رجل يسير خارجاً من مطعم وجبات سريعة فتخترقه أكثر من ثمانين رصاصة. رأس مشوه يترك أمام مقهى، ومؤخرة الرأس باتجاه الشارع، والوجه كأنه ينظر إلى المقهى، وقد ترك هناك في تلك الوضعية كرسالة ترويع. تجتاح شاحنة مكاتب إحدى الصحف الرئيسة في البلاد، ثم تشتعل. وبعد أيام قليلة، تطلق قذيفة مضادة للدروع على مكاتب صحيفة رئيسة أخرى. كذلك يُقتل محام يدلي بشهادته بوصفه "الشاهد الملك" في محاكمة أساسية عن قضية مافيا وعصابات. لقد قُتل المحامي أمام زوجته خارج منزلهما، في وضح النهار.
لا، لم تقع هذه الحوادث في المكسيك أو كولومبيا، البلدان الغارقان في حروب دموية ناشبة بين عصابات المخدرات. بالأحرى، إنها وقعت في أمستردام، عاصمة هولندا، حيث يخضع اليوم منفذو تلك الوقائع والهجمات المفترضون لمحاكمة تمثل إحدى أكبر القضايا التي شهدتها البلاد في تاريخها. لكن، تجدر الإشارة إلى أن أمستردام ليست مدينة خطرة. إذ ما زال التهديد الأكبر الذي يتعرض له السياح فيها متمثلاً بسائقي الدراجات الهوائية الذين يظهرون من المجهول، ويأتون من كل اتجاه. في المقابل، لقد أدت موجة الجنون المستجدة في صراع العصابات خلال السنوات القليلة الماضية، إلى بعض الأسئلة الوجودية المتعلقة بهوية تلك المدينة وروحيتها.
وفي وقت مبكر من الشهر الجاري، تعرض بيتر دي فرييس الصحافي الهولندي المتخصص في قضايا الجريمة، لخمس رصاصات، استقرت واحدة منها في رأسه، إثر مغادرته الاستديو التلفزيوني. وتوفي دي فرييس بعد أسبوع. وتجمع آلاف المشيعين خارج مسرح "رويال كاري ثياتر"، حيث سُجي جثمان الصحافي للوداع وإلقاء النظرة الأخيرة. وقد اعتاد دي فرييس تقديم المشورة لـ"الشاهد الملك" في قضية مرفوعة ضد رضوان التاغي، زعيم المافيا الإجرامية الأكثر ضراوة في البلاد.
واستطراداً، يتحدث مصور الحرب وباحث الأنثروبولوجيا الهولندي، توين فوتين، وهو المتخصص في قضايا عصابات وتجار المخدرات في المكسيك، عن رحيل دي فرييس مشيراً إلى "أنها خسارة كبيرة. لقد شكل دي فرييس شخصية فريدة. إنه الصحافي الأهم في قضايا الجرائم في هولندا، ونصير للعدالة. لم يسبق للبلاد أن شهدت أسى بهذا الحجم (جراء رحيله). لكن، حين تولى مهمة استشارية لمصلحة أحد الشهود الأساسيين في قضية الـمارينغو، فإنه لم يعد مجرد متابع محايد. وعلى الأرجح، لقد دفع حياته لقاء ذلك".
وفي ذلك الصدد، يرى الادعاء في قضية الـ "مارينغو" أن رضوان التاغي خلَّف في سياق محاكمته، طريقاً انتشرت فيها الجثث. وقد أوقف التاغي في دبي قبل سنتين، مع 16 شخصاً آخرين، كي يواجه اليوم ضمن محاكمات قضية الـ"مارينغو"، قائمة طويلة من تُهم القتل. وتمثل القضية المذكورة المحاكمات الأكبر التي شهدتها هولندا في تاريخها. ويتهم التاغي في سياقها بإصدار أوامر قتل مارتن كوك، المدان السابق في قضايا مخدرات الذي صار ناشر مدونات على الإنترنت. وفي الإطار ذاته لم يتهم التاغي مباشرة، بل يشتبه بإصداره أمراً بمهاجمة صحيفتي الـ"تيليغراف" و"بانوراما، وأوامر بقتل شقيق "الشاهد الملك" نبيل البقالي، رضوان، الشاب البريء الذي قُتل سنة 2018، إضافة إلى أمره بقتل محامي نبيل، ديرك فيرسوم، في 2019.
