مليون سنة على الأقل.
وقد ساهم كل من عاملي المناخ (في أفريقيا) والحركة السريعة (هرباً من حيوان، أو جرياً خلفه لاصطياده) بضمان دفئنا إلى حد مقبول. ومثلت فكرة العري في الحقيقة مفارقة تاريخية: إذ كيف كنا سنتمكن حتى من إدراك أننا عراة قبل أن يصبح لنا خيار أن لا نبقى عراة؟ من هنا، فإن إدراكنا لعرينا السابق، لم يحصل إلا حين اخترعنا الثياب. وقد ولد على الأثر فكرة، أو مفهوم، المرء "العاري" – المجرد من الثياب. في النهاية، وتزامناً مع حقبة رسومات الكهوف تقريباً، نشأ فعلياً احتمال "البورنوغرافيا".
التوراة من جهتها تعيد إبراز هذا الأمر: استخدام أوراق التين هو ما جعلنا نشعر بالعري من دونها (إن غابت تلك الأوراق).
كذلك فإن البيكيني الجذاب، المصنوع من جلد حيواني بأطرافه المقصوصة طبيعياً، كالذي ارتدته راكيل ويلش في فيلم "مليون سنة ق م" One Million Years BC (اعتمد الفيلم شعار "هكذا كانت الحال" This is the way it was)، كان الإقبال عليه كبيراً ففاق الطلب عليه كمياته المتوافرة. إذ إن الثياب وفرت لنا الحماية في وجه الرياح التي ازدادت برودة ما أن ارتحلنا خارج أفريقيا، ومضينا نتوغل صعوداً في أعماق سيبيريا وآلاسكا، لنواجه العصر (أو العصور) الجليدي (ة). إذ ذاك قمنا بتطوير ثياب من عدة طبقات لتلافي لسعات الصقيع، وهكذا بات لدينا الثياب الداخلية. غير أن ما بدا مفيداً من الناحية العملانية كان أيضاً ممتعاً، وقد غدا بالتالي مرغوباً. وباتت الثياب غرضاً للرغبة، يمكن مقايضتها، ويمكن سرقتها. لكن في الحالة الأخيرة كان ينبغي قتل لابسها الأول قبل تمكنك من الحصول عليها والشروع في ارتدائها.
على أن الثياب أيضاً بدلت طريقة تفكيرنا. إذ قامت أدمغتنا باستيعاب فكرة التستر، وأحالتنا إلى الحطام المتأنق، لكن العصابي، الذي نحن عليه اليوم. في هذا الإطار، يجادل إيان غيليغان، أستاذ مادة عصور ما قبل التاريخ في جامعة سيدني ومؤلف كتاب "المناخ والثياب والزراعة في عصور ما قبل التاريخ" Climate, Clothing and Agriculture in Prehistory بأن اختراع تلك "التقنية" المبكرة (تقنية صنع الثياب) كانت له ارتدادات كثيرة في مسار تطور البشرية وارتقائها، وذاك يتضمن، على نحو بارز، مسألة بروز الزراعة. فالأمر لم يكن كله متعلقاً بصناعة الخبز والتخمير.
ويشير غيليغان في سياق مجادلته إلى ظاهرة احترار عالمية سابقة، سادت قبل 12 ألف سنة، إبان الانتقال من العصر الجليدي (البلستوسيني) إلى العصر الحديث (الهولوسين). فقد غدا المناخ آنذاك أكثر دفئاً ورطوبة. ولم يكن من المعقول في تلك المرحلة (الانتقالية) أن نقوم بمجرد التخلي عن ثيابنا ورمي معداتنا (التي كانت تناسب المراحل السابقة). بل كنا سنضطر إلى التحول من الثياب المصنوعة من جلود الحيوانات وفروها إلى الثياب المصنوعة من الأقمشة، بغية التخفف من الحرارة. وهكذا تلقائياً غدا القطن سلعة أساسية، تماماً مثل حال ألياف وأنسجة الموز البري في المناطق المدارية. كنا نزرع ونهتم بالقمح والغلال، لكن ما كنا نزرعه ونهتم به على نحو أساسي يتمثّل بالمزروعات المستخدمة في صناعة الثياب. كذلك كنا نربي ونرعى الخراف، والماعز، واللاما، والألباكا، من أجل جني صوفها.
