فتح التعميم 159 الصادر عن مصرف لبنان باب الخوف والقلق على مصير "الحوالات الخارجية" التي ترد إلى المصارف اللبنانية بالدولارات. وما هي إلا أيام، حتى بدأ اللبنانيون في تحليل خلفيات القرار 13353 الصادر عن المصرف، بعد أن أثار كثيراً من الالتباسات والتساؤلات المشروعة.
في موازاة ذلك، تعامل كثيرون مع الأمر بجدية، وبدأ البحث عن طريقة جديدة للتعاطي مع القيود المستحدثة، ومحاولة تخليص أموالهم بالعملة الصعبة من "كماشة" النظام المصرفي، الذي سبق له أن وضع اليد على مدخرات اللبنانيين، وحصر إمكانية سحبها ضمن سقف محدد وعند مستوى 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد.
جاء القرار الجديد ليقر بالسوق غير الرسمية التي تتعرض لتقلبات العرض والطلب، وليقدم ربما مؤشراً على حجم السيولة من العملات الأجنبية مع اعتماد سياسة رفع الدعم.
ويناقض ما سبقه، بعدما مكن التعميم 158 أصحاب الودائع بالدولار، سحب 800 دولار شهرياً ولمدة سنة كاملة بدءاً من يوليو (تموز) الماضي، مقسمة إلى 400 دولار بالدولار، و400 دولار تسحب بالليرة اللبنانية، بحسب سعر المنصة التي يحددها مصرف لبنان.
التعميم 159 والتوضيح
كان تعميم حاكم مصرف لبنان بشأن "القيود الاستثنائية على بعض العمليات التي تقوم بها المصارف"، ليمر مرور الكرام لولا المادة الثانية منه التي جاء في بندها الأول، يحظر على المصارف العاملة في لبنان شراء العملات الأجنبية في السوق الموازية، إلا أنه "يمكنها شراء العملات الأجنبية المحولة مباشرة من الخارج لزبائنها على سعر السوق"، وذلك حصراً لغايات استثمارية متوسطة وطويلة الأجل، أو لتحسين نسب السيولة، أو لتسديد التزامات في الخارج، على أن يجري تسجيل هذه العمليات على المنصة الإلكترونية لعمليات الصرافة.
وهذه المادة تضمنت شيئاً من التعارض، فهي من جهة جاءت لتمنع شراء العملات الأجنبية من السوق، إلا أنها في المقابل سمحت للوهلة الأولى بوضع اليد على الأموال المحولة من الخارج للأهل، أجور للعمال، ودفع أقساط، أو تسديد ديون وما هنالك.
كما تحدثت عن سعر السوق، هذه السوق غير الموحدة في لبنان، نظراً إلى تعدد أسعار الصرف من 3900 إلى 12000، إلى سعر منصة صيرفة 16500، وصولاً إلى سعر سوق الصرافين 19250 ليرة لبنانية لقاء الدولار الواحد.
وانعكس هذا التعميم سلباً على اللاعبين في السوق، لذلك اضطر المصرف المركزي لإصدار توضيح، أمس الخميس، يشير إلى أن البند الأول من المدة الثانية، يتم حصراً "في حال رغب هؤلاء الزبائن بذلك". وأكد أن القرار "ليس من شأنه أن يمس حرية استعمال الأموال الجديدة" من قبل صاحبها، للاستفادة من السحوبات النقدية Banknotes بعملة هذه الأموال ومن الخدمات المصرفية كافة المقدمة من المصرف.
ذعر في الداخل والخارج
وخلق تعميم مصرف لبنان حالة من الهلع وفهم مغلوط لدى كثير من المواطنين. يؤكد أحد الشبان الذي يرسل إلى أهله المال من أفريقيا "كنت أرسل 200 أو 300 دولار لوالدي في الشهر، وكان المبلغ يؤمن لهم الطعام والدواء، أما الآن قد أحتاج إلى إرسال ما يزيد على الألف دولار في حال صرفها في البنك على منصة 3900 ليرة لبنانية"، ويعتقد أنه قد يضطر لإرسال معاشه كاملاً إلى لبنان.