إذاً، كيف تحولت بلاد طواحين الهواء وأزهار التوليب إلى مسرح لسفك الدماء؟
على الرغم من اعتبار "الحشيش" (القنب) بمثابة عطية من السماء لقطاع السياحة في أمستردام (بربكم، كأنكم تأتون لزيارة "متحف آنا فرانك"!)، غير أن هذه المادة ليست قانونية في هولندا، بل ثمة تسامح إزاء استخدامها، لا أكثر. ويستمر الأمر على هذا النحو منذ أعوام السبعينيات في القرن العشرين، حين قرر الهولنديون أنه من الأفضل إبعاد أولادهم من المروجين الذي يبيعون الهيروين وحبوب المخدرات الثقيلة، والسماح لهم، بدلاً من ذلك، تدخين الحشيش في "مقاه" مخصصة (تسمى الواحدة منها "كوفي شوب")، ولأن "مقاهي الحشيش" هذه لا يسمح لها عملياً بتخزين مادتها الذائعة الصيت (الحشيش)، فإنها اتجهت للاستعانة برجال أعمال واستثمارات، من أمثال ستيف براون. ولقد وُلد الأخير في الولايات المتحدة، وهو "زعيم حشيش" (تاجر) متقاعد استخدم سلسلة مقاهيه التي تدعى "هابي فاميلي" (حرفياً، العائلة السعيدة) كواجهة في عملياته، ومثلت منطقة جبال الريف في شمال المغرب، مصدراً من مصارده الأساسية.
ويتحدث براون عن تجربته، "في ثمانينيات القرن العشرين، ذهبتُ إلى طنجة وتطوان، ومكثت هناك في الجبال كي أفحص جودة الحشيش". ويتابع، "أحد المتعاملين معي آنذاك كان اليد اليمنى للملك الحسن. لقد امتلك ذلك المتعامل قرية كاملة، ومرفأً مخصصاً له. ويرجح أنه في ذلك الوقت شكل تاجر المخدرات الأكبر في أفريقيا، وربما في أوروبا". ويكمل ستيف براون، "استوردنا شهرياً مئات ومئات الكيلو غرامات (من الحشيش). لم يكن ذلك الأمر في حقب السبعينيات من القرن العشرين وثمانينياته وتسعينياته، بمثل صعوبته الآن. كنا ننقلها بشاحنات، أو سيارات خاصة، وطائرات شحن، ومراكب صيد وغيرها. وحين نذهب لاستلام البضائع من مركب أو سفينة، فإن تلك العملية كانت تُدعى "عملية بحرية مفتوحة" (open-sea job). وقد جرت دوماً عبر تعاون بين الهولنديين والمغاربة، ونقسم الأكلاف 50 بـ50 (مناصفة)".
وتذكيراً، في ستينيات القرن العشرين، بدأ المغاربة يصلون إلى هولندا وبلجيكا كـ"أيد عاملة زائرة". وجاء كثيرون منهم من مناطق فقيرة في جبال الريف. وقد جرت معاملة كثيرين منهم كـ"قطعان ماشية" من دون أي محاولات لدمجهم (في المجتمع الهولندي)، فأنزلوا في مساكن إيواء أو أسكنوا في "غيتوهات". وإذ يولّد الإقصاء الجريمة، فقد نشأت في تلك الأجواء طبقة من أصحاب الأعمال والمشاريع المغاربة الذين تخصصوا في استيراد بضائع وأطايب معينة، وهنا طبعاً لا نتحدث عن أكلة "الكسكس".
"شكلت المخدرات دائماً جزءاً من حياتي منذ صغري"، بحسب خليل*، تاجر المخدرات الأمستردامي الشاب. ويتابع خليل "منطقة الريف في شمال المغرب، التي تتحدر منها عائلتي، هي المنطقة التي نملك فيها مزارع واسعة للحشيش. إنها مهنتنا. تعرف عائلتي كلها ماذا أعمل. يمكن أن يكون عندي كوكايين في غرفة الجلوس، وما من مشكلة".
