من يتأمل الظاهرة الأفغانية وما تقدمه من دروس لا حصر لها، ثم يسترجع أحوالها ومحدودية اهتمام العالم بها قبل التدخل السوفياتي نهاية السبعينيات من القرن الماضي، فربما تكون كلمة الدهشة أقل الأوصاف الممكنة، فقد كانت عالماً مغلقاً لا يكترث به أحد إلا قليلاً من جيرانها، وهو ما تكرر بعد خروج السوفيات ولكن لسنوات قليلة، ثم بدأ مؤشر الاهتمام يقفز لصدارة الأنباء مرة أخرى خلال تسعينيات القرن الماضي، ووصل هذا لذروته مع تحكم طالبان في البلاد. ثم مع سبتمبر (أيلول) 2001 وما تلاها من غزو أميركي، ثم نشهد اليوم نهاية دراما هذا الغزو الفاشل. وفي الواقع هناك عديد من الدلالات، أكتفي ببعض أبرزها، وأولها صعوبة فرض التطور السياسي على بلدان أخرى، وثانيها يتعلق بدور هذه الدولة ككاشف لتطورات المجتمع الدولي، وثالثها تتعلق بالمعايير الأخلاقية والقيمية والمسؤولية الدولية في ما يتعلق بمصير الشعب الأفغاني.
صعوبة فرض التطور السياسي
ظلت تجربة ألمانيا وإيطاليا واليابان حاضرة بقوة لدى العقل الغربي في نماذج التغيير السياسي وإعادة صياغة هذه المجتمعات بالشكل الذي يتسق مع المنظومة الديمقراطية الغربية، وكان للولايات المتحدة دور رئيس في هذا الصدد، وكان يتم استحضار هذه التجارب لإعادة صياغة الآخرين عندما يتصرفون بطريقة فيها قدر من المروق والتجاوز، ولدى العقل الغربي ميل متواصل لتشكيل المجتمعات الأخرى، وفقاً لنموذج الذات الغربية بوصفه أكثر النماذج صلاحية لكل البشرية، وعموماً فكرة التنميط وعدم مراعاة مراحل التطور الاجتماعي والسياسي للمجتمعات المختلفة هي سمة بشرية تتجاوز العقل الغربي.
وقبل أن نعود للفوارق وتفسير التجارب نتوقف عند الحالة الأفغانية، حيث اصطدم مجتمع متخلف قبلي كان يشهد محاولات تحديث وتنوير مترددة ومتباطئة بصراع فكري يتجاوزه إلى قلب الحرب الباردة، وجدت في هذا المجتمع فراغاً فكرياً عندما سيطرت قوى ماركسية عليه، لمحاولة فرض تطور سياسي بلا جذور حقيقية في المجتمع، وعندما قاومته القوى التقليدية القبلية تدخل الاتحاد السوفياتي معتقداً قدرته على حسم الصراع لتتحول الساحة الأفغانية إلى أخطر ساحات الحرب الباردة، من خلال حشد المتطرفين المسلمين من أنحاء العالم، وبشكل خاص العربي لتتحول إلى أكبر بيئة لرعاية التشدد، ولينهزم الاتحاد السوفياتي ومعه التجربة الماركسية لتترك أفغانستان إلى متطرفيها الذين انتصروا، وحولوا بلادهم إلى مخزن التطرف الأشد في العالم، بحيث انتهت تجربة التحديث الماركسية، وهي من ضمن المنظومة الفكرية الغربية، إلى فشل ذريع ونكسة هائلة للتحديث في هذا المجتمع. وهنا شاهدنا كوارث كهدم المعابد البوذية الأثرية