من المؤكد أن الكاتبة الجنوب أفريقية البيضاء نادين غورديمير لم تكن لتعتقد ولو في أسوأ كوابيسها خلال العقود الطويلة التي زاوجت فيها بين مسارها الأدبي ونضالها السياسي ضد التمييز العنصري في حق السود من سكان جنوب أفريقيا، أنها يمكن أن تنتهي حياتها، الطبيعية والكتابية بتلك الرواية الأخيرة التي أصدرتها عام 2012 لتكون روايتها الأخيرة التي أعطتها عنواناً دالاً هو "ما من زمن يشبه الحاضر". فعلى الرغم من أن غورديمير كانت قد حققت مع مجيء نيلسون مانديلا إلى الحكم واستعادة الغالبية السوداء وطنها وكرامتها بفعل نضالات طويلة أسهم فيها على أية حال عدد من المبدعين والكتاب البيض وقفوا إلى جانب نضال السود، خالقين أدباً نزيهاً لتلك المنطقة من العالم وحائزين على جوائز أدبية عالمية، من بينها "نوبل" التي نالتها غورديمير نفسها، كانوا من الأكثر فرحاً حين قاد مانديلا الجزء السلمي من ثورته وأوصل الحقوق إلى أصحابها، على الرغم من ذلك، حسبنا أن نقرأ رواية غورديمير الأخيرة هذه حتى نجدنا أمام خيبة ما بعدها من خيبة، تعبر عنها الكاتبة إزاء ما تحولت إليه الثورة وما آل إليه البلد، وبخاصة بعد رحيل مانديلا وبعدما كان قد خيّل لمن أفنوا عمرهم في سبيل التغيير أن الفردوس المفقود بات ماثلاً أمامهم.
لم نناضل من أجل هذا
ما لدينا في هذه الرواية، إذاً، إنما هو حديث الخيبة ولكن ليس الندم طبعاً. فالخيبة لم تصل بالكاتبة ولا بعشرات غيرها من المناضلين البيض الشرفاء إلى وضع يندمون فيه على ما ناضلوا من أجله. كل ما في الأمر أن "ما من زمن يشبه الحاضر" تقول بوضوح أن ما آلت إليه الأحوال "لم يكن ما ناضلنا في سبيله". وهكذا بكل بساطة أعلنت نادين غورديمير أنها ليست سعيدة بإنهاء حياتها على الصورة التي باتت تشاهدها في هذا البلد. ولئن كان كثر من النقاد الأنجلو ساكسون بخاصة، قد أثنوا على موضوع الرواية وما تعبر عنه غورديمير من حقائق اجتماعية وسياسية تدنو من أن تكون صادمة لمن بنوا آمالاً كبيرة على انتهاء نظام الفصل العنصري، غير قادرين على المزايدة عليها خلال العامين الأخيرين من حياتها هي التي تعيش بنفسها ذلك البؤس الذي تصفه في الرواية، لكنهم في المقابل أخذوا عليها استخدامها الصارم لغة غير مدركين على أية حال أنه إنما كان استخداماً مقصوداً كنوع من احتجاج الكاتبة في مراحل حياتها الأخيرة ضد ما اعتبرته "فشل اللغة في إيصال النضال إلى خواتمه السعيدة".
شهادة عن ضياع الأحلام
مهما يكن من أمر ومهما كان صواب أو تهافت الرأي النقدي في آخر ما كتبته غورديمير سيبقى أن روايتها هذه يجب النظر إليها على كونها شهادة صادقة على ضياع الأحلام في بوتقة الحقائق والفشل السياسي العام. والأحلام هنا ليست فقط أحلام الكاتبة وحدها، بل أحلام الشخصيتين الرئيستين في الرواية: ستيفن الأبيض نصف المسيحي/نصف اليهودي، وزوجته جابوليل (جابو) المنتمية إلى الزولو ذوي الأصول الأفركانية، وهي مزيج من المستوطنين ذوي الأصول الهولندية وسكان البلاد الأصليين. ففي الزمن الذي تلا التغيرات السياسية "الإيجابية" الكبرى التي عصفت بجنوب أفريقيا صار في مقدور هذا الثنائي المنتمي إلى النخبة المثقفة التي ناضلت ضد العنصرية وفي سبيل رفع الظلم عن السكان الأصليين، صار في مقدوره أن يعيش حياة زوجية كانت محرمة عليه من جراء قوانين الفصل العنصري. وها هما ذان الآن يعيشان ما يبدو أول الأمر أنه السعادة المطلقة بفضل وضع اجتماعي أكثر من ملائم وإقامة في منطقة بورجوازية مختلطة. هو عالم كيمياء مرموق وهي تتابع دراسة الحقوق بغية أن تصبح محامية بالتلاؤم مع الدور المشرف المناط بالقضاء في السياق السياسي الجديد. وبالنسبة إلى الاثنين يشعران معاً في البداية أنهما إنما يقطفان الثمرات المستحقة لنضالهما الماضي معاً إلى جانب حزب المؤتمر، حزب مانديلا، وهما المنتميان أصلاً إلى بورجوازية متنورة، ولهما اليوم طفلان يريدان أن ينشئانهما في بلد سعيد وبيئة راقية.