في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته سيطرت جماعات محلية قذرة، تعرف باسم "بينوزي" penoze على العالم السفلي للمخدرات في هولندا، ومن بين أفرادها رجال أمثال كلاس الملقب بـ"ذا بريتشير" (ترجمتها المبشر) براونسما، وفيليم هولييدر (العقل المدبر لعملية خطف فريدي هاينيكن). وشهدت عقود تلك الحقب أيضاً وصول عصابات مهاجرة، كعصابة الـ"ترايدز"، كذلك راحت عصابة الـ"آه كونغ" السنغافورية تشحن الهيروين من منطقة "المثلث الذهبي" (حيث تلتقي حدود تايلاندا ولاوس وميانمار عند التقاء نهري "رواك" و"ميكونغ") إلى منطقة "تشايناتاون" (الحي الصيني في أمستردام). كذلك حضرت عصابة صربية ضارية لُقبت بـ(الـ "يوغوس" Yugos) يتزعمها سريتين يوشيش، المعروف بـ"يوتسا أمستردام". وفي 1990، نشب نزاع بين الـ"يوغوس" والـ"بينوزي" سببه شحنة مخدرات ضائعة، وقد جرت تصفية براونسما، إذ هاجمه شرطي سابق تحول قاتلاً مأجوراً بتكليف من العصابة الصربية. وعن سريتين يوشيش يتحدث ستيف براون مبتسماً "أجل، أذكر "يوتسا"، لقد كان من أصحابي المقربين!" يتابع "لقد زار بيتي، وكنت أراه كل يوم تقريباً. وحمل لقب "ملك أمستردام". اعتاد أن يتجول وحوله أولئك الصربيين الضخام الأجسام، الذين لا رقاب لهم. الآخرون أمثال كلاس براونسما كانوا يتغوطون في ثيابهم إذ يلمحون جماعته! (جماعة يوشيش)".
وفي مطلع الألفية الثانية ظهرت عصابة جديدة منبثقة من الشبكات المغربية القديمة العائدة إلى أيام "مقاهي الحشيش". وعُرفت العصابة الجديدة باسم "موكرو- مافيا" (المافيا المغربية)، وتحدرت من شوارع الـ"ديامانتبوورت" (حي الألماس، وتجارة المجوهرات) في جنوب أمستردام. في المقابل، لم يكن أفراد تلك العصابة من المغاربة حصراً. إذ إن خفينيتي مارثا، الأفريقي الكوراساوي (من كوراساو) المتحدر من منطقة جزر الهند الغربية، قد ترعرع مع لعبه كرة القدم بمشاركة صبية هولنديين مغاربة من أمثال بنعوف عدوي الذي غدا شريكاً له (مارثا) في الجريمة.
من جهة أخرى، يرى الدكتور روبي روكس، الباحث في علم الجريمة الذي يتواصل مع أحد المدعى عليهم في قضية التاغي، أنه "منذ العقد الأول للألفية الثانية، يمكنك القول إن كثيراً من التدابير القانونية والاهتمام الإعلامي راح يركز على الـ"موكرو– مافيا"، التسمية التي صاغها صحافيون ولا تنطبق تماماً على طبيعة تلك الجماعة، بحسب رأيي. يتمثل السبب الأول في ذلك، بأنه ليس جميع أفرادها من المغاربة. بل تتميز بمزيج من الروابط ذات الأصل العائلي والعلاقات المتأتية من النشوء في حي سكني واحد".
على كل حال، لقد تكرس ذلك الاسم. وأراد مارثا وبنعوف توسيع خبرتهما وتطويرها، والانتقال من الحشيش إلى الكوكايين، وكذلك تحالفا مع مجموعة مغربية محلية تطلق على نفسها اسم "تيرتيلز" (السلاحف)، وذلك بهدف نقل العمليات إلى مدينة آنتروب، في القسم الفلمنكي من بلجيكا.
واستطراداً، يشرح كريستيان فاندرفايرين، مدير عام مصلحة الجمارك البلجيكية، هذا الأمر مشيراً إلى أنه "مع مرور الأعوام، راح مزيد من الجماعات الإجرامية ينخرطون في تجارة الكوكايين. ومنذ عقد من السنوات، بدأت عصابة الـ"موكرو- مافيا" تستخدم مرفأي "آنتروب" (بلجيكا) وروتردام (هولندا) على نحو مكثف. وحضرت أيضاً مجموعات أخرى من المافيات كالـ"درانغيتا" الإيطالية. وفي البداية، تخصصت جماعات "آنتروب" في اللوجستيات والنقل والتخزين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يغطي مرفأ "آنتروب" منطقة مساحتها 120 كيلومتراً مربعاً، ويعد ثاني أكبر مرفأ في أوروبا، ويقع في قلب منطقة