ويقول غيليغان في السياق: "من الصعب تفسير ما دعا جماعات الصيد والجني في عصور ما قبل التاريخ إلى البدء بالزراعة، بمجرد الإشارة إلى حاجتهم للحصول على طعام، وهم ربما لم يحصلوا على طعام منها (من تلك الزراعات)". إذ كان يمكننا الاستمرار بالحصول على طعامنا عبر الصيد والجني. غير أن الحاجة إلى نوع ألبسة مناسبة نرتديها، نوع لا يلتصق بالأجسام ولا يتسم باللزوجة كحال الجلد والفرو الحيوانيين، هي ما دعتنا إلى ضرب جذورنا في الأرض كي نغدو مستقرين متحضرين، ونبدأ بصناعة النسيج.
كذلك في الإطار عينه، فإن ما يرتديه الناس يرد في التوراة والقرآن. "قميص يوسف زاهي الألوان والباهر"، مثلاً، أو "القميص ذو الألوان الكثيرة"، يظهر كيف أن بعض أنماط الثياب كان يمثل سلفاً علامة تميّز وربما يؤدي بسهولة إلى إثارة الحسد والعنف. كما يرد في الكتب المقدسة ذكر أدوات صناعة الثياب. "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله". واعتبر الحرير علامة للثراء الدنيوي، إن لم يكن علامة للحكمة. في المقابل، فإن السير من دون نعل مثل علامة للفقر. ولا يستحق الآثمون سوى أسمال الثياب والرماد. هذا وقد ارتبطت أنماط الثياب اللائقة بالقداسة. فالكهنة يرتدون أثواب متقنة، يتقربون عبرها من الله أكثر.
ويمكن القول، بكلام آخر، إن الثياب انفصلت بسرعة من البعد الوظيفي الصرف، ودخلت عالم الرمزية. وغدا الظهور من دون ثياب، مثلاً، أو ارتداء بعض القطع القليلة المتخففة، مقروناً بالبدائية والإثارة الجنسية، فجرت الدعوة بالتالي إلى تحريم ذلك أو ضبطه. فلم يكن غريباً في هذا الإطار استمرار توقيف (اعتقال) "المتسكع العاري"، خصوصاً في اسكتلندا. بيد أن تطور إحساسنا بالخجل والعار لم يرتبط فقط بالكابوس المطلق لسير المرء في الشارع العام مكتشفاً أنه نسي ستر نفسه بالثياب، بل ارتبط أيضاً بالثياب غير الملائمة عموماً.
في السياق ذاته، أسهمت ثيابنا بتشكيل طرق تفكيرنا. إذ أننا منذ "أوراق التين"، والمآزر المصنوعة من جلود السباع، اكتسبنا خاصية "إدراك الثياب". وبسرعة ننتقل نحو زمننا الراهن، بدءاً من مرحلة اختراع دولاب الغزل، والتحول الصناعي في عمليات انتاج الثياب، وصولاً إلى نشأة قطاع "البووهوو" Boohoo (بيع الثياب بكثافة عبر الإنترنت)، فقد أصبحنا الآن ورثة ذاك الهوس البدائي المتعلق بما نرتدي أو لا نرتدي.
وشاكايلا فوربس- بيل هي عالمة نفس متخصصة في العلاقة مع الثياب، وقد تكون قادرة على إنقاذنا من متلازمة إيميلدا ماركوس (زوجة زعيم الفيليبين الأسبق فرديناند ماركوس، الشهيرة بمجموعات ثيابها وأحذيتها). وكانت فوربس- بيل ترتدي عقداً من ألماس مرصع بجملة قائلة "لا تقلق، كن سعيداً". وهي ما زالت تتحسر بمرارة على ضياع ذلك العقد. عنه تقول "ذاك العقد كان ذريعة للشروع بأحاديث كثيرة. كان يفتح أبواباً أمامي". وثمة قمصان كثيرة اليوم تحمل جملاً وشعارات أو تعليقات لا قيمة لها، لكن جميع الثياب تحمل رسائل. وتقول القصيدة إن الثياب كأغنية عشق – وكقصة حب. فهي تعكس إلى الخارج التخيلات التي نتصورها عن أنفسنا.
