برودة بلغت حد الغياب، تطبع العلاقات بين الجزائر وفرنسا خلال الفترة الأخيرة، التي تشهد فيها الدولة المغاربية مشاكل سياسية وبيئية وأمنية، بعد ما كانت تلك العلاقات عرفت في كل مراحلها تناسقاً وتضامناً كبيرين، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالكوارث، ما فتح المجال للحديث عن توتر خفي قد يؤدي إلى إعادة النظر في العلاقات بين البلدين.
غياب يثير الاستفهام
غياب فرنسا عن الحضور في المشهد الجزائري بعد ما دأبت على الظهور كرجل إسعاف وإطفائي عندما يتعلق بالكوارث، وهو ما حدث، أخيراً، مع الحرائق التي عرفتها البلاد وخلفت خسائر مادية وبشرية، كادت تؤدي إلى انزلاق أمني خطير بعد إقدام سكان إحدى بلديات محافظة تيزي وزو، على إحراق شاب من منطقة مليانة (وسط الجزائر)، بشبهة الضلوع في إشعال النيران في الغابات، ما أثار توتراً تطور إلى فتنة، إلا أن تدخل مختلف الأطراف وعلى كل المستويات، سمح بتهدئة الوضع.
جرى كل ذلك ولم تحرك فرنسا ساكناً، فما عدا تغريدة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي جاء فيها أنه "أمام المآسي التي تواجه أصدقاء فرنسا، فإن تضامننا غير مشروط إلى الشعب الجزائري، أريد أن أقدم دعمنا الكامل. اعتباراً من الغد، سيتم إرسال طائرتي كانادير وطائرة قيادة إلى منطقة القبائل، التي تواجه حرائق عنيفة"، لم يعرف خط "الجزائر- باريس" أي حيوية على غير العادة.
تجاهل جزائري
وفي حين أعطت الجزائر أهمية إعلامية رسمية وشعبية للمساعدات الخارجية من إسبانيا وسويسرا وروسيا وتركيا وإيطاليا وتونس، تم تجاهل خطوة ماكرون، التي لم تتبعها تحركات حقيقية من الحكومة الفرنسية سواء في مجال المساعدات أو إعلان التضامن على الأقل، كما جرت عليه العادة عبر بيانات واتصالات هاتفية بين مسؤولي البلدين، في حين لم تتوقف الاتصالات مع دول أخرى بخصوص بحث المساعدات والاطمئنان على الضحايا وتقديم العزاء وغيرها من التصرفات الدبلوماسية التي تتطلبها الأعراف.
نظرات "مشبوهة" متبادلة
وتعليقاً على البرودة غير المعتادة بين العاصمتين، قالت أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، نجوى عابر، إن "فرنسا في نظر الجزائر متهمة بإيواء عناصر الحركتين الإرهابيتين المتهمتين بإحراق الغابات وإثارة الفتنة من أجل الوصول إلى الفوضى، وهما "ماك" و"رشاد"، كما أن بصمات جهاز المخابرات الفرنسي في التنسيق وتوجيه بعض العناصر ظاهر بشكل جلي، فضلاً عن ملفات عدة ثقيلة لم يتم تسويتها بشكل عادل بين الطرفين أهمها ملف الذاكرة"، مضيفة أن "فرنسا من جهتها لا تستبعد دور الجزائر في تقويض وجودها في منطقة الساحل الأفريقي، ما دفعها إلى إنهاء مهماتها الأمنية المعلنة والانسحاب من المنطقة، فضلاً عن أن الجزائر رفضت في مرات متكررة زيارات رسمية لمسؤولين فرنسيين". وأضافت أن "الثوابت التي كانت تتحكم في العلاقة بين فرنسا والجزائر تغيرت جذرياً، فالامتيازات التي كانت تتمتع بها فرنسا تقلصت بفعل المنافسة التي تواجهها منذ سنوات في أفريقيا عموماً وليس في الجزائر فقط، في مجالات التبادل التجاري، والخدمات والتعليم وغيرها من القطاعات التي لم تعد فرنسا تمتلك صفة الاحتكار فيها ولا حتى الامتياز".