سكنية كثيفة، الأمر الذي يصعّب مهمة مراقبته. ويمر الكوكايين عبر "آنتروب" من خلال اعتماد طريقة الـ "ريب أون/ريب أوف" rip-on\rip-off (المعروفة أيضاً بطريقة "التحميل"). وفي تلك الطريقة، يعمد المهربون إلى إخفاء المخدرات في حاويات تحمل شحنات قانونية، ويعيدون فتحها ما أن تصل إلى وجهتها الأخيرة، ويفضل إجراء ذلك قبل حضور أي شخص (له علاقة بالشحنة القانونية). وفي الغالب تخفى المخدرات في صناديق الموز الذي يتطلب معالجة سريعة، قبل أن يخسر لونه الأصفر المحير. وتعمل أجهزة الكمبيوتر على تحديد حاويات فيها شحنات مشبوهة قادمة من أميركا الجنوبية، وتحيلها إلى التدقيق والمسح الضوئي. لكن، إزاء ملايين الحاويات التي تصل سنوياً، وأمام إيقاع الحركة الناشطة في المرفأ التي تفرض تمرير الحاويات وتخليصها بأكبر سرعة ممكنة، فإن مجرد 1 في المئة من الحاويات المذكورة تكون قليلة الحظ، فتُحال إلى المسح الضوئي. وكذلك تصعّب التكنولوجيا المتطورة أمر تجول الأشخاص غير المصرح لهم في أرصفة المرفأ، لكن أولئك الذي يصممون على ذلك (التجوّل)، سيجدون طريقة ما. ويشرح الأمر الدكتور روبي روكس، موضحاً أن "العاقبة المباشرة لهذا الأمر تتمثل بهجمات تشنها مجموعات إجرامية على أشخاص يعملون لمصلحة شركات حكومية أو خاصة في المرفأ". ويتابع روكس، "نرى عمليات دفع أموال إلى موظفين في المرفأ مقابل تصاريح دخول يملكونها، أو مقابل معلومات يقدمونها عن مواقع الحاويات، أو مقابل حتى خدمات عملانية يكلفون بها، كإخراج الكوكايين من الصناديق مثلاً. كذلك، يتحدث المولجون بتشديد التدابير القانونية عن ارتفاع مظاهر ترهيب موظفي المرفأ الذين يتعرضون للملاحقة إلى بيوتهم فيما يرتدون البذلات الخاصة بشركاتهم".
حصلت بعض عمليات القتل بالرصاص في وضح النهار، وبالقرب من المدارس، وفي مرات قليلة جرى قتل الأشخاص الخطأ. إذ إن الذين ينفذون عمليات القتل يغدون أصغر سناً وأقل خبرة
ومن آنتويرب [آنتفرب المرفأ البلجيكي]، يجري نقل "البضاعة البيضاء" إلى هولندا، كي تُقسم تمهيداً لتوزيعها في أنحاء أوروبا. لكن، حين لم تتصدر الأخبار حادثة توقيف 200 كيلوغراماً من الكوكايين في 2012، تلقّف الـ"تيرتيلز" الفرصة في المناطق المنخفضة (المنطقة الفلمنكية من بلجيكا). إذ إن تلك الكمية المصادرة لم تمثل مجمل الشحنة، وقد لاحظوا أن الجميع ظنوا، كما يفترض، أن الكمية المذكورة تمثل الشحنة كلها. وبالتالي، أخذوا الكميات المتبقية وباعوها لحسابهم الخاص، وجابوا المدينة لهذا الغرض بسيارتهم الرياضية اللامعة. لقد باعوا غرام الكوكايين بـ20 يورو، فانتشر المسحوق الأبيض في شوارع "آنتروب"، إثر ذلك. حتى الحمام غدا نشوان. على أن هذه الواقعة أشعلت حرب عصابات لم تعرفها أمستردام منذ أيام عصابة الـ"يوغوس".
واستكمالاً، ذكرت تقارير أن بنعوف عداوي، شريك مارثا، حمل الأخير مسؤولية الخسارة، فبدا واضحاً أن تفجير رأسه (رأس مارثا)، وتلطيخ شوارع المدينة بدمائه، سيكون الرد المنطقي. وتطاير الرصاص فوق الأقنية. وفي 2014 انهمر الرصاص على مارثا أثناء مغادرته مطعم كباب. وتلقى الرجل أكثر من 80 رصاصة. بعدها، قُتِل مدير خدمات زبائن يدعى ستيفان إيغيرمونت، عمره 30 سنة، برشقة من سلاح أوتوماتيكي أمام منزله، من طريق الخطأ في تحديد هوية المُستهدَف. وفي 2016، ترك رأس مقطوع خارج "بار للشيشة" (النارجيلة)، ليس بعيداً من متنزه الـ"فونديلبارك" الشهير، كرسالة ترويع من أصحاب مارثا. وقبل يوم واحد اكتُشفت جثة صاحب الرأس متروكة في جنوب أمستردام، داخل سيارة "فولكس فاغن" مسروقة ومحترقة.
