أثارت أنباء عن عودة أحد المقربين من زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن إلى أفغانستان، صدمة بين وسائل إعلام عربية ودولية عدة، وذلك قبل أن يجف حبر تعهدات حركة "طالبان" بأنها لن تكون ملاذاً آمناً للتنظيمات الشريرة، وأن "القاعدة" لم تعُد موجودة في البلاد.
جاء ذلك بعد أن نشر ناشط أفغاني، هو الصحافي بلال سرواري مقطعاً لفيديو تم تداوله بعد ذلك على نطاق واسع يظهر فيه من قال إنه حارس بن لادن وأحد رجاله المشهورين، أمين الحق، يتقدم بسيارته الفارهة موكباً من المركبات قبل أن يدخل إحدى البوابات الأفغانية شديدة الحراسة، وسط استقبال حافل من حشود ومسلحين مجهولين، يُعتقد أنهم تابعون لـ"طالبان".
وقال سرواري تعليقاً على الفيديو "عاد الدكتور أمين الحق، وهو لاعب رئيس في قاعدة أفغانستان، والمسؤول الأمني عن حماية أسامة بن لادن في تورا بورا، إلى مسقط رأسه في إقليم ننغرهار بعد سقوطها في أيدي طالبان. أصبح الدكتور أمين قريباً من بن لادن في الثمانينيات عندما عمل مع عبدالله عزام في مكتب الخدمات".
سفير "القاعدة" عند "طالبان"؟
وأبدى معلقون غربيون وهنود وأفغان ذهولهم من وجود شخص تاريخه الإرهابي بهذا الوضوح، في وقت تحاول الحركة لملمة أوراقها للبحث عن اعتراف وثقة المجتمع الدولي، المشروط وفق قرار مجلس الأمن أخيراً بتعهد حكام كابول الجدد بأن لا يسمحوا بأن تصبح البلاد تحت سيطرتهم ملاذاً آمناً من جديد للتنظيمات المصنفة دولياً بأنها إرهابية.
Dr. Amin-ul-Haq, a major al-Qaeda player in Afghanistan, Osama Bin Laden security in charge in Tora Bora, returns to his native Nangarhar province after it fell to the Taliban. Dr. Amin became close to OBL in the 80s when he worked with Abdullah Azzam in Maktaba Akhidmat. pic.twitter.com/IXbZeJ0nZE
— BILAL SARWARY (@bsarwary) August 30, 2021
آدم غولدمان، المتخصص في متابعة قضايا "إف بي آي" شارك وثيقة متعلقة بالرجل المطلوب لـ"الإنتربول" الدولي، تقول إنه "معاون في القاعدة حليف لبن لادن منذ فترة طويلة ومساعد شخصي، وعمل سابقاً كحلقة وصل بين زعيم القاعدة وطالبان. عبد القدير قدّم رشاوى كبيرة بحسب تقارير لأي شخص يمكنه إخراج الدكتور أمين الحق من الأسر" في باكستان.
وتبرز صحيفة "لونغ وور جورنال" المتخصصة في قضايا الإرهاب، في أحد عناوينها أن "رئيس أمن بن لادن عاد إلى مسقط رأسه منتصراً"، بعد أن تأكدت من أن الرجل الذي ظهر في الصورة هو أمين الحق الخطير أمنياً نفسه وليس شخصاً آخر، هذا على الرغم من أنها بنت معلومتها الأساسية على رواية المقطع الذي نشره الصحافي الأفغاني.
واعتبرت عودة شخص مقرب من تنظيم "القاعدة" أمام الأشهاد "دليلاً على أن قادة القاعدة يشعرون الآن بالأمان الكافي للظهور علناً في أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان".
لكن المحلل الأفغاني روح الله عمر اعتبر في اتصال هاتفي مع "اندبندنت عربية" أن الإعلام الغربي اعتاد تضخيم الأمور المتعلقة بالتنظيمات الإسلامية، "بينما من الناحية المنطقية، عليهم أن يعتادوا على ظهور أشخاص كانوا مع بن لادن في أفغانستان، لأنه كان مجاهداً محبوباً فيها، وعمل معه الكثيرون في ذلك الوقت، والآن انتهت تلك المرحلة، وأمين الحق واحد من أولئك، وليس هناك أي غرابة في ظهوره".
