أحيت ليبيا الإثنين 9 أغسطس (آب) الذكرى الـ 81 لتأسيس الجيش الليبي بإمرة الملك السابق إدريس السنوسي، والذي أُطلق عليه بداية اسم "الجيش السنوسي"، قبل تحول الاسم إلى الجيش الليبي بعد استقلال البلاد عام 1951.
ومنذ تشكيل النواة الأولى لجيش ليبي نظامي عام 1940 لمواجهة الاستعمار الإيطالي، عاشت القوات المسلحة أحداثاً تاريخية أثرت فيها وتأثرت بها، أسهمت بصنع بعضها وأسهمت أخرى في تغيرات كبرى بالمؤسسة العسكرية الليبية، حتى وصل بها الحال بعد ثمانية عقود من المواجهة مع تقلبات السياسة وتبدلات التاريخ، إلى انقسام تام بين جيشين متضادين في العقيدة ومتنافسين على الشرعية.
وتحاول ليبيا بمساعدة دولية خلال السنوات الأخيرة لملمة شتات ما تبقى من الجيش الليبي الذي بناه إدريس السنوسي وتبناه، ثم فتته الرئيس معمر القذافي في حرب غريبة على تشاد، وقضت على ما تبقى منه ضربات حلف الناتو أثناء الثورة الشعبية ضد النظام في عام 2011.
التأسيس في مصر
كان يوم الـ 20 مـن أكتوبـر (تشرين الأول) 1939 اليوم الذي تم فيه الاتفاق على تأسيس جيش ليبي منظم للمرة الأولى بمبادرة من الأمير وقتها محمد إدريس المهدي السنوسي، الذي دعا عدداً من الزعامات الليبية التي هجّرتها قوات الاحتلال الإيطالي إلى مصر، لعقد اجتماع في منزله بمدينة الإسكندري استمر لثلاثة أيام، بحضور نحو 40 من الوجهاء والزعماء الليبيين، واتفق الحاضرون على إعطاء الإذن للأمير إدريس السنوسي، بمفاوضة الحكومة الإنجليزية لمساعدتهم في تكوين جيش ليبي مهمته المشاركة في تحرير ليبيا من الاستعمار الإيطالي.
وصدر عن الاجتماع وثيقة جاء فيها "اجتمع زعماء ومشايخ الجالية الطرابلسية البرقاوية المهاجرون بالديار المصرية بالإسكندرية، وتشاوروا في حالهم المستقبلية وقر قرارهم على انتخاب من يمثلهم في كل الأمور ويعبر عن آرائهم، وبذلك وضعوا ثقتهم في الأمير السيد محمد إدريس المهدي السنوسي الذي يمثلهم تمثيلاً حقيقياً لما له من المكانة الرفيعة في نفوسهم، حيث يرونه أحسن قدوة يقتدى بها".
وتواصلت مفاوضات الملك السنوسي مع السلطات البريطانية أشهراً عدة قبل موافقة الأخيرة على دعم تأسيس الجيش الليبي الوليد، وأسهمت المعارك التي اندلعت بين القوات الإنجليزية والإيطالية في صحاري ليبيا ومصر في دعم لندن للمشروع الليبي الطموح، وانتهت المفاوضات بالموافقة على تشكيل فصائل من الليبيين للمشاركة في الحرب إلى جانب الحلفاء لانتزاع بلادهم من أيدي الإيطاليين.
اجتماع حاسم
وفي السابع من أغسطس عام 1940 دعا الأمير إدريس إلى اجتماع آخر فـي القاهـرة استمر أيضاً ثلاثة أيام، وصدرت عنه قرارات تاريخية عُرفت بقرارات التاسع من أغسطس، والتي كان من بينها التعاون مع بريطانيا من أجل تخليص ليبيا من براثن الاستعمار الإيطالي، والإعـلان عـن الإمـارة السنوسيـة ووضع الثقة في الأمير محمد إدريس المهدي السنوسي المبايع بالإمارة، مع تعيين حكومة لتسيير شؤون الإمارة وتعيين هيئة تمثل القطرين في طرابلس وبرقة، وتكوين مجلس شورى للأمير وخوض غمار الحرب ضد إيطاليا إلى جانب الجيوش البريطانية وتحت راية الإمارة السنوسية.
ومنذ ذلك التاريخ يُعتبر يوم 9 أغسطس 1940 الذكرى السنوية لتأسيس الجيش الليبي، وبالفعل شاركت الفصائل الليبية بعد تدريب قصير مع الجيش الثامن البريطاني الذي كان يحارب تحالف المحور المكون من الإيطاليين والألمان، ولعبت العناصر الليبية شبه العسكرية دوراً دفاعياً بالخطوط الخلفية لتأمين قواعد الإمداد والتموين، إلى جانب اختيار بعض العناصر التي لها كفاءة لتدريبها لتكون من ضمن جنود الحلفاء الذين انضموا إلى الجيش الثامن.
شيئاً فشيئاً تم تنظيم العناصر الليبية في قوة أطلق عليها اسم "القوة العربية الليبية"، وسُمي أيضاً بـ "الجيش المرابط"، وفُتح معسكر للتدريب عند الكيلو 9 بهضبة الهرم على الطريق الرئيس الصحراوي القاهرة - الإسكندرية، وما زال النصب التذكاري لتأسيس هذا الجيش قائماً في ذلك المكان حتى الآن.