في 2018، لاقى 30 شخصاً على الأقل حتفهم في وقائع مرتبطة بحرب (العصابات) الممتدة بين "آنتروب" وأمستردام والمغرب، بل وصولاً حتى إلى بلد بعيد كباناما. وبين الرؤوس المشوهة المتدحرجة في الشوارع، والرصاص المنهمر كنثار الأخشاب، حذر تقرير صادر من "اتحاد البوليس الهولندي" من أن البلاد تتحول "دولة مخدرات".
في هذا السياق، يشرح الدكتور روكس أن "استخدام العنف يؤطر باعتباره أمراً أكثر إقلاقاً من الصراعات بين (جماعات) الـ"بونزي" الهولندية". نحن لا نرى بالضرورة ازدياداً في مقدار عمليات العنف، بل في نمط العنف الذي تستخدمه عصابات الجريمة المنظمة. إذ حصلت بعض عمليات القتل بالرصاص في وضح النهار، بالقرب من المدارس، وفي مرات قليلة جرى قتل الأشخاص الخطأ. إذ إن الذين ينفذون عمليات القتل يغدون أصغر سناً وأقل خبرة. ويبدو أن قتلة صغار محليين قد حلوا في مكان القتلة اليوغوسلاف المحترفين الذين رُحِّلوا".
في 2016، أُلقي القبض على عضو في عصابة مارثا، يدعى نوفل "ذا بيلي" (الكرش) الفصيح، أثناء اختبائه في منزل آمن يعود إلى عائلة كيناهان الإجرامية ذات النفوذ في دبلن (جمهورية إيرلندا). ومن بين الاعتداءات الكثيرة التي ارتكبها نوفل، ثمة شبهة في أنه قد يكون وراء إطلاق النار على حليف بنعوف، سمير "سكارفيس" (صاحب الندبة في الوجه) بوياخريشان، في مقهى قرب "ماربيلا"، في إسبانيا. ويروي أحد أفراد العصابات أنه "ذات مرة، أطلق نوفل النار على ساق شاب. وذهب إلى السجن، ثم خرج. وأطلق النار مرة أخرى على ساق ذلك الشاب. يبقى وصف مجنون متساهلاً تجاهه".
في المقابل، لم تبق فورة القتل محصورة في تداعيات عملية السطو على شحنة الكوكايين في "آنتروب". إذ يقضي الفصيح اليوم حكماً بالسجن المؤبد بسبب تدبيره جريمة قتل علي معتمد (من أصل إيراني)، وهو فني كهرباء في الـ56 من العمر، وأُردي بالرصاص أمام بيته في أمستردام سنة 2015. وقد تكون تلك العملية قد نُفّذت لمصلحة المخابرات الإيرانية التي تعتبر علي إرهابياً بسبب زرعه عبوة ناسفة قتلت عشرات المسؤولين الإيرانيين. ورأى الإدعاء أن فصيح تقاضى مبلغ 130 ألف يورو لقاء تدبير العملية وتنظيمها، فيما لم يدفع للقاتلين اللذين نفذا العملية سوى 10 آلاف يورو لكل منهما.
ورأت صحيفة "ذا جورنال". آي إي" Thejournal.ie، مركزها دبلن، أن فواتير الفصيح قد سددها ريتشارد إدواردو ريكويلمي فيغا، مهرب كوكايين ويعد مصدر إمداد أساسي بالنسبة إلى عائلة كيناهان المافياوية. ويعرف ريكويلمي هذا أيضاً باسم "ريكو التشيلي" و"الرجل التشيلي الأخطر في العالم"، وقد أوقف بفندق في سانتياغو سنة 2017 ورُحل إلى هولندا، حيث حُكم عليه في يونيو (حزيران) الماضي بالسجن 11 عاماً. ووفق رسائل جرى تفكيك شيفرتها وعرضت أمام المحكمة الهولندية، فقد استجاب ريكو ونوفل لشخص آخر، هو رضوان التاغي.