وأصبحت هذه الدولة خارج التاريخ، لينتهي هذا بحدث غامض وهو تفجيرات نيويورك 11 سبتمبر 2001، وليحدث التدخل والغزو الأميركي الذي توهم أنه سيهزم "طالبان"، وسيقضي على "القاعدة"، وأعلن بعنجهية أنه سيعيد صياغة المجتمع الأفغاني، وبدأت الكتابات الغربية الساذجة عن نماذج ألمانيا واليابان سابقة الذكر، وبتجاهل ملحوظ لخصوصية ومراحل تطور المجتمع الأفغاني، فضلاً عن انتكاس هذا المجتمع بفعل نمط التدخل الغربي ضد السوفيات والماركسية الذي اعتمد الأداة والمنظومة الفكرية التي أعادت هذا المجتمع إلى تراجع حضاري كبير، وكانت العنجهية الأميركية والغربية سبباً في مزيد من الفشل لعدم حساسيتها بخصوصية هذا المجتمع. ودوماً أضرب المثل على اختيار إيطاليا لتعديل النظام القانوني والدستوري لأفغانستان، وبعد تنبه لعدم إمكانية هذا، بدأ الترقيع بالاعتماد على بعض رجال القانون العرب والمسلمين بخاصة من مصر، ولكن دون ترك المهمة بالكامل لهم، انطلاقاً من أن الغرب وحده هو القادر على إحداث التغيير الإيجابي، وكانت النتيجة أن الاحتلال لم يستطع إلا إحداث تغيير شكلي ولم تنشأ سلطة سياسية وعسكرية قوية قادرة على قيادة البلاد، وما فات واشنطن أن حالة دول المحور السابقة في الحرب العالمية الثانية بالغة الاختلاف، وأن ألمانيا وإيطاليا تشكلان أطرافاً رئيسة من الفكر الغربي المعاصر، فضلاً عن تطور سياسي واجتماعي مختلف للغاية، وهذا التطور ينطبق على الحالة اليابانية التي يمكن تناولها بشكل مختلف ومعقد، وهي في جميع الأحوال مدعومة بقوة تحديث هائلة نحو المستقبل والتقدم سمحت بتطويع التقاليد اليابانية المختلفة لتتماشى مع التحديث الديمقراطي الغربي، وهو ما لم يتوفر أبداً في أفغانستان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفغانستان وموازين الصراع الدولي
ربما لم يقدر لدولة في العالم أن تلعب دوراً محورياً في تفسير وصياغة تحولات المجتمع الدولي مثل أفغانستان، هذا البلد الذي يقع على تخوم ثلاث قوى دولية رئيسة في العالم وهي روسيا والصين والهند، واستعصت بسبب جبالها على الاحتلال الأجنبي، وكان فشل بريطانيا العظمى في ضمها إلى إمبراطوريتها التي لا تغرب عنها الشمس نموذجاً لهذا، ثم كانت مقبرة استنزاف الاتحاد السوفياتي العملاق العسكري والأيديولوجي دون قوة اقتصادية كافية ليتسبب هذا في تراجعه التدريجي وانكفائه ثم انهياره وانتهاء هذه التجربة الضخمة لإمبراطورية من نوع مختلف، ليس على أساس ديني أو كولونيالي، بل أيديولوجي احتوى داخله هذا التوسع الجغرافي الأسطوري لينهار قبل أن يكمل قرنه الأول، وليسجل لأفغانستان أنها الصخرة التي حطمت هذه الإمبراطورية.