درست فوربس- بيل علم نفس الموضة (أو علم النفس المتعلق بالثياب) في "جامعة كوليدج" بلندن، وحازت هناك على ماجستير في كلية الأزياء. مشروع تخرجها كان عن "الثياب والعرق" Clothing and Race، حيث ركزت على تحليل كيفية مساهمة كنزة ترايفون مارتن ذات القبعة في تحفيز مقتله الوحشي (مارتن هو أفريقي- أميركي من ميامي غاردنز، فلوريدا، عمره 17 سنة، قتل عام 2012 في سانفورد على يد هسباني أميركي [أميركي من أصول لاتينية]). واهتمت فوربس- بيل بالأزياء وعلم النفس على حد سواء، وقد توصلت اليوم إلى طريقة للتعامل مع الاختصاصين على موقعها الإلكتروني "فاشون إز سايكولوجي" Fashion is Psychology، الذي يستضيف مدونات تتعلق بالثياب ويتبع نظريات أكاديمية مركبة في تناول عيشنا اليومي. كذلك تعمل فوربس- بيل مع شركات ثياب، مثل "نيكست" Next و Sainsbury’s لدراسة وتحديد سلوكيات الزبائن ودوافعهم.
كل شيء نرتديه يتعلق بأمر آخر. وهو لا يقتصر أبداً على البعد المباشر. حتى لو ارتدى المرء سترة صوفية قديمة بالية، مثقوبة عند المرفقين، أو اشترى جزمته من متجر خردوات، فإن هذا يبقى خيار موضة وأسلوب. ليس هناك مهرب من ضروريات ومستلزمات الموضة. الحل الوحيد – إن استطاع المرء تأمينه – يتمثل بمنح نفسه خيارات. تشرح فوربس- بيل قائلة "أكره فكرة أن يكون لي أسلوباً موقعاً (تقصد موقعاً بالعلامات التجارية). يمكنني في يوم من الأيام أن أكون ملكة كرنفال كاريبية، وفي يوم آخر يمكنني أن أكون مثقفة أو امرأة أعمال، أو فتاة "بوهو" (نمط وأسلوب البوهو يستحضر المؤثرات البوهيمية والهيبية)". الصورتان المنشورتان هنا (في الأعلى) توضح الفكرة. وقبل الجائحة كانت فوربس- بيل تذهب في كل عام إلى كرنفال ترينيداد. عن ذلك تقول "الثياب هي أدوات. وعليك استخدامها للاحتفال بالجسد، بدل حجبه". ثياب فوربس- بيل الكرنفالية تعرف بثوب الـ "ماسكورادير" Masquerader، وقد صممته راولي بيرماناند، كما أنها كانت جزءاً من فرقة الـ "يوما".
جميع (أنواع وأنماط) الثياب تعلن عن انتماءاتنا. وهي قبائلية على نحو لا مفر منه. في السابق كانت الموضة "مودز" mods (موضة بدأت في بريطانيا متأثرة بالموسيقى) ضد "روكيرز" rockers (المتأثرون بموسيقى الروك). ثم جاءت موضة الـ "بانك" punk. أو الـ "غوث" (أي الأسلوب والمزاج القوطي). وتحاول فوربس- بيل مقاومة بعض أقوى تصنيفاتنا الخلافية. عن هذا الأمر توضح "في عام 2016 جاء محرر من (مجلة) فوغ Vogue وقال؛ إن نشرنا صورة عارضة سوداء على غلافنا فإننا لن نبيع. أنا أردت دحض هذا (الزعم). فالأمر كان يلحق الكثير من الأذى النفسي". ونشرت فوربس- بيل ورقة بحثية في مجلة "جورنال أوف ماركيت ريسيرتش" Journal of Market Research تورد فيها أن السود في العادة مستعدون للإنفاق أكثر على عطر تروج له عارضة سوداء. وتوضح "الإنفاق الأسود والأسمر متين على نحو لا يوصف. إننا نشهد تمثيلاً متزايداً، لكن عارضات الأزياء السود ما زلن أقل تمثيلاً على نحو غير متوازن".