واعتادت "طالبان" تحاشي تناول "القاعدة" بأي انتقاد أو سوء، لكنها تعهدت في حوارات عدة أنها لن تسمح بأن تكون بلادها مجدداً منصة لاستهداف أي دولة من جانب أي تنظيم، وإن أكدت في الوقت ذاته أنها ترفض التدخل في شؤونها وقراراتها، في إشارة إلى أنها حرة فيمن تستضيف أو تنفي!
صوت "القاعدة" في ما جرى
أما بالنسبة إلى "القاعدة" الأم وقبلها فرع جزيرة العرب في اليمن، فإنها لا تخفي النظر إلى "طالبان" بوصفها حليفاً وامتداداً، تدين له بالكثير، وقالت في بيان أصدرته أمس إنها تهنئ "أفغانستان الأبية بالنصر"، الذي زعمت أنه "أثبت قوة الأمة المسلمة حينما تتّحد وتحمل السلاح وتجاهد للدفاع عن عرضها وأرضها".
ويرفض علماء المسلمين وفقهاء المذاهب اعتبار ما تقوم به "القاعدة" أو "داعش" ومثيلاتها من الجهاد المعروف فقهياً، وإنما هو "قتل وظلم وإفساد في الأرض، الإسلام منه براء"، بحسب تنديد مؤسسات عريقة مثل الأزهر وهيئة كبار العلماء في السعودية ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي يضم الدول الإسلامية كافة.
وتكشف وثائق "آبوت آباد" التي أفرج عنها الأميركيون بعد مقتل بن لادن، عن أن الأخير كان يلحّ على رجاله أن يأخذوا من العناصر المستجدة إلى حركته "البيعة له"، مما يعني أنه يرى دولة "القاعدة" أشمل وأوسع من دولة "طالبان"، التي لا يهمها غير تحرير أفغانستان، فيما كانت فكرته المركزية "عولمة الجهاد"، وهو ما تقول المصادر الأجنبية إنه نجح فيه إلى حد كبير، حتى صدّر القلاقل والإرهاب إلى معظم مناطق العالم، وسارت على خطاه في بلدان عدة تنظيمات متطرفة مثل "داعش"، إما منشقة عنه أو تستهدي بنهجه.
وكان مصدر في التنظيم حاورته "اندبندنت عربية" عبر تلغرام، قال إنه واثق من أن "طالبان" لن تتخلى عن "القاعدة" من أجل تحقيق مكاسب في حوارها مع الولايات المتحدة، وذلك في مناسبة عقد الحركة وواشنطن اتفاق المحادثات بينهما في الدوحة، قبل أن تفضي إلى السيطرة الراهنة على كابول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال المصدر في ذلك الحين "لو أرادت طالبان التخلي عن القاعدة لفعلت ذلك قبل ذهاب دولتها وحين كانت العروض تنهال عليها، فقد مُنحت عروضاً لم تُمنح لأحد قط وعلى لسان ملوك وأمراء ورؤساء دول كثيرة في سبيل التخلي أو تسليم بعض قيادات القاعدة، ومع ذلك رفضت وتمسكت بالحكم الشرعي الذي يعتبر ذلك شرخاً في مفهوم الولاء والبراء... طالبان لها دين في عنق كل مجاهد حمل السلاح وقاتل، أما أن تقوم القاعدة بذلك (المفاوضات مع أميركا)، فقد عرض الأميركيون ذلك علينا في حياة الشيخ بن لادن أكثر من مرة عبر وسطاء وقوبل ذلك بالرفض".
طبيب مسالك بولية
وإذا ما عدنا إلى أمين الحق، فإنه كما تشير المعلومات المتوافرة عنه حتى الآن، "مواطن أفغاني وطبيب"، ذكرت صحيفة هندية أن تخصصه في المسالك البولية، وكان حارساً شخصياً سابقاً لأسرة بن لادن ومنسقاً أمنياً.
وورد أنه تم القبض عليه في لاهور الباكستانية عام 2008، قبل أن يُفرج عنه من الحجز الباكستاني في سبتمبر 2011 بسبب نقص الأدلة. ومنذ ذلك الحين، اختفى عن الأنظار حتى ظهوره الأخير في مسقط رأسه، وفقاً للمصادر.