في المقابل، وفيما لم يظهر دور كبير لـلتاغي في حرب العصابات التي نشبت بسبب شحنة المخدرات الضائعة (في "آنتروب")، إلا أن التاغي، بحسب اعتقاد سائد، يعد لاعباً أساسياً (في مشهد المخدرات والمافيات) على حسابه الخاص، مستخدماً المغرب كمحطة وسيطة في عملياته. وتفصيلاً، يُنْقل الكوكايين الذي يصل إلى غرب أفريقيا عبر الصحارى ويُشحن بالقوراب السريعة إلى السواحل الإسبانية، أو يُخفى في الحاويات الذاهبة إلى الموانئ الأوروبية. ووفق مسؤولين في مرفأ آنتروب، فإن ذلك قد جعل التدابير تغدو أكثر فاعلية عبر إجراء المسح الضوئي للحاويات القادمة من أميركا الجنوبية. في المقابل، يشرح كريستيان فاندرفايرين ذلك الأمر، مبيناً أنه "جرى اعتماد نوع مختلف من التدابير، كمراقبة الحاويات المشبوهة، وعمليات تحليل المخاطر، ومبادرات توحيد التدقيق الأمني والمعاملات الجمركية، وتبادل المعلومات مع الشركاء في أميركا الجنوبية". ويتابع "بالنظر إلى نجاحاتنا، فإن طرق (تهريب) المخدرات شهدت تحولات فعلياً. إذ تقلصت شحنات الكوكايين المباشرة من كولومبيا. وفي المقابل، باتت هنالك شحنات ترانزيت تمر عبر بلدان المرافئ البحرية كالبرازيل وكوستا ريكا والأكوادور والمغرب".
ووفق تقرير صادر من "الوكالة الدولية لمكافحة المخدرات" اطلعت عليه صحيفة "أي دي" AD الهولندية، فقد يكون التاغي نسق وتحالف مع عائلة كيناهان، ومافيا "كامورا" الإيطالية في نابولي، وتجار المخدرات في البلقان، بهدف إنشاء نمط من الـ"الكارتيل الخارق" يسيطر على شحنات الكوكايين الضخمة التي تأتي إلى أوروبا. ومن بين الضيوف المافياويين الذين رُصدوا في حفلة زفاف المافياوي دانييل كيناهان المزعومة، في فندق "برج العرب" الفاخر في دبي، ظهر الهارب من العدالة رافاييل إمبريالي. والأخير يرتبط بالجناح المنشق من مافيا "كامورا"، الذي انفصل من عائلة دي لاورو في أواسط العقد الأول من الألفية الثانية، وذلك عبر نزاع دام على طريقة "ضربة مقابل ضربة"، شكل مصدر إلهام بالنسبة إلى المسلسل الدرامي القاتم عن حرب العصابات "غومارا" Gomarrah، الذي تتضمن إحدى وقائعه أن عناصر من المافيا يقطعون رأس مافياوي منافس، ويترافسونه بأقدامهم مثل كرة قدم.
وأخيراً، في 2018 تمكن المحققون من تحقيق اختراق عندما اعترف نبيل البقالي بتخطيط عدد من الجرائم لمصلحة التاغي، وبدأ يفضح زعيمه. وبعد أسبوع، قُتل شقيق نبيل البقالي، رضوان، في مكتبه. وفي سبتمبر 2019، جاء دور محاميه ديرك فيرسوم، فقُتل أيضاً. واشتملت قضية الـ"مارينغو" المرفوعة ضد التاغي ورجال عصاباته، تسع جرائم قتل وقعت بين عامي 2015 و2017. ومع موت رضوان البقالي (شقيق نبيل)، والمحامي فيرسوم، ثم مقتل الصحافي دي فرييس، يكون أمامنا الآن حوالى دزينة جرائم مرتبطة بالمحاكمة (الـ"مارينغو")، التي تعقد جلساتها في قاعة محكمة خاصة محصنة تحرسها قوات الشرطة والطائرات المروحية.
وفي ذلك الصدد، يمثل في تلك المحكمة إلى جانب التاغي، سعيد الرزوقي المتهم بأنه يد التاغي اليمنى، وقد أُلقي القبض عليه في مخبئه في كولومبيا العام الفائت، حيث سكن بالقرب من بلدة "ميدايين" (من المراكز المشهورة لمافيات المخدرات في كولومبيا). وقد أشارت التقارير إلى أن الرزوقي حظي بحماية "عائلة الخليج" Gulf Clan، الفصيل المافيوي شبه المسلح الذي يتاجر بالمخدرات. وقد حاول الرزوقي القفز من نافذة من الطابق الثالث حين حاصرت قوات الشرطة شقته. أما الفصيح وإل ريكو فقد تلقيا فعلياً أحكاماً في محاكمات أخرى، وهما ليسا جزءاً من قضية الـ"مارينغو".