ويأتي القطب المهيمن على النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أي الولايات المتحدة، ويظن أنه قادر على ما لم تستطعه موسكو، ولكن فشل الغزو كونه كلف واشنطن مبالغ طائلة وأرهقها اقتصادياً دون أن يصل هذا إلى ما أحدثته بالنسبة إلى لاتحاد السوفياتي، ولكن بشكل مختلف يعكس واقع العالم اليوم بدقة متناهية، فهو واقع لا تزال واشنطن تتصدره سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولكنها لا تستطيع فرض إرادتها، فقد انتصرت الولايات المتحدة وفرضت إرادتها لفترة وجيزة، ولكنها قررت الانسحاب قبل مزيد من الاستنزاف ومع إدراكها أنها لم تستطع إزاحة "طالبان"، ولم تغير المجتمع الأفغاني ولم تحافظ على الإنجازات المحدودة على صعيد التحديث، هنا أشير إلى مقارنتي بين هذا الانسحاب ونظيره من سايغون، وفي الحقيقة أن هذه المرة أسوأ وأكثر مهانة من السابقة، تتشابه في فشل محاولات حفظ الوجه في التفاوض، ولكن الفارق هو أن الرأي العام العالمي والداخلي كان يدعم بقوة الانسحاب من فيتنام خلافاً لأفغانستان، وأن الأولى كانت في زمن الحرب الباردة وجولات الصراع مع الاتحاد السوفياتي، وأن الإخفاق هذه المرة كان في زمن هيمنة الولايات المتحدة، ودون أن يكون الخصم مدعوماً بكتلة أخرى كحالة فيتنام.
المسؤولية القانونية والأخلاقية في العلاقات الدولية
مفتاح الحديث هنا هو مسؤولية أي استعمار عن إرباك التطور السياسي لأي مجتمع، فما بالنا إذا كان هذا المجتمع مختلاً ومشوهاً أصلاً كالمجتمع الأفغاني، وأن أخطر إرث لهذا الوجود الأميركي هو فساد حكومة وهروب قياداتها بشكل مخز، ومن ناحية أخرى عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان، أعلنت عديداً من التعهدات والالتزامات، بل والوعود لمنح الشعب الأفغاني فرصة لحياة كريمة أكثر عصرية ورفاهية، وبدأت بالفعل خطوات سياسية إصلاحية فوقية لمحاولة بناء مؤسسات حديثة لهذا المجتمع البائس، وإطلاق بعض الحريات الأساسية بخاصة لنسائه، وتم تنظيم انتخابات في ظروف عدم استقرار شديدة في البلاد، وادعت الولايات المتحدة إنشاء مؤسسات حديثة في أنحاء البلاد بخاصة العاصمة، ولا ينفي هذا أنها بذلت جهوداً متعددة لمحاولة تحرير قيود المرأة خصوصاً التعليم والعمل، وواجهت صعوبات شديدة من تقاليد المجتمع الأفغاني البالية، وأنه حدث بعض التحسن الملموس، ورأينا بعض النساء يتعلمن ويعملن وكذا في مجالات الفن والإبداع ولكن في أطر أضيق.
واليوم تنسحب الولايات المتحدة ومعها باقي الأطراف الغربية التي كانت قد استدعتهم كجزء من التحالف الدولي ولتأكيد هيمنتها وسيطرتها على العالم، لتترك كل من شارك من الأفغان في جهود الحداثة عارياً من أي حماية حقيقية، وفي الواقع فإن الانهيار السريع للحكومة الأفغانية وسيطرة "طالبان" حتى قبل استكمال الانسحاب الغربي، نتيجته أن تنتكس كل جهود الحداثة، ويترك هذا الشعب لمصير مظلم وقاس، وتتمخطر القوى الغربية لتقول إنها ربما ستسمح للمترجمين الذين عملوا في الجيوش الغربية بالهجرة إليها، وكأنهم وحدهم الذين سيتعرضون للأخطار والقتل، بينما سيكون هذا في الغالب مصير ليس فقط المتعاونين مع واشنطن، بل أيضاً كل من رفع صوته ضد "طالبان"، وكل من حاول أو شارك بجدية في مظاهر الحداثة، من سيحمي هؤلاء؟ وما هي المسؤولية القانونية والأخلاقية للولايات المتحدة عن أخطاء ما حدث؟ وما موقف أنصار القانون الدولي الإنساني اليوم من هذه القضية، التي سيتناولها الخبراء والمفكرون حول العالم ربما لسنوات طويلة مقبلة، لتضاف إلى تساؤلات عديدة حول المعايير الغربية ومدى جدية استخدام حقوق الإنسان في سياسات هذه الدول، ولتفرغها من أي مضمون حقيقي.