إعادة الهيكلة بعد الاستقلال
بعد استقلال ليبيا عام 1951أعيدت هيكلة الجيش الليبي، وشكلت وحدات نظامية قليلة التسليح، تلتها خطوة بارزة لتعزيز قدرات المؤسسة العسكرية ومنتسبيها بإنشاء أول مدرسة عسكرية في ليبيا سنة 1953 في مدينة الزاوية، لتخريج دفعات سريعة من الضباط إلى حين عودة الضباط الذين أرسلوا للتدريب في الخارج.
وفي بداية عام 1955، وبعد سنوات قليلة من تدريب الدفعات العسكرية وتخريجها تكون جيش ليبي صغير الحجم لا يزيد عدد أفراده على 2000 ألفي جندي وضابط، قبل افتتاح الكلية العسكرية ببنغازي سنة 1957، وهي الكلية التي تدرب فيها الرئيس التالي للبلاد معمر القذافي وزملاؤه الذين شاركوا معه في الانقلاب على الملك السنوسي عام 1969.
وفي العام 1959 بدأت الكلية العسكرية بتخريج ضباط نظاميين عاملين بالقوات المسلحة الليبية، وفي العاملين التاليين اكتملت أركان المؤسسة العسكرية بإنشاء القوات البحرية عام 1962، قبل تشكيل سلاح الجو بعدها بعام واحد، وهكذا عند لحظة الانقلاب على النظام الملكي في سبتمبر( أيلول) 1969، كان الجيش مكوناً من حوالى 650 ضابطاً ونحو 10 آلاف جندي.
انقلاب الجيش على مؤسسه
بعد عام واحد من انقلاب ضباط صغار في الجيش بقيادة الملازم معمر القذافي على مؤسسه الملك الراحل إدريس السنوسي، أدخلت تغييرات جذرية على الجيش بإنهاء التعاون في مجالات التدريب والتسليح والاستشارات مع بريطانيا، والتوجه نحو الاستعانة بالخبرات العسكرية السوفياتية وقتها، باستجلاب عدد كبير من الخبراء السوفيات والاعتماد التام في تسليح الجيش على صفقات عسكرية ضخمة مع موسكو.
وحتى يومنا هذا يطغى السلاح الروسي على مصادر تسليح كل الفصائل العسكرية الليبية، مع فرض حظر توريد السلاح إلى ليبيا من قبل مجلس الأمن، تبعاً للعقوبات الصادرة عام 2011، ولا زالت مستمرة إلى الآن.
حرب تشاد بداية النهاية
ويربط كثيرون في ليبيا من شخصيات عسكرية وغير عسكرية، بين حرب تشاد وتفتت الجيش الليبي الذي برز بوضوح بعد سقوط نظام القذافي، حين افتقدت البلاد لمؤسسة عسكرية قوية قادرة على استعادة التوازن والنظام، كما حدث في الجارتين مصر وتونس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت الحرب ضد تشاد بدأت عام 1978 وانتهت عام 1987 بهزيمة الجيش الليبي بعد تدخل فرنسي حاسم قلب الموازين في المعركة التي دخلتها ليبيا دعماً للرئيس كوكني واداي ضد معارضيه الذين يحاولون الانقلاب عليه.
وبعيداً من مجريات هذه الحرب التي اعتُبرت واحدة من أسوأ الأحداث التي مرت بها ليبيا في تاريخها المعاصر منذ نهاية الاستعمار الإيطالي، نظراً إلى حجم الخسائر التي تكبدتها في هذه الحرب والتي قدرتها مصادر رسمية وغير رسمية بنحو 8000 إلى 10000 قتيل، وأكثر من 1500 أسير، وفقدان معدات يقدر ثمنها بـ 3 مليارات دولار، وهو مبلغ ضخم في ذلك الزمن، من بينها 28 طائرة وأكثر من 800 دبابة وعربة مدرعة وناقلات جنود ورادارات وأجهزة إنذار وبطاريات صواريخ، وعدد لا يحصى من الأسلحة الخفيفة والعتاد والوقود والذخائر.
وتعني هذه الأرقام إجمالاً أن الجيش الليبي فقد خلال سنوات قليلة في حرب تشاد جلّ ما تم بناؤه في المؤسسة العسكرية خلال 40 عاماً، وأن المشروع الطموح الذي انطلق من مصر انتهى ودُفن في الصحراء التشادية القاحلة.
تأسيس الكتائب
قرر الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بعد الهزيمة المرة في تشاد إعادة هيكلة الجيش من جديد، فأهمل المؤسسة العسكرية الرسمية وأنشأ الكتائب الخاصة الموالية له خوفاً من انقلاب الجيش عليه، بعد الصدمة الكبيرة والشرخ المعنوي التي خلفتها المغامرة غيرالمحسوبة في الحرب التشادية - الليبية.
وأُسست هذه الكتائب بناء على عقيدة جديدة أساسها الولاء التام للنظام، وأهمل الجيش النظامي وقلصت قدراته لدرجة أن بعض المعسكرات في المناطق التي تعرف بمعارضة القذافي كانت خالية حتى من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وأسهم هذا التوجه في خلق فراغ أمني كبير بعد سقوط النظام عقب الثورة عام 2011، وتدمير هذه الكتائب الموالية للقذافي تحت ضربات حلف الناتو لعدم وجود جيش حقيقي في البلاد قادر على ضبط الأمور.
وأسهم هذا الفراغ أيضاً في تكون كتائب عسكرية غير نظامية بولاءات قبلية وأيدولوجية وجهوية، اصطدمت ببعضها في سياق الصراع على السلطة والثروة، وأفشلت هذه العقائد المتباينة والمتعارضة كل المحاولات لإعادة بناء مؤسسة عسكرية موحدة تعيد للدولة هيبتها وللمواطن أمنه المفقود على مدى عقد كامل من النزاعات الدامية .