أثار لقاء رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيد وفداً رسمياً أميركياً ترأسه مساعد مستشار الأمن القومي جوناثان فاينر في قصر قرطاج، أول من أمس، الذي على ما يبدو كان محملاً برسالة موجّهة إلى سعيد، ردود فعل رافضة للتدخل الخارجي في شؤون البلاد، إذ دان عدد من الأحزاب والمنظمات الوطنية والشخصيات السياسية والمدنية الأمر. فهل حقاً أمر الضغوط هذا من أجل العودة إلى ما قبل 25 يوليو (تموز) 2021؟ وما هي حدودها وتأثيرها في القرار السياسي الوطني؟
تضمن البيان الصحافي الصادر عن البيت الأبيض دعوة سعيد إلى التسريع بعودة ما سمّاه "المسار الديمقراطي" في البلاد. وأشار إلى أن جوناثان فاينر سلّم رسالة بايدن إلى الأخير، و"تحضّه على العودة السريعة إلى المسار البرلماني في تونس"، مضيفاً أن المستشار الأميركي "ناقش أيضاً مع الرئيس الحاجة الملحة إلى تعيين رئيس وزراء لتشكيل حكومة قادرة على معالجة الأزمات الاقتصادية والصحية العاجلة التي تواجهها البلاد".
تونس محط أنظار واشنطن
يقول رئيس مؤسسة ابن رشد للدراسات العربية والأفريقية كمال بن يونس لـ"اندبندنت عربية" إن "تدخّل الإدارة الأميركية في شؤون المنطقة العربية معهود وطبيعي"، موضحاً أن "الموقع الاستراتيجي لتونس، باعتبارها بوابة أفريقيا يجعلها محطّ أنظار الولايات المتحدة، التي تراقب عن كثب التطورات الجيوسياسية في المنطقة، بخاصة الوضع في ليبيا والجزائر والامتداد الروسي والصيني فيها".
ويضيف أن "العامل الخارجي كان حاسماً في المتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية، خصوصاً في شمال أفريقيا وعلاقته بما يعرف بالربيع العربي"، مشيراً إلى أن "الولايات المتحدة أنفقت في تونس خلال الأعوام الثلاثة الماضية حوالى 3 مليارات دينار تونسي (ما يعادل مليار دولار أميركي)، لدعم ما يُسمّى برنامج الديمقراطية والإصلاح، إضافة إلى تدريب نحو ثمانية آلاف عسكري وأمني ومدني (المجتمع المدني) تحت عناوين مختلفة، بينها مقاومة الإرهاب".
علاقات قديمة وتاريخية
ويقرّ رئيس مؤسسة ابن رشد بالتكلفة السياسية للتدخل الخارجي، لافتاً أن "المسألة السياسية التونسية تعني الولايات المتحدة بشكل مباشر، وهو تدخل قديم عبر تاريخ تونس المعاصر، وليس بجديد بحكم العلاقات التي كانت تربط الأنظمة التي حكمت البلاد قبل 2011، كما لم يتخلّص النظام السياسي الذي جاء بعد هذا العام من التقرّب للولايات المتحدة".
ويلاحظ بن يونس أن السياق اليوم في البلد مختلف بعد 25 يوليو 2021، "وهي لحظة مفصلية للتمرد على المنظومة القديمة التي حكمت البلاد"، لافتاً إلى أن "الرسالة الخطية من بايدن إلى سعيد مثّلت تتويجاً لاتصالات عدة ولقاءات بين وفود أميركية وتونسية".
الحفاظ على المنجز الديمقراطي
إذاً تبدو واشنطن قلقة إزاء التطورات السياسية في تونس، بخاصة بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها قيس سعيد، وهي لا تريد التفريط في التجربة الديمقراطية الوليدة والفريدة في المنطقة العربية. وتملك الولايات المتحدة أدوات ضغط على البلاد، بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية والصعوبات المالية التي تمر بها، وستجد تونس نفسها الآن أمام ضرورة الاستجابة للطلب الأميركي في الحفاظ على المنجز الديمقراطي، وأيضاً عدم التورّط في أي شكل من أشكال التحالفات الإقليمية، التي ربما تكون معادية للتوجهات الاستراتيجية للولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المصالح الأميركية في المنطقة
ويؤكد الباحث في تاريخ العلوم السياسية محمد ذويب في تصريح خاص أن "الولايات المتحدة كعادتها تحاول دائماً تكييف موقفها مع ما يجري في كل دول العالم، وتحاول أن تظهر بمظهر الديمقراطي والوصيّ على شعوب الأرض، بخاصة الدول الضعيفة منها، كما هي الحال في تونس". ويرى أن "واشنطن تعمل على تطوير موقفها تدريجاً في تونس لضمان مصالحها، بحيث ساندت الخارجية الأميركية في البداية موقف سعيد في 25 يوليو بنوع من الحذر، ثم تتالت الزيارات والآن تطالبه واشنطن بضرورة إعادة البرلمان وإعداد خريطة طريق واضحة والمحافظة على الحريات".
