قبل أسابيع من الانسحاب الأميركي من أفغانستان وبعد عقدين من الصراع الدامي، أخذت "طالبان" تجتاح المدن الأفغانية التي سقطت بيدها بسرعة لافتة كما تتساقط أحجار الدومينو، ولم تتوقف الحركة عن توسعها حتى بلغت العاصمة كابول، حيث اقتحمت القصر الرئاسي، بينما تتوارد الأنباء حول فرار الرئيس السابق أشرف غني تفادياً لإراقة الدماء.
وبسقوط كابول محت "طالبان" خلال أيام جهود الـ20 عاماً التي بذلتها القوات الأميركية والأطلسية، وتنوعت الخسائر ما بين مادية ومعنوية، فإضافة إلى مليارات الدولارات التي أهدرت لتجهيز الجيش الأفغاني الذي سلّم عتاده إلى "طالبان"، داهمت مشاعر الخذلان والخيبة آلاف الجنود ومواطنيهم على أثر انتهاء مهمتهم بينما يستولي عدوهم الأول على السلطة.
لكن فيما تغادر الولايات المتحدة وحلفاؤها بصورة متضررة سيصلحها الزمن في نهاية المطاف، بات واضحاً أن الخاسر الأكبر هو الشعب الأفغاني، رجاله ونساؤه وأطفاله، الذين سحقتهم دوامة الحرب، ويكفي أن تشاهد ما حدث في مطار كابول، من تدافع للهرب من "طالبان"، وسقوط أفغان من طائرة أميركية مقلعة، لتدرك مأساة الشعب الأفغاني المستمرة.
لعنة الجغرافيا
التأمل في حاضر الشعب الأُفغاني ومستقبله المجهول كفيل بقدح شرارة الأسئلة حول سبب معاناته المزمنة، والسر وراء جذب أفغانستان الصراعات ذات المشارب المختلفة، أكانت شيوعية أو غربية أو جهادية، وعما إذا كان للجغرافيا دور في نشوء تلك الصراعات، بالنظر إلى موقع أفغانستان الجغرافي وسط آسيا، وربطها بين دول الخليج وشرق آسيا، وبين جنوب وغرب آسيا، فضلاً عن الموارد غير المستغلة والمعادن الخام تحت الأرض التي تقدّر بثلاثة تريليونات دولار.
يرى سيد جلال كريم، سفير أفغانستان السابق لدى السعودية، أن "موقع بلاده الجغرافي لطالما كان مصدر قلق لها بدل أن يكون مصدر تنمية وتطوير"، مشيراً إلى أن ثروات بلاده الطبيعية جذبت بعض الدول والجماعات الإرهابية.
ويقول الدبلوماسي الأفغاني في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إن "دولاً خاضت في أفغانستان حروباً بالوكالة، فيما قدمت الجماعات الإرهابية من شمال أفريقيا لتمارس أعمالها الإرهابية"، لافتاً إلى أن هذه الجماعات استقرت في أفغانستان بعيد الغزو السوفياتي، لموقعها المناسب لتنفيذ اعتداءات في الداخل أو الخارج، وكانت أفغانستان حينها قد خرجت للتوّ من حربها ضد السوفيات، ولم تستطع نزع السلاح ممن شاركوا معها في ردع العدو من غير الأفغان.
التدخل السوفياتي
هذه الأهمية الجغرافية انعكست في تدخل القوات السوفياتية في أفغانستان عام 1979، لدعم الحكومة الشيوعية التي تعرضت لتهديدات بسبب الحركات الاحتجاجية، وسط مخاوف من تقارب الرئيس الأفغاني، حفيظ الله أمين، مع المعسكر الغربي. وقد أدى التدخل السوفياتي إلى حرب استمرت عشر سنوات مع الحركات الإسلامية، مُني خلالها الجانب السوفياتي بخسائر فادحة، فوفق المخابرات الأميركية، فقد أسفر الصراع عن مقتل 15 ألف سوفياتي وخسارة مليارات الدولارات.
التدخل في أفغانستان أدى أيضاً إلى تردّي العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إلى درجة أن الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، قال حينها إن التوغل السوفياتي كان "أكثر التهديدات جدية للسلام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية"، وفرض كارتر لاحقاً حظراً على تصدير السلع كالحبوب والتكنولوجيا المتقدمة إلى الاتحاد السوفياتي.
ونتج عن كل من التوتر المتزايد والانزعاج الغربي من وجود أعداد كبيرة من القوات السوفياتية بالقرب من مناطق الخليج الغنية بالنفط، مواقف حاسمة ضد الاتحاد السوفياتي، إذ استهجن وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي "الاحتلال السوفياتي" وطالبوا السوفيات بالانسحاب خلال اجتماع إسلام آباد عام 1980، كما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بواقع 104 أصوات مقابل 18 وامتناع 18 عن التصويت، لصالح قرار "يستهجن وبشدة" "التدخل المسلح" في أفغانستان، ودعت إلى "الانسحاب الكامل للقوات الدخيلة" من البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من اتفاقات جنيف التي وقعتها كل من أفغانستان وباكستان بحضور الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1988، والتي نصّت على سحب القوات السوفياتية، وتعهد كابل وإسلام آباد بعدم التدخل في الشؤون الداخلية بينهما، فإن الحرب الأهلية الأفغانية استمرت لسنوات وأسفرت عن انهيار جمهورية أفغانستان الديمقراطية عام 1992، واستقالة الرئيس محمد نجيب الله الذي أعدمته "طالبان" يوم 27 سبتمبر (أيلول) 1996 بالعاصمة كابول.