في القارب نفسه، تعيش الأجور المحولة للموظفين الـfreelancer الذين تصلهم حوالات من الخارج. تلفت إحدى العاملات في المجال البحثي "منذ بدء الأزمة، وأنا أخشى وضع المصرف يده على أجوري التي يجري تحويلها من الخارج، لذلك كنت أطلب من المؤسسة التي أعمل معها بتحويل المبالغ لأحد الأقارب أو الأصدقاء في الخارج، وهم يقومون بتوصيلها إلي نقداً مع أحد الزائرين إلى لبنان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه التجارب تعكس تخوف شريحة كبيرة من اللبنانيين التي تأتيها مداخيل من الخارج، كما تخشى انهيار العملة الوطنية، وتجد الأمان في حيازة الدولار. ويقدر حجم الأموال المحولة من المغتربين في الخارج نحو 6 مليارات دولار سنوياً.
ويؤدي فائض الخوف إلى هروب التحويلات إلى الأهل من القطاع المصرفي، كما هربت الادخارات قبل ذلك. كما سيطال صغار الدخل، وليس الشركات والمؤسسات الكبرى التي تمتلك قوة ضغط على المصارف التجارية، كما ترتبط بها بشبكة مصالح.
من جهة أخرى، يبقى الخوف مشروعاً في ظل ما جرى نقله عن اجتماع بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومدير شركة "OMT" للحوالات توفيق معوض، حيث نقلت مواقع صحافية أن البحث دار حول صرف التحويلات المقبلة من الخارج، 50 في المئة بالدولار، و50 في المئة بالعملة اللبنانية.
إلا أن هذا الطرح اعترض عليه الوكلاء في لبنان. وعرض معوض خلال اللقاء بعض المعطيات التي "ستؤخذ في الاعتبار عند درس أي تعميم بهذا الشأن"، حيث تصل نحو 220 ألف حوالة شهرياً إلى لبنان بواسطة الشركة، وتقدر بـ120 مليون دولار، كما أن 70 في المئة من هذه التحويلات تبلغ قيمتها دون 500 دولار أميركي.
القرار متأخر
جاء هذا القرار متأخراً 20 عاماً بحسب الاقتصادية ليال منصور، لأنه "من الطبيعي التعاطي بالعملة الوطنية والليرة اللبنانية في التعاملات الاقتصادية المحلية، وهذا يحصل في كل دول العالم. حيث يقوم الأهل أو أرباب العمل بتحويل الأجور بالعملة الصعبة، ويقوم المصرف بصرفها بالعملة الوطنية". إلا أن هذا الإجراء لا يمكن تطبيقه حالياً في لبنان، لأنه "بمثابة الدواء للجثة".
وتعتقد منصور أن "الالتباس الذي خلقه قرار مصرف لبنان هو أمر مبرر، لأن تعبير (يحق للمصارف) قد تفهمه المؤسسات بإمكانية دفع التحويلات الدولارية بسعر السوق، كما يسبب إشكالية لناحية اعتماد أي سعر صرف: الصراف أم المنصة؟".
وترفض منصور تصنيف سعر الصرافين بالسوق السوداء، لأن "الاقتصاد اللبناني مدولر، وهذا السعر هو سعر الصراف الحقيقي أو الأقرب إلى الحقيقي". كما تشير إلى وجود غايات تقف وراء هذا القرار، جرى استدراكها بسبب حالة السخط والمشاكل التي أثارها وانعدام الثقة بالمصارف، موضحة "قانون النقد والتسليف يحظر على العملاء رفض التعامل بالعملة الوطنية".
وتشكك منصور بنوايا التوضيح الذي صدر لاحقاً عن مصرف لبنان الذي أعطى للمواطن حرية الخيار بين قبض الحوالة بالعملة الأجنبية أو بيعها للمصرف، وتعتقد أنه "جاء بسبب المشكلات التي أثارها التعميم 159"، بالتالي كان هناك توجه للذهاب بعيداً بالقرار، ومن ثم حرمان المواطن من الحصول على الدولارات.
