شهدت العاصمة بغداد والمحافظات العراقية، انتشاراً كبيراً للعشوائيات (التجاوزات) خلال العقدين الماضيين، بحيث تحوّلت بعض المساحات الفارغة والمناطق الزراعية والصناعية إلى مناطق سكنية عشوائية مكتظة بآلاف الأشخاص وسط افتقارها إلى أبسط مقومات الحياة والبيئة الصحية وغياب شبه تام للخدمات، بالتزامن مع تقلص المساحات الخضراء سنة بعد أخرى.
وشوّهت ظاهرة العشوائيات مظهر المدن، التي تنقصها التصاميم الحديثة، فيما تغيب القوانين الرادعة للحد من تلك الظاهرة السلبية، بخاصة أنها حاضنة لمجموعة ظواهر أخرى كالجهل وتعاطي الكحول والمخدرات وانتشار العنف والجرائم بمختلف أنواعها.
رفع التجاوزات
وأطلق رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الأسبوع الماضي، عملية شاملة لـ"رفع التجاوزات" على أملاك الدولة، بعد زيارته إلى عائلة رئيس بلدية محافظة كربلاء (جنوب البلاد) عبير الخفاجي، الذي اغتيل على يد مسلح أثناء إشرافه على ازالة التجاوزات في المدينة.
وقال الكاظمي في بيان، "مشروع رفع التجاوزات سينطلق من كربلاء ويشمل جميع المحافظات، وسيتم رفعها في عموم العراق"، لافتاً إلى أن "قوات الأمن ستتولى مهمة توفير الحماية للمؤسسات المعنية".
وأضاف "سنكون أكثر شدة مع المتجاوزين على الدولة وعلى القانون، فلا يوجد أحد فوقه، ولن نسمح بأن تعم الفوضى".
وتشهد العاصمة العراقية حملة كبيرة لرفع التجاوزات السكنية والتجارية، ووجّه أمين بغداد المعمار علاء كاظم العماري الأسبوع الماضي، جميع دوائر وتشكيلات أمانة بغداد بالاستمرار في حملاتها لإزالة المخالفات.
وأكد في بيان أن "أمانة بغداد تواجه تركة ثقيلة في حجم التجاوزات الجسيمة التي شوّهت مشهد العاصمة الحضري. كما تواجه تحديات كبيرة، منها عدم تطبيق القانون والاعتداءات المتكررة من قبل المتجاوزين على كوادر الأمانة".
ورأى العماري أن "دعوة رئيس الوزراء وتبنّيه الملف أعطيا دافعاً كبيراً وزخماً مهماً لهذه الحملة ولجميع العاملين على تنفيذ القوانين البلدية".
ظروف البلاد
وحذرت وزارة التخطيط، الشهر الماضي، من تفاقم ظاهرة العشوائيات التي وصلت إلى 15 في المئة بالعاصمة بغداد.
وأكد وزير التخطيط خالد بتال النجم، في تصريح صحافي أن "نسبة العشوائيات كبيرة في العراق"، مبيّناً أن "الحكومة أعلنت عن 500 ألف قطعة سكنية بدأ التقديم عليها بشكل إلكتروني، ولكن ما أريد قوله إن ليس كل سكن عشوائي هو بمعنى عشوائي، لدينا تفاصيل لهذا، بحيث هناك سكن عشوائي في مناطق زراعية، وسكن عشوائي في مناطق سكنية ولكنه غير مجاز، وهناك سكن في مناطق خضراء أو صناعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأقرّ النجم بأن "هذه العشوائيات أتت نتيجة الظروف التي مر بها البلد منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية. كما أن التنمية لم تكن تواكب زيادة عدد السكان العالية جداً"، مشيراً إلى أنه "في العام الماضي، صار عدد الولادات مليوناً و258 ألفاً، بالتالي في ظل هذه الظروف نحتاج إلى ملايين الوحدات السكنية".
