أثار إعلان الحكومة السودانية قضية تسليم الرئيس المعزول عمر البشير وعدد من أعوانه إلى المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية زيارة وفد المحكمة الجنائية الخرطوم هذا الأسبوع، الجدل مجدداً حول هذه القضية، التي شغلت الساحة السودانية قبل وبعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019 الشعبية التي أطاحت البشير. كما ظلت مثار جدل قانوني وسياسي مع كثير من الاستفهامات حول عدم تسليمهم، على الرغم من الإعلانات المتكررة بشأن اقتراب موعد تسليم البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون.
وفتحت الزيارة الباب أمام احتمالات تسليم البشير وبقية المطلوبين من رموز وأركان نظامه، المتهمين بارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية في إقليم دارفور منذ 2003.
وعلى الرغم من كل التأكيدات فإنه ظل دائماً السؤال الحائر: متى وكيف يجري التسليم؟ إذ إنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها الحكومة الانتقالية موافقتها على تسليم البشير وأعوانه من المطلوبين المتهمين من دون أن يتحدد زمان وكيفية التسليم.
العقبات القانونية والإرادة السياسية
يرى مراقبون وقانونيون أنه إذا اكتملت إجراءات مصادقة السودان على ميثاق روما في كل مراحلها التنفيذية والتشريعية، فلن تكون هناك أي عقبات قانونية أمام تسليم المطلوبين، وسيصبح التسليم أمراً حتمياً من الناحية القانونية، لكن تبقى فقط مسألة الإرادة السياسية في اختبار جدية التسليم.
وفي خضم الجدل السياسي والقانوني الدائر في الأوساط القانونية والسياسية السودانية، تتفاوت الرؤى ما بين اعتبار التسليم "تعدياً على السيادة الوطنية، وانتقاصاً من قدرة القضاء السوداني"، فيما يحتج آخرون بضرورة وجود "مؤسسات مُنتخبة مخولة" لاتخاذ قرار التسليم وحسم الجدل الداخلي، بخاصة بين المكونين المدني والعسكري في حكومة الفترة الانتقالية.
في الوقت نفسه، لا تزال هناك بعض الأحزاب والقوى السياسية السودانية، ومنها حزب الأمة القومي، التي سبق أن أعلنت رفضها محاكمة المسؤولين عن جرائم دارفور خارج السودان، ترى أنه من الأفضل أن يجري الأمر في إطار "محاكم مختلطة أو هجينة داخل السودان".
غموض التفاصيل
وعلى الرغم من التصريحات الأخيرة لنائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو، وعبد الله حمدوك، رئيس مجلس الوزراء، عقب لقائهما كل على حدة، مدعي المحكمة الجنائية، الذي اختتم زيارته السودان أمس الخميس، وإعلانهما موافقة الحكومة على تسليم المطلوبين، فإنه لا تزال هناك بعض التفاصيل والخيوط الغامضة في مسألة التسليم، وذلك على خلفية الأحاديث المتكررة لرئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، في مقابلات ومناسبات عدة بأن السودانيين "متفقون على مسألة محاكمة البشير، وأن المحكمة الجنائية الدولية لم تطالب بتسليمه، إنما محاكمته، وأنها لا تعارض محاكمته في السودان، أو في أي مكان آخر يُتفق عليه".
وقوبلت تصريحات البرهان وقتها بانتقادات حادة، من بعض القطاعات السياسية والقانونية، وعلى رأسها تجمع المهنيين السودانيين، مهندس تظاهرات ثورة ديسمبر التي أطاحت البشير، معتبراً أن البرهان استبق التشاور الجاري حول أفضل السبل لضمان عقاب الرئيس السابق عن جرائم نظامه في دارفور، ووصف ذلك الاستباق بـ"غير المقبول".
وأكد التجمع أن "مصير البشير يقرره أصحاب الحق، والقرار بشأن محاكمته عن جرائم دارفور لن يكون سوى ترجمة لما يُرضي ذوي الضحايا وعموم النازحين".
زيارة مدعي "الجنائية" وتأكيدات الحكومة
تجيء زيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية، كريم أسد خان، متزامنة مع إجازة مجلس الوزراء الأسبوع الماضي قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي اعتبر خطوة في اتجاه تسليم البشير للمحاكمة أمام المحكمة الدولية في لاهاي، لكن المصادقة النهائية على مشروع القانون "لن تكتمل إلا بعد تمريره على الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء (كسلطة تشريعية)، لإجازته في صورته النهائية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستقبل رئيس مجلس الوزراء، عبد الله حمدوك، أول أمس وفد المحكمة الجنائية الدولية برئاسة المدعي العام للمحكمة، ووفده المرافق المكون من محاميي الادعاء، جوليان نيكولاس، مستشار المدعي العام توماس لينش، ومستشار التعاون الدولي في مكتب الادعاء، داهيرو سانتانا.