بيد أن الثياب التي نرتديها يمكنها أيضاً التأثير في شعورنا تجاه أنفسنا. ويمكنها تعزيز مزاجنا (أو العكس تماماً). وتشير فوربس- بيل إلى أحد الاختبارات الذي أعطي الأشخاص المشاركين فيه قمصان (تي شيرت) "سوبر مان" لارتدائها. وقد شعروا بأنهم أقوى من المجموعة الأخرى من الأشخاص الذين لم يرتدوا تلك القمصان. وتنسب فوربس- بيل نتائج هذا الاختبار إلى القواعد "الاستدلالية" – التي هي مجموعة من الروابط التي نحملها معنا في أدمغتنا، ومصدرها بالدرجة الأولى الثقافة العامة المحيطة. فارتداء ثوب مختبر أبيض، في الحقيقة، يساعد المرء على أن يكون أكثر علمية، كما تساعده البذلة الرسمية على أن يكون أكثر استراتيجية.
لكن الراحة الجسدية الخالصة تمثل أيضاً أولوية رئيسة لـ فوربس- بيل. توضح "إن ارتدى الشخص ثياباً غير ملائمة، فإنها تصيح بالفشل. ارتدي ما يلائمك الآن، بحسب جسمك الراهن". وعندما حادثت فوربس- بيل كانت ترتدي قميصاً أبيض فضفاضاً وسروالاً رياضياً. وتقول "الثياب المريحة تسمح لك بالاستيعاب أكثر". تضيف "نحتاج إلى أن لا نشتت انتباهنا بالأشياء غير المريحة. الراحة تعزز الإدراك".
إنما تبقى طبيعة التأثير التي أنزلتها بذلة إلفيس (بريسلي) على إدراك هذا الفنان غير معروفة. ما أعرفه هو أن تلك البذلة تمثل الغرض الوحيد الذي يركز عليه جميع مقلدو إلفيس. كما يصادف أن هذه البذلة، بحسب وجهة نظري، تمثل واحدة من أكثر قطع الثياب عبثية طوال حقبة "ما بعد ورقة التين". وهي (بذلة إلفيس) تظهر أنه لا يوجد قطعة ثياب في العالم لا تحظى بمعجبين، مهما اعتبرها البعض سخيفة. والمعجبة ببذلة إلفيس بهذه المناسبة هي فوربس- بيل نفسها. عن هذا تشرح "الأزياء الجريئة والغريبة اعتمدها إلفيس كي يخطو قدماً في دوره كـ "ملك للروك". كذلك يستخدم مصممو الأزياء ملابس وقصات تساعد المؤدين في تلبية الشخصيات التي يؤدونها. وذاك ليس مجرد طريقة للفت الانتباه، بل طريقة لتجسيد السمات والصفات التي نراها مرتبطة بتلك الملابس. لا أحد ينظر إلى تلك البذلة ويفكر بـ "الأمان"، بل يفكر بـ "الجرأة"، و"الإقدام"، و"الإثارة" التي ترتبط بالمصمم بيل بيلو (مبتكر بذلة إلفيس) الذي كان متأثراً بالحقبة النابليونية".
