أظهر صدّ الرئيس جو بايدن لمبادرات رئيس الوزراء البريطاني (أخيراً)، بخصوص أفغانستان، أن استراتيجية "بريطانيا العالمية" التي أعلنها جونسون قبل خمسة أشهر قد أضحت شيئاً من الماضي. الحجر الأساس الذي استندت إليه المراجعة الموحدة للسياسات الأمنية والخارجية البريطانية هو بقاء الولايات المتحدة "الشريك والحليف الاستراتيجي الأهم للمملكة المتحدة". وكان جونسون قد قال للنواب (في البرلمان)، إن "نفوذنا سيتعاظم بواسطة تحالفاتنا والشركاء المختلفين – والأكثر أهمية بالنسبة إلى المواطنين البريطانيين تبقى علاقتنا مع الولايات المتحدة الأميركية".
وفيما تمسك بايدن بموعد 31 أغسطس (آب) النهائي للانسحاب من أفغانستان خلال اجتماع زعماء مجموعة السبع G7 الذي عقد قبل أيام، ظهر جلياً أن تلك العلاقة الخاصة لم تعد "قيمة" على قدر كافٍ يخولها معالجة مسألة الأفغان الذين تود بريطانيا إجلاءهم من بلادهم. وأعتقد أن أبرز ما يكشف عن ذلك جاء على لسان مستشار الرئيس (بايدن) للأمن القومي جايك سوليفان، حين قال إن الإدارة الأميركية تعتقد أن "الوقت متاح بين اليوم و31 أغسطس لإجلاء أي أميركي يود الخروج". بعبارة أخرى أفعل ما تشاء [فأنا بخير يا صاحِ]. بالكاد يعكس ذلك "عودة أميركا" التي احتفل بعودتها قادة دول مجموعة السبع ومعهم جونسون خلال قمة كورنوول في إنجلترا في يونيو (حزيران) الماضي.
كيف تغير هذا الزمان؟ إبان القمة استحقت قضية أفغانستان الذكر بشكل مبهم في النقطة رقم 57 من أصل 70 نقطة شكلت البيان الختامي لتلك القمة. وقدم بايدن تطمينات لقادة حلف شمال الأطلسي في اليوم التالي (للقمة) أن الولايات المتحدة ستبقي على وجود عسكري أميركي بشكل يسمح باستمرار عمل سفارتها في كابل. فليس مستغرباً شعور (الحلفاء) بالخيانة.
وعلى خلاف العادة، نشر الوزراء البريطانيون تكراراً وبشكل علني جداً مطالبتهم بتمديد المهلة التي وضعتها الولايات المتحدة للانسحاب قبل موعد قمة زعماء مجموعة السبع G7 الثلاثاء الماضي، بدلاً من استخدام القنوات الدبلوماسية الخاصة المعتادة. كل ذلك يسطر العجز البريطاني بعد أن رفضت مطالبهم. ويبدو هذا العجز جلياً حين كانت القوات البريطانية تسابق الزمن في مطار كابول، فيما يقبض زملاؤهم الأميركيون على الساعة بقوة. بعض النواب من حزب المحافظين (الحاكم) تساءلوا حتى عن جدوى دعوة رئيس الوزراء بوريس جونسون إلى عقد قمة مجموعة السبع الطارئة. لا أدري لو كان جونسون يعتقد أن تلك الدعوة للقمة مجرد نوع من بوليصة تأمين تسمح له بإلقاء اللوم على بايدن في حال تعرض من لم تستطع المملكة المتحدة إنقاذهم لأي أعمال انتقامية، لكن ربما سيخيب أمل رئيس الوزراء هنا أيضاً، إذ من المستبعد أن ينجو من المسؤولية. حتى إن الربح الواهي الذي عظمه جونسون بعد قمة مجموع السبع ــ وحديثه عن خريطة طريق للتواصل مع حركة "طالبان" ــ هي محل شك بعد قول مسؤولين من الاتحاد الأوروبي إن أي خطة مماثلة لم يتم التوافق حولها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جونسون في حال من الإنكار: فهو طالما جادل عن عدم الحاجة لإجراء تحقيق في عشرين سنة من العمليات البريطانية في أفغانستان محاججاً أن المراجعة (الأخيرة) حول سياسة بلاده الأمنية والخارجية قد أخذت تلك القضية في الاعتبار، لكن استراتيجيته "الجديدة" (التي خلصت إليها تلك المراجعة) قد تخطتها التطورات الأخيرة. في عالم ينقلب رأساً على عقب، تسعى المملكة المتحدة حالياً إلى استعطاف الصين وروسيا، أكبر خطرين تواجههما بريطانيا بحسب تلك المراجعة الاستراتيجية، للعمل على إقناعهما بالضغط والتأثير لتليين مواقف "طالبان". إنها روسيا نفسها التي قالت عنها المراجعة الاستراتيجية إنها "تشكل أكبر تهديد مباشر" للمملكة المتحدة ضمن أقاليمها الوطنية. وتصف المراجعة الصين كـ"منافس أساسي" للمملكة المتحدة وسيؤدي تجديد قدرات الصين العسكرية "إلى زيادة مستوى الخطر على المصالح البريطانية".