ووصفت زيارة وفد المحكمة الجنائية السودان بأنها تأتي في إطار التنسيق والتعاون مع الحكومة السودانية بخصوص المتهمين، الذين صدرت بحقهم أوامر قبض، فضلاً عن التقدم الذي أحرزته المحكمة في قضايا المواطنين السودانيين التي تنظرها المحكمة الآن.
وأكد عبد الله حمدوك، رئيس مجلس الوزراء، خلال لقائه كريم خان، التزام الحكومة تحقيق العدالة كأحد شعارات الثورة، وأن التزام السودان تحقيق العدالة إنما يأتي استجابةً للمطالبات الشعبية بإقامة العدالة، وليس فقط من باب الوفاء بالالتزامات الدولية، مشيراً إلى أن زيارة وفد المحكمة الجنائية "تُعتبر شهادة على التغيير وعمليات الإصلاح الشامل التي يشهدها السودان الجديد".
أميركا ترحب
ورحبت الولايات المتحدة الأميركية بخطوة الحكومة السودانية الموافقة على تسليم المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية في دارفور إلى "الجنائية الدولية".
وحث المتحدث باسم الخارجية الأميركية الحكومة السودانية على مواصلة التعاون مع المحكمة لإنهاء عقود من الإفلات من العقاب، مؤكدة استعدادها لتشارك الأدلة مع السودان.
في السياق، أوضح مستشار رئيس الوزراء للشراكات الدولية، عمر قمر الدين، أن مدعي المحكمة الجنائية تحدث خلال لقائه مع دولة رئيس الوزراء حول أهداف زيارته البلاد، وذلك بهدف تقديم خدمات عدلية لضحايا النزاعات في السودان.
وأبان قمر الدين أن الزيارة التي كانت مستحيلة سابقاً وتحققت الآن، تعتبر "أمراً مهماً ليس فقط لضحايا النزاعات، إنما إظهار للعالم بأن التغيير الذي حدث بالسودان تغيير مؤسسي، وليس مظهرياً فقط".
وبحسب مستشار حمدوك، فإن خان قدم لرئيس مجلس الوزراء شرحاً حول ظروف طلب المحكمة الجنائية تسليم بعض المتهمين، الذين لم يُسلموا، ومن ضمنهم البشير، كاشفاً اقتراب بدء محاكمة علي كوشيب، بعد أن قررت المحكمة ما يفيد بوجود أدلة كافية لتقديمه إلى المحاكمة في بعض الجرائم.
استعجال افتتاح مكتب المحكمة بالخرطوم
ولفت قمر الدين إلى أن رئيس الوزراء أكد للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن الحكومة ستتعاون مع المحكمة بكل شفافية، وأن السودان بصدد المصادقة والانضمام إلى ميثاق روما قريباً، بينما طلب مدعي "الجنائية" من رئيس الوزراء تسريع خطوات افتتاح مكتب للمحكمة في البلاد، مؤكداً أنه سيعود إلى السودان بعد تقديم تقريره إلى مجلس الأمن الدولي في ديسمبر من هذا العام.
ونقلت وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا) عن وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، عقب لقائها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم أسد خان، قرار مجلس الوزراء بتسليم المطلوبين إلى "الجنائية الدولية"، والتعاون مع المحكمة من أجل تحقيق العدالة لضحايا الحرب في دارفور.
وسبق وأصدر مجلس الوزراء السوداني قبل أكثر من شهر، بعد اجتماع مغلق استمر ثلاثة أيام، بضاحية سوبا بالخرطوم، حزمة قرارات لمواجهة الأزمات والتحديات التي تشهدها البلاد، من ضمنها قراره بتسليم المطلوبين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
محامي البشير يستبعد التسليم
من جانبه استبعد محمد الحسن الأمين، محامي الرئيس المخلوع البشير، إقدام الحكومة السودانية على تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية، يقول الأمين، لـ"اندبندنت عربية"، "قناعتي أن هذه الحكومة لن تسلم البشير إلى محكمة لاهاي، من دون تقديم مبرر أو تفسير لمبعث تلك القناعة"، مضيفاً أن "المواد الأولى و17 مقروءة مع الفقرة العاشرة من ديباجة ميثاق روما، تجعل منه نظاماً تكميلياً للقضاء الوطني، ما لم يكن منهاراً أو غير موجود، أو أن تكون الحكومة غير راغبة، أما بخلاف ذلك فيعني أنه لم تعد هناك مقبولية للمحكمة الجنائية"، مستبعداً أيضاً اللجوء إلى "محكمة مختلطة أو هجين بين القضاء الوطني وقضاة من المحكمة الجنائية".
واستدل محامي البشير في حديثه حول رغبة الحكومة من عدمها، بتصريحات رئيس مجلس السيادة الانتقالي، التي أكد أكثر من مرة قدرة القضاء الوطني على محاكمته داخلياً، إضافة إلى وضعية البشير بالنسبة إلى القوات المسلحة السودانية.