وصرّح مسؤولون باكستانيون لشبكة "سي بي إس نيوز" بأن إطلاق سراح الطبيب كان بين قضايا عدة أثارت شكوك المجتمع الغربي حول التزام إسلام آباد محاربة الإرهاب، في حين نقل موقع شبكة "دي بيديا" الإلكتروني عن صحيفة "تلغراف" البريطانية أن مسؤولاً أمنياً باكستانياً رفيع المستوى، قال للصحيفة إن الرجل "اعتُقل بالخطأ، بالتالي فإن الشرطة لم تثبت اتهامه بعلاقته بأسامة بن لادن، فأطلقت المحكمة سراحه". ولا ندري هل يتعلق ذلك بالفدية التي سبقت الإشارة إلى أن المؤيدين للشخصية البارزة خصصوها لإطلاق سراحه أو لا.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، جمدت إدارة جورج بوش أصول أمين الحق مع الأفراد والمنظمات الـ 39 المحددين الذين يُشتبه في صلتهم بالإرهاب. كما فرضت الأمم المتحدة عقوبات ضد مؤسسته، بسبب مزاعم "تمويلها وتخطيطها وتسهيلها وتحضيرها أو ارتكابها أنشطة لدعم بن لادن والقاعدة، ولتوريد أو بيع أو نقل أسلحة ومواد أخرى لدعم الأنشطة الإرهابية".
Osama bin Laden's security chief triumphantly returns to hometown in Afghanistan - https://t.co/Ely2FvIZyp pic.twitter.com/k5a30q2zw9
— Long War Journal (@LongWarJournal) August 30, 2021
وتكشف "لونغ وور" المشار إليها سابقاً عن أن أمين الحق "بدأ حياته المهنية كجهادي عضو في حزب خالص الإسلامي (HIK) وهو فصيل من جماعة الحزب الإسلامي التي أسسها مولوي محمد يونس خالص، الذي كان له دور فاعل في الترحيب بأسامة بن لادن في أفغانستان بعد طرد القاعدة من السودان عام 1996".
متعهد في منطقته تورا بورا
وذكرت أن الطبيب الأفغاني "رافق أسامة بن لادن كقائد للحرس خلال معركة عام 2001 في تورا بورا في مقاطعة ننغرهار، وساعد زعيم القاعدة وغيره من كبار قادة التنظيم على الهرب من هجوم القوات الأميركية والميليشيات الأفغانية على مجمع الكهف هناك والفرار إلى باكستان".
وأضافت الصحيفة أنه بعد تجدّد القتال في تورا بورا في صيف عام 2007 بقيادة أنور الحق مجاهد، الابن الأكبر لخالص، ورد أن أمين الحق "أصيب وهرب عبر الحدود إلى منطقة كورام القبلية الباكستانية، إذ اشتبكت قوة كبيرة من طالبان والقاعدة، قيل إنها تضمنت عرباً وشيشاناً وأوزبكاً، مع القوات الأفغانية والأميركية، مما أثار تكهنات بأن بن لادن كان في المنطقة."
ونقلت "نيوز أبليف" الهندية أن الرئيس الباكستاني الأسبق برويز مشرف، جاء ضمن مذكراته "في خط النار"، أن دور أمين الحق تجاوز شخصه إلى نشاط أوسع لمؤسسة أنشأها باسمه، وكان لها الدور الكبير في مساعدة بن لادن وحمايته، كما نسبت إلى صحيفة "تلغراف" قولها في تقرير عام 2011 إن "أمين قاتل القوات السوفياتية خلال الثمانينيات في أفغانستان، وإنه كان جزءًا من الوفد الأفغاني الذي ذهب إلى السودان عام 1996 لإحضار أسامة بن لادن إلى أفغانستان".
مقام الحراس عند بن لادن
وفي الوثائق التي خلّفها زعيم تنظيم "القاعدة"، كان شديد الاهتمام بحراسته، ولا يقوم بتغيير عناصرها إلا وفق اشتراطات صارمة، لدرجة أنه رفض استقبال زوجته خيرية صابر (أم حمزة) أول ما قدِمت من إيران بادئ الأمر لأسباب تعلقت بظروف حراسته.