من العنصرية إلى الطبقية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن هذه الوضعية الخاصة وهذا التطلع المشروع لهذا الثنائي تفيدنا الكاتبة منذ البداية أنه ليس استثنائياً لا في حياته الحاضرة ولا في ذكريات نضاله المثمر الذي يواصله الاثنان اليوم بالزخم نفسه، في سبيل بناء مستقبل مشرق للوطن كما للعائلة الصغيرة... وكل هذا يصور لنا بقلم الكاتبة بشكل منطقي كما يصوّر العمل الطبيعي والدؤوب الذي لا يزال الأمر يتطلب القيام به لأجيال وأجيال مقبلة. ولكن مهلاً هنا! تقول لنا الكاتبة... صحيح أن التمييز العنصري على أساس العرق واللون قد بات من الماضي، ولو بصورة رسمية في الأقل. ولكن ها هي ذي تحل مكانه هوة أوسع منه بكثير وربما أخطر بكثير أيضاً، هي الهوة الطبقية التي سنكتشف مع الكاتبة وبطليها أنها صارت السياق السائد في الحياة الاجتماعية في هذا البلد. ولئن كان ستيفن وامرأته جابو يعيشان اليوم مع أسرتهما الصغيرة تلك الحياة الهادئة التي طويلاً ما تطلعا لعيشها، هناك من حولهما بؤر بؤس لا تنتهي وتناقضات تنهش هذا البلد، هي التناقضات التي كانا قد أسهما مع آخرين في إيصال جنوب أفريقيا إليها. تناقضات باتت عبارة عن أخبار تُتداول يومياً في الصحف ومن أذن إلى أذن وفي الحياة اليومية عن اعتداءات من كل الأنواع وعصابات سرقة سيارات وبيوت واعتداءات على الحرمات تتجاوز الفروقات اللونية أو العرقية بالنسبة إلى مكوناتها كما بالنسبة إلى ضحاياها. ولا بد أن يتراكم هذا مع حكايات لا تكاد تصدق عن أبيض يطلق النار عشوائياً على طفل أسود أو بيضاء تغتصب من قبل عصابة من السود. إنه اليوم الفقر الذي يصنع الأعاجيب والذي من المنطقي أن جابو تعايشه يومياً من خلال اشتغالها في القضاء محامية. جابو التي لا تتوقف الآن عن مساءلة نفسها حول المصير المرسوم لابنتها الطفلة حين تكبر!
أسئلة لا جواب لها
أمام هذا الواقع ها هو ذا ستيفن يتساءل، متجاوزاً ضميره السياسي وماضيه النضالي، عما إذا لم يكن الوقت قد حان للهجرة إلى أستراليا مع عائلته الصغيرة. فهو الذي تمكن من أن يجابه العنصرية ويقارعها مدافعاً عن حبه لجابو سنوات علاقتهما الأولى ضد مجتمع كانا يتصورانه الشر المطلق، كيف يمكنه الآن أن يجابه الشرور الجديدة المتمثلة في العنف واستشراء العصابات والجوع والفساد وشتى أنواع ومستويات العنصريات الجديدة؟ تلكم هي الحال التي تصفها غورديمير في هذه الرواية، وذلكم هو الواقع الذي ترسمه من حول شخصين بسيطين كانا يعرفان من يكونان أيام النضال السياسي ضد نظام عنصري فاسد وعنيف لكنهما باتا اليوم عاجزين عن التعرّف لا على البلد ولا على نفسيهما. لقد انتهيا من معركتهما الأولى التي كانت بسيطة إلى حد ما وها هما ذان في مواجهة معركة أكثر تعقيداً بكثير فما العمل؟ غورديمير لا تملك إجابة وهي لو كانت تملكها فإنها أخذتها معها عند رحيلها تاركة بطليها أمام معضلة يصعب إيجاد حل لها... تركتها على شكل وصية سياسية هي وصية الخيبة بالتأكيد.
نضال طويل الأمد
ولدت نادين غورديمير التي سترحل عام 2014 عن 91 سنة، في عام 1923 في إحدى ضواحي جوهانسبرغ الغنية (ضاحية تشبه تلك التي يعيش فيها بطلا الرواية). وهي منذ سنوات شبابها الأولى خاضت النضال ضد العنصرية واضطهاد الإنسان أخاه الإنسان، مدفوعة إلى ذلك بعاملين أساسيين أولهما أن والديها عانيا تمييزاً دينياً ولا سيما في موطنهما الأصلي بين ليتوانيا ولاتفيا، وثانيهما أنها تربت في دير كاثوليكي اشتهر عن رهبانه وراهباته تعاطفهم مع السود والملونين عموماً. وهي نشرت أول أعمالها على شكل مجموعات قصص قصيرة أواخر سنوات الـ40، لتنشر عام 1953 أولى رواياتها "الأيام الكاذبة"، وتواصل بعد ذلك إصدار ما معدله كتاب في كل عام بين رواية ومجموعة قصص قصيرة ومسرحيات ومقالات مجموعة في كتب ما جعلها تفوز باحترام عام وجائزة "نوبل" عام 1991.