ووصف الأمين، الحديث عن تسليم البشير إلى "الجنائية" بأنه "سياسيٌّ ولا معنى له"، مبيناً أن زيارة كريم خان المدعي العام لـ"الجنائية" "ليست لها علاقة بتسليم البشير وأعوانه"، إنما سببها "توقيع السودان على ميثاق روما المنشئ للمحكمة"، وأن تسليم البشير أو غيره "يتطلب المرور بعدة مراحل ونقاط، منها القضاء السوداني أو بصدور قرار سياسي من مجلسي السيادة والوزراء".
وأوضح أن المدعي العام نفسه "لم يقل إنه حضر من أجل تسليم المطلوبين إلى (الجنائية)". مؤكداً أن تسليم المطلوبين إلى "الجنائية" "عمل قانوني وليس سياسياً".
المصادقة على الميثاق تلزم التسليم
في المقابل، أوضح محمود الشيخ، المحامي، عضو لجنة السياسة للمحامين الديمقراطيين، لـ"اندبندنت عربية"، أنه وعلى الرغم من أن القضية شائكة، ولا تخلو من تعقيدات، فإنه من المؤكد أن إكمال إجراءات مصادقة السودان على ميثاق روما، وانضمامه إلى المحكمة سيرتب على السودان "التزاماً دولياً بتسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية، بوصفه عضواً فيها".
وأردف أن تعثر محاكمة البشير في قضية انقلاب 1989 الجارية حالياً، إنما "انعكاس جليّ على وضع السلطة القضائية، التي ظلت مُستلبة ثلاثين عاماً، ولعدم إجراء الإصلاح والإحلال والإبدال الواجبين وكذلك النيابة العامة".
وأضاف الشيخ، "أما فيما يخص الشأن العدلي بصفة عامة، فإن العالم الخارجي ينظر إلى نقطتين، أولاهما الرغبة والقدرة، وتتمثل الرغبة في القرارات التي تصدرها السلطات السياسية، أما القدرة فتكمن في تولي القوي الأمين المؤسسات العدلية".
وانتقد الشيخ تصريحات محامي البشير، ووصفها بـ"المتخبطة، ولا تنم عن علم أو اتساق مع القوانين الدولية"، موضحاً، "تحدث محامي البشير بأن زيارة مدعي المحكمة الجنائية غرضها توقيع السودان على ميثاق روما، فماذا سيتبقى للتسليم بعد توقيع الدولة على الميثاق؟!".
الإرادة الشعبية ستنتصر بتسليم المطلوبين
وحول التأخير والجدل حول تسليم الرئيس المخلوع وما إذا كان له علاقة ببعض الإشارات التي تصدر أحياناً من جهات عليا بالدولة بإمكانية محاكمته داخلياً، أوضح المحامي كمال الجزولي، المتخصص في القانون الدولي، أنه "مهما كانت الإشارات، فمن الممكن محاكمة داخلية للبشير في أي جريمة ارتكبها بعد عام 2009، لكن جرائم دارفور كانت قبل هذا التاريخ في عامي 2003 - 2004، إذ لم تكن عناصر القانون الدولي جزءاً من القانون الجنائي السوداني، لكنها أدخلت لأول مرة في تعديله عام 2009، ولما كانت القوانين لا تسري بأثر رجعي تحقيقاً لمقتضى العدالة، لذلك من وجهة النظر القانونية، لا يمكن أن تتم محاكمة البشير داخلياً، مهما كانت الإشارات، إذ كيف يمكن محاكمة شخص على أفعال لم يكن هناك قانون يعاقب عليها في ذلك الوقت؟".
كما يرى المتخصص في القانون الدولي أنه مهما كانت العواطف المهنية أو أي دواعي تعاطف أخرى لدى البعض تجاه البشير، فإن "قوة الإرادة الشعبية لثورة ديسمبر، هي التي ستنتصر بدفع كل أجهزة الحكومة الانتقالية المسؤولة لتسليمه إلى (الجنائية) تنفيذاً للعدالة وإنصافاً للضحايا".
وفي مارس (آذار) 2005، كلف مجلس الأمن الدولي، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التحقيق في شأن جرائم، يُحتمل أن تكون قد ارتكبت في دارفور، وبناءً على مذكرتين من المدعي العام، صدرت مذكرة التوقيف بحق البشير على خلفية النزاع في دارفور بين عامين 2003 و2008، وخلص التحقيق إلى أن البشير ومعه قادة كبار آخرون، ارتكبوا جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية تحت مظلة ما سمّوه بقمع التمرد في دارفور.
ويمثل تسليم المطلوبين لمحاكمتهم أمام "الجنائية الدولية" أحد أبرز مطالب النازحين واللاجئين في دارفور، لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا، وإنهاء الإفلات من العقوبة، وجرى تضمينها لتصبح جزءاً من اتفاق جوبا لسلام السودان.
يذكر أن البشير، الذي أطاحته انتفاضة عارمة قبل عامين، مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المرتبطة بنزاع دارفور. وأصدرت المحكمة الدولية في أعوام 2008 و2009 و2010 أوامر باعتقاله وعدد من مساعديه، بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور.