في كتابه العاشر، من ضمن سلسلة الأعمال النقدية، يطرح علوي الهاشمي، الناقد والأديب البحريني مسألة راهنة في الأدب بعامة، والشعر بخاصة، عنيتُ بها ظاهرة شعراء الظلّ في الشعر العربي السعودي وفي حقبة زمنية محدودة بين العامين (1995-1998). والكتاب صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
تعرّف المؤلف على عشرات من الشعراء، وأمكن له أن يرصد ظاهرة لافتة تتبدّى له، قارئاً وناقداً ومحللاً، وهي وجود نوعين من الشعراء: شعراء ظل الضوء، أو الذين يتوسلون الإعلام والأضواء الزائفة، "ويتحيّنون فرص النشر"(ص:12)، في حين أنّ أشعارهم متكلّفة وعادية، ونوع آخر من الشعراء ممن "يتقدمون إلى دائرة الضوء بحذر شديد" (ص:13)، وترتقي أشعارهم "في مجال الجودة والإبداع" (ص:13)، ذلك أنهم يؤثرون "البقاء طويلاً في عالم الظل، عالم الانكباب المضني والاختمار الطويل في رحاب العزلة الشعرية" (ص:13). وبالطبع، فقد اختار الناقد الهاشمي – وهو الشاعر المجرّب-أن يكون إلى جانب شعراء الظلّ، وأن يُنصفهم بالإضاءة على مكامن الإبداع في أعمالهم ونصوصهم الشعرية التي قيّض له (الهاشمي) تخيّرها من بين الكثير من النصوص التي كانت ترد إليه.
ولما كان من اليسير على الناقد والمؤلف الهاشميّ أن يكوّن مدوّنته، أي النصوص الشعرية ، فقد أمكن له أن يختار قصائد جديرة بالدرس والتحليل، بناء على معيار أساس، مقتبس من الشاعر والناقد ت.إس.إليوت، وهو "التعاطف مع النص الشعري"(ص:20) حتى بلغت ثمانية نصوص. ولم يكتف باختيارها، بل جعلها موضوعاً للتحليل والنقد المعمّق، على ضوء أهمّ معايير الشعر، إيقاعاً ودلالة وبياناً وتعالقاً نصياً (تناص). وعمد الناقد، من ثمّ، إلى نشر مقالاته على صفحات جريدة "الرياض" من أجل أن يقرأها المعنيون، أي شعراء الظلّ العشرة وهم على التوالي: لطيفة القاري ومنصور الحازمي وعلي أيوب ناجي وإبراهيم العواجي وأحمد مرضي ومحمد الصفراني الجهني ومحمد العلي وعلي الدميني ومحمد حبيبي وصالح الحربي وعلي بافقيه. وكان قصده من ذلك أيضاً أن يتفاعل هؤلاء مع إضاءاته وملاحظاته سواء للتنويه ببعض مظاهر الإبداع لديهم، أو لإبداء الملاحظة في جوانب التقصير أو عدم النضج. ولئن كان للمنابر الثقافية، في الصحافة المكتوبة، دور مواكبة الإبداع شعراً ونثراً وفنوناً على اختلافها، ونقده وتوجيهه الوجهة الصحيحة – وهذا ما كانت تؤديه المنابر الثقافية في بعض الصحف العربية، فإنّها كانت تفتقد اللغة النقدية الحديثة والمعاصرة مع بعض الاستثناءات –فإنّ الإطار المرجعي الذي ينطلق منه الهاشمي يدلّ على سعة إطلاعه وعمق ثقافته النقدية، العربية التقليدية (الجرجاني، وسيبويه، وغيرهما)، والأجنبية المتصلة بالمذهب التكويني والدلالي والسيميائي (إمبرتو إيكو، وجينيت ...)، إلى جانب اطلاعه على بعض المظاهر الشعرية التي ثبت بروزها في الشعر العربي الحديث والمعاصر، مثل ماوراء الشعر وغير ذلك .(méta-poésie)
أما الفرضيتان الكبريان اللتان عمل المؤلف على إثبات صحتهما، وتبيّن ملامحهما في الشعر العربي السعودي الشاب، والذي سلف الكلام على تكوين مدوّنته، وهما: لزوم تميّز نصوص شعراء الظلّ بالتجديد والإبداعية، ولزوم تعالق مظاهر التجديد في الشعر السعودي مع بعض التراث الشعري العربي الحديث، سواء شعر التفعيلة منه أو قصيدة النثر، فقد أفلح في إثباتهما، إذ بيّن أنّ لشعراء الظلّ السعوديين مفردات وبؤرًا تحمل طاقات تعبيرية صادقة (لطيفة قاري)، وأنّ لهم قدرة على التلاعب بالثنائيات الضدية كالضوء والعتمة والترفع / التسفل، وغيرهما (إبراهيم العواجي)، وأنهم قادرون على تخليق توازنات جديدة في الإيقاع وصوَر نفسية مبتكرة تجسّد الاغتراب والمنفى الداخلي (علي الدميني، مثلاً). كما أفلح في إثبات الرابط بين نتاج شعراء الظلّ وبين التراث الشعري العربي الحديث، سواء شعر التفعيلة منه (السياب، نزار قباني) أو قصيدة النثر بنماذجها الحاصلة في الستينيات (سركون بولص، مثلاً)، وبيّن، من خلال دراسته تجارب بعض الشعراء السعوديين المميزين، عبر نصوص مجموعات شعرية بذاتها، وليس عبر نصوص مفردة كما لدى الأوائل (مثل: محمد حبيبي، وصالح الحربي، وعلي بافقيه)، أنّ لهؤلاء تصوراً للواقع حادّاً، تصير معه الذات الشاعرة "ضحية قوتين متكافئتين"(ص:239)، وأنّ لهم "همًّا إبداعيًا"(ص:264) يجعلهم يتصرّفون بمادة شعرهم وينأى بهم كثيرًا عن نماذج الشعر القديم وشعر التفعيلة، وابتكار توازنات داخلية وتناقضات جديدة، وابتداع وجهات نظر غير مسبوقة في الشعر العربي بعامة والسعودي بخاصة، وتأثيث عالم جوّاني مكوّن من حساسيات فريدة (عالم الماء، مثلاً لدى علي بافقيه) ورموز وصور بيانية وتراكيب وتفعيلات ذات أوزان خفيفة وسريعة ومحمّلة بالمزيد من الإيقاعات الداخلية، على حساب الإيقاع الخارجي .وفي المحصلة الأخيرة ، يشكّل هذا الكتاب لمؤلفه علوي الهاشمي مدخلاً ميسّراً للتعرف إلى المخزون الشعري العربي الحديث، في السعودية، وإن يكن من زاوية لم يسبق الكلام عليها في النقد العربي الرسمي الذي غالباً ما يعالج نصوص شعراء ذوي شهرة ورسوخ في أذهان جمهور المتلقين. ولعلّه، أي الكتاب، مناسبة لإماطة اللثام عن ظاهرة شعراء الظلّ العرب، في بلداننا العربية، ممن شاءت سلطات المنابر الثقافية، قصداً أو جهلاً، أن تنحّيهم عن الأضواء، أو ممن شاؤوا الانزواء عن الجمهور الواسع، وكان ضوء الإبداع "يختبئ في أعماقهم ومن صدورهم تسطع شمس الشعر". (ص:13)