في صورة عامة، تحمل الحالة السائدة في هولندا أصداءً من إيطاليا مطلع التسعينيات من القرن العشرين، إبان محاكمات "قضية ماكسي" التي خضعت لها مافيا صقلية. وآنذاك، حوكم مئات من أفراد المافيا في ملجأ حصين تحت الأرض بني خصيصاً، وقد جرت تلك المحاكمات استناداً إلى أدلة واعترافات توماسو بوسيتا، زعيم المخدرات الذي تحول شاهداً. وخلال المحاكمات المذكورة، وفي أعقابها، قُتل عديد من القضاة والمحققين وبعض أقارب بوسيتا ضمن محاولات ترويع المحكمة وحملها على التراجع. في ذلك الإطار سنة 1992، جرى اغتيال جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلينو، المدعيان العامان اللذان أشرفا على المحاكمة. ونُفذت عمليتا الاغتيال بواسطة سيارتين مفخختين. وقد قتل القاضيان مع حراسهما. في المقابل، لم تُخضع تلك الجرائم إيطاليا، بل ولّدت بدلاً من ذلك ردود أفعال جعلت مافيا الـ"كوزا نوسترا" مجرد شبح عما كانته في ماضيها.
وفي سياق المحاكمات المنعقدة في هولندا حاضراً، يشير الدكتور روكس إلى أنه "إذا اتضح أن التاغي، أو الأشخاص المقربين من منظمته مسؤولين (عن مقتل دي فرييس)، فإن ذاك سيطرح بعض الأسئلة المهمة". ويتابع، "بالنسبة إلى التاغي، لقد انتهى الأمر فعلاً على نحو سيئ في بعض المناحي. إذ يقبع في سجن حصين وتحت حراسة مشددة، وأعتقد أنه من الآمن الافتراض أن المدعين العامين سيتوصلون إلى حكم بالسجن المؤبد. وعلى الرغم من استحالة تأكدنا من ذلك، فإني لا أعتقد أن ما جرى يشكل عملاً يائساً. وبالنظر إلى الجرائم الأخرى التي أحاطت بالقضية (قضية الـ"مارينغو")، إذا افترضنا أن تلك الجريمة مرتبطة بها أيضاً، فإن ما يظهر ليس سوى لعبة نفوذ كبرى، تُصيب كل من له علاقة بـ"الشاهد الملك". وقد يشير استهدافهم الدولة أيضاً إلى أن أولئك الأشخاص يشعرون بأنهم محصنون، ولا يمكن المساس بهم، وأنهم إلى درجة معينة، قد ينجون بأنفسهم".
أمام كل هذه الوقائع، قد يُعذر المرء إذا اعتقد أن هولندا باتت واقعة تحت حصار مافيات أجنبية دنيئة. وبعد وقت قصير من جريمة قتل فيرسوم، تساءل السياسي اليميني المتطرف، خيرت فيلدرز، في البرلمان "لا أعرف إن كانت الحكومة لا تزال السلطة المسيطرة في هولندا". وتابع فيلدرز، "تلك المافيا المغربية الفظيعة، وهي السم في المجتمع الهولندي، تتحكم بكل شيء من دبي إلى أميركا الجنوبية وإسبانيا. هل ما زلتم (الحكومة) تملكون زمام الأمور؟ يتساءل الناس، هل ما زالت لدينا دولة دستورية في هولندا، أم بتنا في دولة مخدرات؟"
بالتالي، يكمن في طيات هذا الخطاب الشعبوي الكاره للأجانب، وإعلان الحرب على المخدرات، مخاطر تتمثل في زيادة عزل شباب الأقليات عن المجتمع الهولندي العام. ويتناول الدكتور روكس ذلك الأمر، معتبراً أنه "بالنسبة إلى الحالات الخطيرة المتعلقة بمجرمين متمرسين، أعتقد أن التشدد يمثل رسالة مهمة ينبغي إيصالها. لكن، بالأمس تحدثت إلى أحد المشتبه فيهم الذي يواجه احتمال تلقي حكماً بالسجن المؤبد بسبب تورطه في قضية كبيرة ودوره المزعوم في ترتيب عدد من جرائم التاغي. وقد أشار ذلك المتهم إلى أن ردود الفعل القاسية من قبل حُماة القانون لن تؤدي إلا إلى تعميق الهوة بين الحكومة وبين فئات محددة في المجتمع. وبالمناسبة، لم يكن الرجل يتحدث عن قضيته الشخصية بالضرورة، بل علق على ما يرى أنه حاصل على مستوى الشارع".
يتابع روكس ملاحظاته، "حتى قبل الاهتمام الاعلامي بقضية التاغي، جسَّد المغاربة "الآخر" في هولندا. لذا، على الرغم من أنني لا أعتبر القمع رداً مناسباً، إلا أنه ليس بوسعي رؤية طريقة أخرى بديلة تعتمدها الحكومة وترد بها. في المقابل، أعتقد أيضاً أنه علينا تحسين منهجنا الوقائي والتركيز على الشبان وصغار السن الذين يترعرعون في هولندا. وللأسف، يلقى ذلك الأمر الأخير اهتماماً أقل في الوقت الراهن".