الحرب على الإرهاب
ضربت أفغانستان موعداً آخر مع الفواجع في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي استهدفت نيويورك وواشنطن، وخلّفت أكثر من 3000 قتيل، مما دفع الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري في أفغانستان للقضاء على تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، الذي كان تحت حماية حركة "طالبان".
وبعدما وضعت الولايات المتحدة بقيادة إدارة بوش الابن حداً لسيطرة الحركة على أفغانستان، وتعهدّت بإرساء الديمقراطية والقضاء على الإرهاب، انضم حلف شمال الأطلسي "ناتو" إلى واشنطن لتقديم المساعدة للحكومة الأفغانية الجديدة التي تسلمت زمام السلطة في عام 2004، ومع ذلك، استمرت هجمات "طالبان" الدموية من حين لآخر، بعدما تمكنت من تجميع صفوفها.
وفي عام 2014، أكثر أعوام الحرب دموية منذ 2001، أنهت قوات "الناتو" مهماتها القتالية في أفغانستان، وتركت المسؤولية لقوات الجيش الأفغاني، ما سمح لـ"طالبان" بالاستيلاء على المزيد من الأراضي، ومهد لمحادثات السلام بين الولايات المتحدة و"طالبان" التي أسفرت عن اتفاق بين الطرفين في فبراير (شباط) العام الماضي، ينص على سحب القوات الأميركية من أفغانستان.
لكن الاتفاق الذي وُلد نتيجة مفاوضات غابت عنها الحكومة الأفغانية إلى حد كبير، لم يكن كفيلاً بإيقاف هجمات "طالبان"، إذ حوّلت الحركة تركيزها إلى استهداف قوات الأمن الأفغانية والمدنيين، واغتيال شخصيات محددة، كما توسعت رقعة سيطرتها لتشمل مناطق عدة، وأخيراً، تمكنت "طالبان" من السيطرة على مدن البلاد بما فيها العاصمة كابول، بعد بدء الولايات المتحدة سحب قواتها.
"طالبان" النسخة الجديدة
وبينما تتصاعد المخاوف من أن تسفر عودة "طالبان" إلى السلطة عن انتعاش الجماعات الإرهابية، وفقدان المرأة الأفغانية حقوقها وحرياتها المكتسبة خلال السنوات الماضية، يقول السفير الأفغاني السابق، "سوف ننتظر ونرى ماذا ستفعل طالبان وكيف تتعامل معها دول الجوار والعالم، فلا نستطيع أن نحكم على طالبان إلا بعد مرور سنة في الأقل".
وأضاف كريم، "نتمنى أن تنفذ طالبان ما وعدت به المجتمع الدولي حتى ينعم الأفغان بالأمن والاستقرار، وأن تكون حكومتهم المقبلة تمثل الجميع وتحارب الفساد والمخدرات والإرهاب، ويكون لها علاقة جيدة مع جيرانها في دول العالم كافة، وألا تشكّل مصدر قلق لأي دولة".
ويعتقد مراقبون أن الخطاب الجديد الذي تنتهجه "طالبان" يعبر عن رغبتها في الحصول على اعتراف المجتمع الدولي، ووفق الدبلوماسي الأفغاني، فإن "طالبان تغيرت عما كانت عليه في التسعينيات، فما زالت الفتيات يذهبن للمدارس والطبيبات عدن إلى أعمالهن وبدعم وتوجيه من طالبان وتعهدات بعدم التعرض لهن، وكذلك أصدرت عفواً عاماً عن كل من عمل مع القوات والسفارات الأجنبية أو الحكومة السابقة، وهذا من أجل التأكيد للأفغان بأنهم يرغبون بفتح صفحة جديدة مع الجميع".
وعلى الرغم من أن هذه المؤشرات والقرارات قُوبلت بالتشكيك والحذر من قبل القوى الغربية، خشية الانقلاب عليها لاحقاً، فإن كريم اختتم حديثه بتفاؤل حول مستقبل البلاد مع "التغييرات الأخيرة في العاصمة مثل منع طالبان قواتها من التعرض لأي موظف حكومي، وإزالة كل الحواجز الخرسانية من أمام الوزارات الحكومية"، وقال "تصريح المتحدث باسم طالبان بأنه ستكون هناك حكومة شاملة تضم الجميع، يعني أن الحكومة المستقبلية لن تكون حكراً على طالبان وقادتها، بل ستضم مختلف أطياف الشعب الأفغاني وجميع الأحزاب السياسية لتحظى أفغانستان المستقبلية بدعم دولي سياسي واقتصادي".
وظهرت حركة "طالبان" خلال الحرب الأهلية التي أعقبت انسحاب القوات السوفياتية عام 1989، وكانت تتمركز بشكل أساسي في الجنوب الغربي ومناطق الحدود الباكستانية. وتعهدت الحركة في البداية بمحاربة الفساد وإحلال الأمن، إلا أن عناصرها اتبعت نهجاً دينياً متشدداً، واليوم بعد خروج القوات الأجنبية وعودة "طالبان" إلى السلطة، تسود المخاوف من أن تقوض الحركة المكاسب المتحققة طيلة العقدين الماضيين.