الدرس الذي على بريطانيا أن تتعلمه بنتيجة العمل الأحادي الأميركي، أن عليها إعادة بناء الجسور مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي، ووضع مسألة التنسيق الميداني المشترك في الشؤون الدفاعية مع فرنسا وألمانيا عوضاً عن الولايات المتحدة كأولوية عظمى بدلاً من صرف المليارات على نفس المعدات العسكرية. في ذلك الوقت قد يتمكن الأوروبيون من قيادة عمليات الحلف الأطلسي من دون أميركا، لكن على أعضاء "ناتو" أن يفعلوا ما كانت الولايات المتحدة تطالبهم بفعله دوماً وهو زيادة موازناتهم الدفاعية.
فسيكون منطقياً للأوروبيين، ومن ضمنهم المملكة المتحدة، التركيز في حينه على احتواء روسيا، وسيكون من غير المنطقي للمملكة المتحدة أن تتبع اقتراحات جونسون للميل نحو منطقة المحيط الهندي، فشن حرب اقتصادية ضد الصين هي من أهم أولويات (الرئيس) بايدن، وعلى المملكة المتحدة تركه يفعل ذلك. المراجعة الاستراتيجية كانت وكما هو متوقعاً متحفظة حيال استمرار العلاقات المؤسساتية مع الاتحاد الأوروبي، لكنها تروج بشكل قوي لمستقبل ما بعد بريكست تلعب خلاله المملكة المتحدة دور قوة عظمى ناعمة وخشنة بسبب علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة. يبدو ذلك اليوم بمثابة سراب.
هل سيستخلص جونسون الدروس اللازمة من الهزيمة الأفغانية؟ إن ذلك غير متوقع للغاية، فهو يريد أن يلعب ورقة بريكست في الانتخابات العامة المقبلة لتضليل حزب العمال عموماً، وزعيمه كير ستارمر تحديداً. الخلافات مع الاتحاد الأوروبي ستكون مكرسة في سردية حزب المحافظين تماماً كما رأينا (خلال تعامل الحزب) مع بروتوكول إيرلندا الشمالية، وهو الاتفاق الذي تم توقيعه، ثم تراجعت عنه المملكة المتحدة بعد سبعة أشهر من دخوله حيز التنفيذ. في المقابل، ذلك يعني أيضاً أن القادة الأوروبيين لا يثقون بجونسون تماماً كما لم يكونوا يوماً يثقون بدونالد ترمب المتذبذب (الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله). إيمانويل ماكرون رفض حتى عقد اجتماع ثنائي مع جونسون، أخيراً، وهو ما يحمل دلالات مقلقة بشكل خاص.
لقد اعتبر جونسون القائد المطلوب من قبل حزبه لإتمام مسار بريكست. دوره المركزي في تلك القضية وعدم رغبته المضي قدماً نحو (قضايا أخرى) تعني أن اللاعب ذا المهارات المحدودة هو الزعيم الخطأ [الزعيم غير المناسب] لقيادة البلاد في مرحلة جديدة، حيث يتوجب على المملكة المتحدة إعادة بناء التحالفات مع الجيران لأنه لم يعد بإمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة.
© The Independent