كانت استعادة حركة "طالبان" السيطرة على أفغانستان، بعد إزاحتها على يد القوات الأميركية قبل 20 عاماً، أسهل بكثير من وصولها إلى السلطة في نهاية تسعينيات القرن الماضي. يومها، اقتضى صعودها معارك داخلية مفتوحة، وصراعات مع أمراء الحرب، واغتيالات طاولت قيادات بينهم زعيم تحالف الشمال، أحمد شاه مسعود. أما اليوم، فلم تستوجب عودة الحركة إلى كابول كل تلك الأثمان، فمنذ إعلان بدء سحب القوات الأميركية، انطلق مقاتلو "طالبان" في ما يشبه "مسيرة عسكرية" تساقطت خلالها المدن والولايات الواحدة تلو الأخرى، بينما فر مسؤولون إلى البلدان المجاورة، بمن فيهم أحد رموز الحرب الأفغانية منذ أيام الاتحاد السوفياتي، رشيد دوستم، الذي ترقى أخيراً إلى رتبة مارشال قبل أن يهرب إلى أوزبكستان تاركاً معقله في مزار الشريف.
بدا الأمر وكأنه تسليم وتسلم؛ الأول من جانب الأميركيين، والآخر من جانب الحركة التي نشأت برعاية المخابرات الباكستانية، ولا تزال تحتفظ معها بأوثق العلاقات، ما يطرح أسئلة عن طبيعة ومضمون اتفاق الدوحة برعاية الأميركيين بين حكومة الرئيس أشرف غني المنهارة والحركة المنتصرة مجدداً.
وكان مقاتلو المنظمة الأفغانية على أبواب كابول فيما يواظب ممثلوها من الدوحة وغيرها على الدعوة إلى الحوار، وهو ما فعله أيضاً الناطقون بلسان الخارجية الأميركية. وحده أشرف غني بقي متمسكاً بوهم استعادة السيطرة وإعادة تنظيم قواته التي تفككت كبناء كرتوني. وعندما دخلت "طالبان" ضواحي العاصمة لم يبقَ أمامه إلا التصديق بأن كل شيء قد انتهى، والمنفذ الوحيد هو ركوب أول طائرة متاحة.
الآن، وتحت أنظار الإدارة الأميركية، وربما برعايتها، سيحل هبة الله أخوند زادة، زعيم "طالبان" مكان غني الذي تخلى عنه حلفاؤه، وسيكمل القائد الأفغاني الصاعد تنفيذ موجبات اتفاق 29 فبراير (شباط) 2020 الموقع في الدوحة مع الولايات المتحدة، والذي وصفه أخوند زادة في حينه بأنه "انتصار كبير" لجماعته.
تعرف واشنطن الزعيم الطالباني جيداً، فهو خلف الملا أختر منصور الذي قتل في غارة أميركية نهاية مايو (أيار) 2015، وفي أول تصريح له توجه إلى الحكومة الأفغانية قائلاً، "إن دعمكم وانحيازهم للغزاة يشبه عمل تلك الوجوه البغيضة التي دعمت في الماضي البريطانيين والسوفيات... "طالبان" لديها برنامج لتوحيد البلاد في ظل الشريعة الإسلامية وأبواب العفو والغفران مفتوحة".
اتهم زادة لدى تنصيبه أميراً لجماعته بأنه تولى المنصب بأمر من المخابرات الباكستانية، وكان عليه مواجهة انشقاق مولوي نقيب الله هونر الذي أعلن "الجهاد" ضده، إلا أنه تمكن من تثبيت موقعه في مواجهة المنشقين وضد الحكومة في كابول وتنظيم "داعش"، الذي وصفه في مارس (آذار) 2017 بـ"طاغية طالبان".
في المقابل، تمتع أخوند زادة بدعم تنظيم "القاعدة". وقد أصدر فرع التنظيم في "شبه القارة الهندية" في يونيو (حزيران) 2017، "مدونة سلوك" أوضح فيها أنه ملزم ببيعة زعيمه أيمن الظواهرى لأخوند زادة، وأن "(القاعدة) في بلاد الرافدين تقاتل أعداء طالبان خارج أفغانستان، بينما تقاتل في الوقت نفسه إلى جانبها داخل البلاد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنأ تنظيم "القاعدة" في مارس 2020 "طالبان" على اتفاق السلام الموقع مع الولايات المتحدة ووصفه بـ"النصر التاريخي" الذي "أجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها المحتلة من أفغانستان والامتثال للشروط التي يمليها مجاهدو طالبان".
تعرف الولايات المتحدة هذه التفاصيل، ومع ذلك مضت في اتفاقها مع "طالبان" وفي تنفيذ قرارها الانسحاب من أفغانستان. وكانت تتوقع ما سيجري وربما سعت لتنظيم تسلم الحركة الأفغانية السلطة من دون معارك كبرى. وفي السياق بدا أن لباكستان دوراً محورياً في تنفيذ هذا "المخطط".
في الشهر الماضي زار أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي الهند والكويت في جولة تبحث ما بعد الانسحاب الأميركي. ومن دلهي دعا باكستان إلى "فعل كل ما بوسعها للتأكد من ألا تستولي "طالبان" على البلاد بالقوة". وحمّل زلماي خليل زاد، المبعوث الأميركي الخاص لأفغانستان، باكستان "مسؤولية خاصة" حيال قادة "طالبان" المقيمين على أراضيها، فيما كان أشرف غني يتحدث الشهر الماضي، عن 10 آلاف مسلح غادروا باكستان إلى أفغانستان للمشاركة باستعادة "الإمارة الإسلامية"، لكن ماذا عن أدوار الدول الأخرى المحيطة بأفغانستان؟
ستواصل باكستان علاقتها الخاصة بالسلطة الجديدة في كابول، وربما تشارك في ضمان تنفيذ "طالبان" تعهداتها للأميركيين في عدم التعرض لمصالحها. وقد تعهدت "طالبان" التي تصنفها واشنطن كحركة إرهابية بذلك في اتفاق الدوحة، لكن الدول المجاورة الأخرى لن تكون في مزاج طيب. ستخشى روسيا على نفوذها في آسيا الوسطى (طاجكستان وأوزبكستان)، وستنتظر الصين انعكاس التحول الأفغاني على أوضاع الإيغور المسلمين على مقربة من حدودها مع البلاد الجبلية، فيما ستترقب الهند سياسة النظام العائد تجاه مشكلتها القديمة في كشمير.
بين دول الجوار ستكون إيران الدولة الأكثر حساسية تجاه التحول الجديد. لقد حرصت إيران على مد خيوط اتصال مع "طالبان" في الشهور الأخيرة، في الوقت الذي عرضت فيه وضع الميليشيات التي نظمتها في إطار "فيلق القدس" في تصرف الحكومة. ونصحت إيران بعدم استعمال صيغة "الإمارة الإسلامية" المحورية في نظام "طالبان"، لكن الحركة الأفغانية التي تتناقض مذهبياً وسياسياً مع النظام الإيراني ستمضي في "إمارتها" على الضفة الشرقية لـ"الجمهورية الإسلامية"، التي ستواجه واقعاً جيوسياسياً جديداً قد يجبرها على تشتيت جهودها ما يخفف ضغطها على بلدان المشرق العربي. سارت عملية أفغانستان بسلاسة قصوى. والآن، علينا انتظار نتائج الإرباك الاستراتيجي الذي صنعته أميركا في وسط الشرق الأوسط وغرب آسيا.