ويشير ذويب إلى ما سمّاه "الدعاية النهضاوية" المكثفة أخيراً، ومناشدات قيادات الحزب الخارج للتدخل وإثناء سعيد عمّا قام به، وصدرت هذه النداءات عن رئيس البرلمان راشد الغنوشي والمقربين من حركة النهضة، وهي دعوات فيها الكثير من المغالطات والتخوف المبالغ فيه"، بحسب تقديره.
ويضيف الباحث في تاريخ العلوم السياسية أن "لقاء سعيد الوفد الأميركي اعتبرته قيادات النهضة نصراً لها، إلا أنه أثار سخط أحزاب وطنية عدة ندّدت بالتدخل الخارجي في الشأن الوطني"، داعياً رئاسة الجمهورية إلى "رفض أي تدخل في شؤون تونس وشعبها".
أحزاب تندد بالتدخل الخارجي
ودان حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، ما اعتبره "تدخلات المحاور الإقليمية السافرة في شؤون تونس، ومحاولاتها تطويع نضال الشعب لصالح أجنداتها المعادية لمصالحه". واستنكر الحزب في بيان "السعي المحموم لبعض الأحزاب والمنظمات لإقحام قوى الهيمنة في العالم وحلفائهم في الشؤون الداخلية للبلاد".
من جهتها، دانت حركة الشعب في بيان لمكتبها السياسي، ما قالت إنها "دعوات للتدخل الأجنبي في الشأن التونسي، صدرت عن أطراف حزبية وسياسية بخاصة حركة النهضة، تحت شعار حماية الديمقراطية والحملات الإعلامية المحمومة مدفوعة الأجر في بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية وبث الأكاذيب حول الوضع العام في البلاد".
واعتبرت حركة الشعب أن ما حصل بعد 25 يوليو، هو "شأن تونسي صِرف، قرره رئيس الجمهورية استجابة لمطالب شعبية لوضع حد لمنظومة فاسدة أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية والإفلاس"، وفق نص البيان.
ودعت الحركة، القوى الوطنية والشبابية، إلى "الوقوف ضد كل محاولات الاختراق والتدخل في القرار الوطني". كما عبّر حزب التيار الشعبي عن "رفضه المطلق لأي تدخل خارجي في تونس، من أي جهة كانت"، معتبراً ما تقوم به "حركة النهضة" في هذا الصدد "دليلاً قاطعاً على إصرارها على نهج الخيانة الوطنية"، بحسب ما جاء في البيان.
ودعا التيار الشعبي كل دول العالم والولايات المتحدة بصورة خاصة إلى "ضرورة احترام سيادة الشعب وعدم التدخل في شؤونه". وطالب الحزب رئيس الجمهورية بالكشف عن رؤيته للمرحلة المقبلة ومشاركة الشعب وقواه الوطنية ومصارحته بحقيقة الضغوط الخارجية، ومن يقف خلفها وبالتعهد بحماية استقلالية قرار تونس وتنفيذ إرادة شعبها.
وكان الرئيس قيس سعيد ذكّر خلال لقاء الوفد الأميركي أن التدابير الاستثنائية التي اتُّخذت في 25 يوليو الماضي، "تندرج في إطار تطبيق الدستور، وتستجيب لإرادة شعبية واسعة، لا سيما في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستشراء الفساد والرشوة". وسبق للغنوشي أن أكد رفض الحركة "للتدخل الأجنبي في شؤوننا الداخلية"، مضيفاً، "نحن نعيش في عالم مترابط تتشابك فيه المصالح والمؤثرات وتتداخل، وموقع تونس المغاربي وفي البحر المتوسط وأفريقيا، إضافة إلى كونها صاحبة الريادة في الربيع العربي، كل ذلك يجعل قوى عدة تعمل على التأثير والتدخل".