صحوة شعبية؟
من جانبه، عبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، سمير محرز عن اعتقاده بأن "العلاقات بين الجزائر وفرنسا تشهد نوعاً من التراجع في الآونة الأخيرة بعد ما سُمي الصحوة الشعبية، مع رفض كل ما هو فرنسي، على اعتبار أن مرحلة الاستعمار تمثل صفحة سوداء في ماضي الجزائر". وأشار محرز إلى أن "من أبرز أسباب هذا التراجع أيضاً توجه الجزائر إلى قوى دولية أخرى غير تقليدية، وهو ما صدم التيار الفرنسي". وتابع "حتى الجانب الفرنسي بدأ يتعامل مع الجزائر بنوع من التشدد خصوصاً بعد إصداره لائحة قبل أيام تضع فيها الجزائر في الخانة الحمراء للدول الأكثر تفشياً للوباء، ما يستدعي الصرامة في مراقبة كل الوافدين من الجزائر، وهو ما لم تتقبله الأخيرة، خصوصاً بسبب حجم الرحلات بين البلدين في اليوم الواحد". ولفت إلى أنه "من النقاط التي زادت في تباعد الطرفين دبلوماسياً وسياسياً حالة الغضب والرفض الرسمي الجزائري لاستقبال شخصيات معروفة تحاول زعزعة استقرار البلاد قادمة من باريس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منعرج تأجيل زيارة رئيس وزراء فرنسا
وكانت السلطات الفرنسية أعلنت في 8 أبريل (نيسان) الماضي، تأجيل زيارة رئيس وزرائها، جان كاستيكس، إلى الجزائر، التي كانت مقررة في 11 من الشهر ذاته، وأرجعت رئاسة الوزراء الفرنسية التأجيل إلى جائحة كورونا، مضيفة أن الزيارة "أُرجئت إلى موعد لاحق يكون فيه السياق الصحي أكثر ملاءمة". لكن التبريرات الرسمية الفرنسية فضحها الإعلام الذي كشف عن السبب الحقيقي لتأجيل الزيارة، وأبرز أن الأمر راجع لـ"انزعاج" الجانب الجزائري من القرار الفرنسي في آخر لحظة بخفض عدد الوزراء القادمين من باريس، ومدة الزيارة من يومين إلى يوم واحد.
ويبدو أن منعرج البرودة في العلاقات بتأجيل زيارة رئيس الوزراء الفرنسي، كشف عن مؤشرات تراجع دور باريس كشريك سياسي وحتى اقتصادي للجزائر، لصالح دول أخرى على غرار الصين وتركيا وإيطاليا، وروسيا وإسبانيا.
تغير المعطيات الدولية
من جهته، اعتبر الإعلامي الجزائري محمد دلومي، أن "تغير المعطيات الدولية لعب دوراً في تذبذب العلاقات بين الجزائر وباريس، فصعود الصين بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي والعسكري، إضافة إلى الحليف الروسي التقليدي للجزائر، كلها عوامل غيرت كثيراً من المعطيات في العلاقات مع فرنسا، إلا أن أهم عامل في بداية التصدع هو ظهور جيل جديد من النخب، بخاصة العسكرية منها، والذي ضع نصب عينيه العلاقات الجزائرية - الفرنسية في إطارها الطبيعي بعيداً عن الإملاءات والتحكم في القرار. وفضلاً عن هذا كله فإن الإرث التاريخي بكل ثقله، في ظل الإلحاح الجزائري بخاصة على مستوى الجمعيات والأسرة الثورية، المطالب باعتراف مستعمر الأمس بجرائمه وضرورة اعتذار فرنسا الرسمية على جرائمها في الجزائر، شكل ضغطاً على السلطات في الجزائر التي بدورها صعدت لهجتها تجاه فرنسا في ما يخص هذا الملف".
فرنسا تنتقد التصريحات وتريد "التهدئة"
في المقابل، قال وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية كليمون بون، في أبريل (نيسان) 2021، إن بلاده تريد "تهدئة" في العلاقات مع الجزائر. وصرّح في برنامج "غران جوري" الذي يُبث بالاشتراك بين إذاعة "إر تي إل" وصحيفة "لوفيغارو" وتلفزيون "إل سي إي"، أن "هناك أحياناً تصريحات لا مبرر لها في العلاقات الفرنسية الجزائرية".
كما وصفت رئيسة تحرير النسخة الفرنسية لإذاعة "مونت كارلو" بيرينغار بوكيون، تصريحات مستشار الرئيس تبون المكلف بالذاكرة عبد المجيد شيخي، حين قال إن "فرنسا الاستعمارية عملت على نشر الأمية في الجزائر، والمؤرخون يقولون إن الجزائر في 1830 كانت نسبة الأمية فيها لا تتجاوز 20 في المئة"، وإنه "بعد 30 إلى 40 عاماً من بدء الاستعمار، قضي على المتعلمين وارتفعت نسبة الأمية إلى حدود 80 بالمئة... مواكبة لعملية السلب والنهب، وهي عملية مسخ"، بأنها حملت "أرقاماً كاذبة"، وشددت على أنه في "عام 1830، كانت نسبة الأمية في فرنسا قرابة 60 في المئة، فكيف تكون في حدود 20 في المئة بالجزائر؟".
الذاكرة معرقل يأبى التجاهل؟
إلى ذلك، أشار الصحافي الفرنسي جون ميشيل آباتي إلى أن ما فعلته فرنسا في الجزائر لمدة 130 عاماً "وصمة عار"، وانتقد خلال حوار أجراه على قناة "فرانس 5"، موقف بلاده الرافض لفكرة الاعتذار للجزائر عن الجرائم الاستعمارية، مؤكداً أن "الاحتلال والاستعمار والحرب، 3 أسباب وجيهة للاعتذار للجزائريين اليوم"، ومضيفاً أن غزو بلاده للجزائر أظهر وحشية الجيش الفرنسي وأخاف أوروبا، وأبرز أن الصحف البريطانية والألمانية والفرنسية، ذكرت عام 1854 أن موقف الجيش الفرنسي وسلوكه تجاه المسلمين كان "في مستوى الهمجية".