في الإطار ذاته، أظهرت الدراسات أنه بمجرد القبض على زعيم عصابة أو قتله، تشهد الجرائم العنيفة تفاقماً، إذ يبدأ أعضاء العصابة صراعهم على موقع خلافة الراحل، على غرار ما يحصل على نطاق أكبر في المكسيك. هل يمكن لهذا الشيء ذاته أن يحصل في هولندا؟
يجيب الدكتور روكس "نظرياً، يمكن حصول أمر مشابه في هولندا. لكن، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار النسق الهولندي في ثقافة الجريمة المنظمة. وفي ذلك الصدد، يستطيع المرء أن يجادل بأن الـ"موكرو- مافيا" (المافيا المغربية)، ملأت الفراغ بعد اعتقال زعماء المافيا الهولنديين على غرار فيليم هولييدير. وكذلك يمكن الذهاب إلى أن العنف بدأ حين كان الأخير في "الذروة" (فعلياً)، ولم يكن في طريقه إلى تلك الذروة". ويتابع، "لذا وباختصار، أنا في الحقيقة لست متأكداً. لقد أثارت الـ"موكرو- مافيا" كثيراً من الاهتمام من قِبَل القيمين على إنفاذ القانون بسبب العنف. بالتالي، فإن اعتماد طريقة بعيدة عن الأنظار قد يكون سبيلاً جيداً يُفضي إلى الاستمرار في العمل. وقد يُعد العنف المفرط سيئاً للأعمال، بحسب ما يظهر في قضية التاغي".
لكن حتى لو أسهم ميل إحدى العصابات إلى قطع الرؤوس، معطوفاً على نزعة كره الأجانب، في جعل تلك الجماعات هدفاً محدداً لتطبيق القانون، فإنها ليست الجماعات الوحيدة التي تنقل الكوكايين وتتعامل به. إذ حرص خليل* على تبديد فكرة التنميط، ملقياً باللوم بالنسبة إلى موجة الجرائم على مجموعات شرسة في أوساط المشتغلين بالمخدرات. ويشرح خليل ذلك الأمر، "انظر، 80 في المئة مما تقرأه في الإعلام خطأ. تبدأ المشكلات عندما يسرق المرء شيئاً. إذا سرق شخص ما بيتك، فإنك لن تدعوه إلى زيارتك كي يشرب الشاي. في المقابل، أنت تدرك أن الأمر يمثل مسألة عالية المستوى، تتضمن مئات ألوف اليوروهات. وبيننا في الـ"موكرو- مافيا" ثمة من يعمل، وثمة من يسرق. أولئك الذين تسمع عنهم في الأخبار، الذين يقطعون الرؤوس ويقومون بباقي الهراء، يشكلون ربما 5 في المئة منا. أعرف عدداً قليلاً من الأشخاص الذين ينفذون تلك الأعمال والقذارة، لكني لا أعمل معهم. أنا أكتفي بعملي. ولم أمر في أي تجربة استدعت مني استخدام العنف".
لذا، وعلى الرغم من أن الأمور قد تكون قد هدأت بعد محاكمات قضية الـ"مارينغو"، فإنه من غير المرجح أن تتبدل أمور كثيرة في عالم تهريب المخدرات والاتجار بها. وقبل مدة قصيرة هذا العام حققت قوى الشرطة الألمانية والبلجيكية عملية مصادرة لأكبر شحنة من الكوكايين في أوروبا، شملت 23 طناً مترياً من البضاعة البيضاء التي تساوي مليارات اليوروهات، وكلها مرتبطة مع هولندا. وعلى الرغم من (أو ربما بسبب) فيروس كورونا، لم يتوقف الأوروبيون عن شراء الكوكايين. بالتالي، يمكنك الانتصار على منظمة إجرامية، لكنك لا تستطيع التغلب على السوق.
*اسم مستعار استخدم في حجب هوية المتحدث الحقيقية
نيكو فوروبيوف مروج وتاجر مخدرات سابق (مدان) وقد تحول كاتباً، بشهادة من الحكومة، وألف كتاب "دوب وورلد" (عالم مخدر) Dopeworld يتناول فيه تجارة المخدرات العالمية. يمكن متابعته على "تويتر" @Lemmiwinks_III
© The Independent