وقال في رسالة وجّهها إليها بعد وصولها إلى مقر "القاعدة" على الحدود الباكستانية على الأرجح، "إنني منذ سنين عدة أسكن برفقة بعض إخواننا من أهل المنطقة وهم مرهقون جداً ببقائي معهم من ناحية القلق الأمني وما يترتب عليه ومن ثم يصعب عليهم القيام ببعض ما أطلبه منهم ومن أصعب ذلك عليهم أن أطلب مجيء أحد من الأهل، ولكن نظراً إلى أهمية مجيئك وطول انتظارنا لخروجك من إيران والسنين التي صبرتها هناك، فقد استنفدت جهدي وبذلت ما لا يعلمه إلا الله ليوافقوا على ذلك ولكن مع الأسف الشديد اتضح لي أنهم وصلوا إلى درجة من الإرهاق أدخلتهم في حالة إغلاق شديدة، فطلبوا أن يتركونا جميعاً، وذكروا أن عددنا كبير وفوق طاقتهم".
وأوضح في تبريره أنه عرض على المتعهدين بحمايته كل الحلول التي يمكنهم بها تقبّل انضمام خيرية إليه ولو كانت لوحدها فقط، لكنهم رفضوا، مما دفعه إلى الخروج بقناعة "الانفصال عنهم غير أن ترتيب الأمور يستدعي أشهراً عدة ونحن نسعى في هذا الاتجاه إلى أن نرتب مكاناً آخر، تكونين فيه معنا أنت وحمزة وزوجته بإذن الله، فأرجو منك المعذرة وتفهم الأوضاع".
لذلك فإنه إن كان الظاهر في الصورة حقاً أمين الحق الذي كان بين رجال يونس خالص القواد، فإن رواية التنظيم لمعركة تورا بورا تدين له وابن الشيخ الليبي بإنقاذ حياة بن لادن ورجاله من قتل وأسر محققَين.
ما حدث في تورا بورا
وبحسب رواية أيمن الظواهري في تسجيلات عدة أخرجها لاحقاً في كتاب يؤبن فيه رفيقه أسامة، فإنه يقف عند معركة تورا بورا الشهيرة، إذ جرت محاصرة بن لادن مع نحو 300 من رجاله في رمضان 2001 بعد أحداث 11 سبتمبر، وفُرض عليهم طوق جوي وبري، جعل من تصفيتهم أمراً محتوماً بالنسبة إلى المؤشرات والمعطيات في ذلك الوقت، قبل أن يستخدم بن لادن حيلته المعتادة في استمالة أحد الجنرالات الأفغان من رجال يونس خالص السابقين الذي كانت تربطه علاقة وطيدة بالعرب أيام الجهاد ضد السوفيات، فيشيع أن العرب يرغبون بالتفاوض حول الاستسلام ذات مساء، فيتخذ مهلة الهدنة فرصة للانسحاب وتأمين نفسه وجمع من رفاقه.
أما الذي خاض المعركة كلها، وراح ضحيتها، فكان بحسب شهادة الظواهري رجل يُدعى ابن الشيخ الليبي، بوصفه القائد العسكري لـتورا بورا وليس بن لادن الذي نُسجت حول قيادته لها الأساطير. ويقول إن رفيقه كان مديناً لابن الشيخ كلما تذكره، قائلاً: "ذاك رجل فدانا بنفسه".
وقال إن ابن الشيخ تمكن من تأمين الانسحاب، وقتال المهاجمين بعتاد لا يذكر مقارنة بتجهيز الطرف الأفغاني في البر والأميركي في الجو، وخرج من تورا بورا بأقل الخسائر، إلا أنه بعد الدخول إلى باكستان وقع وكثير من رجاله في الأسر، بعد ذيوع خبرهم بواسطة أحد عملاء الجيش الباكستاني، أو المنافقين كما تسمّيهم "القاعدة". ومن هناك نقل ابن الشيخ إلى غوانتانامو قبل أن يُسلّم إلى بلاده في عهد القذافي، ويودع السجن. إلا أنه لم يخرج أبداً. ورجّح الظواهري أنه قُتل بسبب عدم استجابته لمبادرة المراجعات في السجون الليبية التي نشط فيها سيف الإسلام القذافي ونظام والده قبل بضعة أعوام من اندلاع الثورات العربية في 2011.