وفي المقابل، يدفع القرار للاعتقاد بوجود أزمة سيولة متصاعدة لدى المصارف، وهناك حاجة ملحة للحصول على مبالغ بالعملة الأجنبية من أجل سدها. وتلفت منصور أن هناك استمراراً في نفس السياسة السابقة "شراء أكبر قدر من الدولارات، في مقابل طباعة أكبر كمية من العملة اللبنانية"، ويقف وراء ذلك "معرفة كمية الدولارات التي يجري شراؤها من أجل تنظيم سوق الحوالات الدولارية، وإحصاء حجم المبالغ التي تأتي إلى لبنان شهرياً".
تأسف منصور لوجود أزمة ثقة كبيرة في لبنان، وتؤثر مباشرة على الوضع الاقتصادي العام، وأدت إلى تسارع الانهيار في ظل الاقتصاد المدولر.
التضييق على الزبائن
يشكو زبائن المصارف من تعقيد المصارف للإجراءات عند قبض الحوالات القادمة من الخارج، كما ازداد حجم الاقتطاعات الشهرية، وابتداع حجج من قبل "وجوب بقاء جزء من الحوالة في الحساب"، أو "عدم وجود فراطة في الصندوق".
إلى ذلك، جاء القرار الجديد الذي يعطي المصارف الحق بشراء تلك الأموال المحولة ممن يرغب، الأمر الذي يدفع إلى البحث في فرضية "تضييق" قد تمارسه بعض المصارف على زبائنها، لدفعهم إلى بيع دولاراتهم في الدخل.
ويؤكد المحامي عباس قبلان، أن "هناك توضيحاً للتعميم الذي يوضح أن تعميم 159 لا يطبق إلا إذا رغب العميل في ذلك"، مضيفاً وفي حال أصر البنك على عدم الدفع بالدولار يمكن "توجيه إنذار بواسطة كاتب العدل، ومن ثم، في حال عدم الاستجابة، اللجوء إلى القضاء المستعجل".
توضيح جمعية المصارف حول التعميم 159
ورداً على كل المعلومات والتفسيرات الخاطئة التي رافقت إصدار التعميم 159 من قبل مصرف لبنان، توضح جمعية مصارف لبنان أن التعميم موجه لضبط العمليات الداخلية في المصارف، ولا يطال العملاء بأي شكل من الأشكال، بخاصة سحوبات الأموال المحولة من الخارج بالعملات الأجنبية، التي يضمنها التعميم 150 الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 9 أبريل (نيسان) 2020، الذي أعاد تأكيد حرية استعمالها من قبل المودع. توضيح مصرف لبنان الصادر بتاريخ 26-8-2021 ركز على أن شراء المصارف العملات الأجنبية المحولة من الخارج يتم حصراً بحال رغب الزبائن بذلك.
فلا خوف ولا قلق على مصير الحوالات الخارجية التي ترد إلى المصارف اللبنانية، والتي تبقى حرة للاستعمال بحسب رغبة متلقيها. ويشدد التعميم 159 على ضبط العمليات المصرفية الداخلية التي تقوم بها المصارف.
فببنده الأول يمنع المصرف من احتساب أي أموال محولة من الخارج بأكثر من قيمتها. كما يمنع ببنده الثاني المصارف من التعامل بالسوق السوداء، ما سيضع حداً للاتهامات التي طالت البنوك في المرحلة الماضية، وحملتها مسؤولية ارتفاع سعر صرف الدولار في الأسواق الموازية.
أما البند الثالث فيفرض التعميم على المصارف التصريح عن كل عملياتها بشكل دوري للجنة الرقابة على المصارف. وبالتالي يكون قرار مصرف لبنان يعمل على تشديد قيود العمل المصرفي بما يضمن سلامة القطاع وحقوق العملاء، ويجعل الالتزام بإطار العمل المصرفي السليم موثقاً بما فيه مصلحة المودع والقطاع.
وتتعجب جمعية المصارف من استمرار تشويه أي إجراءات تتخذها في محاولة لتمرير المرحلة الصعبة والأزمة التي يغرق بها لبنان، وتضع نفسها بالتصرف للرد على أي استفسارات حرصاً منها على نشر المعلومات الصحيحة والدقيقة.