وكان الكاظمي كشف عن خطة وطنية لتوزيع الأراضي، وقروض مالية لبناء المساكن، واتباع آليات تسجيل رقمية متطورة لتنفيذ المشروع، بهدف تحجيم أزمة السكن في البلاد، مع توقعات بازدياد عدد السكان إلى 50 مليون نسمة بحلول عام 2030.
غياب القانون
يؤكد الباحث في الشأن الاقتصادي حمزة لؤي الحردان أن ملف العشوائيات في معظم مناطق العراق يعود إلى غياب القانون الرادع لمن يتجاوز على الأراضي الحكومية والمناطق غير المخصصة للسكن.
ويضيف "إذا تحدثنا عن بغداد، التي تتصدر قائمة المدن الأكثر تضرراً، فإن العشوائيات انعكست على طبيعة الخدمات والبنى التحتية فيها بشكل عام، وأصبحت المناطق العشوائية بؤراً آمنة للنشاطات غير المشروعة وانتشار الأمراض والجريمة".
ويوضح الحردان في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، "على المستوى الحكومي، هناك قانون أُعدّ (قانون تنظيم العشوائيات)، لكن حتى الآن لم يُصوّت عليه"، مشيراً إلى أن "بعض العشوائيات تتعارض مع التخطيط العمراني للمدينة والأخرى قامت في المناطق المخصصة للزراعة".
ويردف "يكمن التحدي في آلية تطبيق هذا القانون، كون هذه المناطق أصبحت تخضع أو تتبع بعض الجهات التي تحميها وتمنع إزالتها مقابل دعمها لمرشح هذه الجهات. والتحدي الآخر والأساس هو توفير البديل المناسب لهذه الشريحة، التي كفل الدستور العراقي حقها بالسكن".
ويلفت إلى أن "إطلاق حملة لإزالة العشوائيات قد يسبب مشكلة اجتماعية لها انعكاسات خطيرة في ظل عدم توافر البديل، والاستمرار في تجاهل وجودها ربما يحوّل بغداد إلى هند ثانية. وكلما تأخرت الجهات المعنية في اتخاذ الإجراءات اللازمة، ستكون المهمة أمامها أصعب".
ويعتبر المراقب للشأن الأمني والسياسي علي البيدر أن "هذه الظاهرة حدثت نتيجة ضعف مؤسسات الدولة بعد 2003 وأخذت بالازدياد نتيجة الوضع الاقتصادي، واستفحلت في العاصمة بشكل ملحوظ حتى صارت هناك أحياء كاملة بُنيت بما يُسمّى العشوائيات أو التجاوزات التي يصعب على الحكومة إزالتها من دون إيجاد بديل للمواطنين".
ويوضح "العراق يتجه لكي يكون دولة العشوائيات، التي صارت طابعاً جديداً للمدن. وهنا سوف نذهب إلى قضية حساسة تتعلق بالأمن بحيث تنتشر في العشوائيات عصابات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والسلاح، وربما تكون بؤراً جديدة للإرهاب. وهذا ما سيجعل القضاء عليها صعباً، مثلما حصل في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية".
الفقر والجوع
تقول الأكاديمية نهلة العزاوي في حديثها لـ"اندبندنت عربية" إن العشوائيات إحدى المؤشرات إلى ضعف القانون وعدم الالتزام به، بذريعة الفقر والجوع، مشيرة إلى أن الظاهرة لم تكن موجودة قبل عام 2003، على الرغم من ظروف الحصار الاقتصادي.
وترى أن "لهذه الظواهر دلالات نفسية واجتماعية تؤكد عدم احترام الحكومة والذوق العام، فضلاً عن الجهل والتخلف، لا سيما أن هناك من يمتلك سيارات وأموالاً ونجدهم يأخذون المناطق التابعة للدولة من دون أي احترام لهيبتها".
وتعتقد العزاوي أن "تساهل الحكومات إزاء هذه الظواهر وعدم ردعها أو إيجاد حلول مناسبة لها، يرجع إلى تحقيقها مصالح معينة".
وكانت وزارة التخطيط كشفت، خلال العام الماضي، عن وجود ثلاثة ملايين ونصف مليون مواطن عراقي يسكنون العشوائيات في عموم البلاد.