كل خزانة ثياب تمثل فصلاً إثنوغرافياً كاملاً (دراسة الأعراق البشرية الوصفية)، وتحوي مخزوناً ثقافياً. كما أنها فضاء يتعلق فيه الحنين. والأخير يسكن في طيات كل تلك القطع والأثواب التي لا يمكنك التخلص منها. في هذا الإطار ما زالت فوربس- بيل تملك أطناناً من فساتين الحفلات التي تلائم شاكايلا عندما كانت في الـ 18 من عمرها. عن هذا توضح "عجزت عن الافتراق عنها، إذ إنها تمثّل ما كنته يوماً. ثيابك أشبه بصندوق ذكريات. فهي تأخذك إلى ماضي الزمن". وأنا إذ أنظر في خزانتي، أعاين ذلك، وإن جرى العثور على خزانتي وتنقيبها مرة أخرى بعد بضعة آلاف سنة، فسيكون هناك احتمال كبير في أن يظنوني، عن طريق الخطأ، شخصاً يدعي "بول سميث" (ماركة ثياب). وأنا الآن على الأرجح أشعر بالذنب تجاه هوسي بماركة ثياب.
لكن هل نحن ببساطة نشتري الكثير الكثير من الثياب؟ الثياب من دون شك لم تساعد فقط في جعل الناس أكثر دفئاً، بل في جعل الكوكب بأسره أكثر دفئاً بقليل، بالتالي أقل راحة للبشر. إنتاج الثياب اليوم مسؤول عن 10 في المئة من انبعاثات الكربون في العالم، هذا من دون ذكر المطامر (لطمر المخلفات الصناعية) واستخدام الماء. وفي عام 2020، تشير التقديرات إلى صنع 100 مليار قطعة ثياب جديدة.
نواجه خطر الغرق بالفائض. في خطر التعثر بثيابنا. الشخص الذي يملك ثياباً أكثر من أي شخص آخر أعرفه، يدعى إلسا. وهي تملك شقة علوية في ستوكهولم مكدسة بالثياب من الأرض إلى السقف (والسقف عالٍ جداً)، حيث هناك آلاف القطع. قبعات لا تحصى، وأحذية، وجزمات، وربطات عنق، وسترات لحفلات العشاء، ومعاطف، وفساتين لحفلات الرقص، وملابس وماركات من كل الأنواع، للرجال والنساء.
لكن لـ إلسا سبباً وجيهاً للاحتفاظ بكل تلك الثياب، يتمثل في أنها تزود المسارح وصناع الأفلام بالأزياء والملابس. وهي حين تصل مطاراً من المطارات، تضطر للانتظار طويلاً كي تظهر جميع حقائبها، التي تزيد على العشرة أو أكثر، على حزام الحقائب. كما يلزمها دفع مبالغ طائلة على حقائب إضافية يتضمنها متاعها. "أملك هراءً فائضاً" تقول إلسا حرفياً. وليس من المفاجئ ربما أنها تتخيل نفسها أقرب إلى شخصية جاك ريتشير الروائية، الذي يملك فقط الثياب التي يصادف ارتداؤه إياها في كل مرة (ويتخلص منها عندما تتلوث بدماء شخص آخر)، ولا يحمل سوى فرشاة أسنان قابلة للطي في جيبه.
من المحتم مع الحقبة الجديدة من الاحترار العالمي أن يكون الإقلال في ارتداء الثياب هو الشائع. حتى لو لم يكن المرء من أنصار العري، عليه الاعتراف بأن ثمة في تخفيف الثياب ما يحرر، خصوصاً السباحة عارياً في الصيف. كذلك، حتى صناع الثياب المحترفون، الذين يعيشون من صناعتهم تلك، يتوقون لاختبار العري من جديد، ولو لبرهة.
في قلوبنا ربما نود لو نعود إلى عصرنا الذهبي قبل مليون سنة، حين لم يكن علينا أن نبالي كثيراً بما نرتديه. "لا تقلقوا، كونوا سعداء" تبقى نصيحة سديدة.
*آندي مارتن هو مؤلف كتاب "ركوب أمواج، عرق، ودموع: حياة إدوارد جورج ويليام عمر ديرهورست الملحمية وموته الغامض" (منشورات أور بوكس)
Surf, Sweat and Tears: the Epic Life and Mysterious Death of Edward George William Omar Deerhurst (OR Books)
© The Independent