في الصورة، عناصر من حركة "طالبان" يلهون بسيارات مدينة الألعاب، يحملون في أيديهم هواتفهم النقّالة وعلى أكتافهم بنادق الكلاشينكوف، ويرتدون ملابسهم التقليدية فيما تعلو الضحكة وجوههم وينتظر أقرانهم دورهم خارج السورد الحديدي للعبة.
لهو طفولي!
لو أخذنا الصورة وحدها من دون مناسبتها ومكانها، سيبدو شباب "طالبان" اليافعون وكأنهم نزلوا من الجبال والمغاور التي تحصنوا فيها على مدى 20 سنة إلى كابول من أجل أن يلعبوا بألعاب المدينة المصنوعة من أجل مرح الأطفال وتسليتهم. وكأن هذا هو هدفهم من غزو كابول، أو أنهم حين كانوا يتربون على القسوة والشدة والقوة والتحمل والتحضر للحرب المقبلة في الجبال البعيدة والوعرة، إنما كانوا أطفالاً كباراً بالقوة، أو نشأوا بسرعة من المهد نحو الرجولة من دون المرور بمرحلة الطفولة، ثم حين صادفوا ما يعيد إليهم طفولة منسية أو غير معاشة أو لم تكن بالمتناول في حياتهم، عادوا إلى طفولتهم يلهون ويضحكون، مستغربين بالتأكيد مما كان يفعله الأطفال في المدينة التي كانوا يتدربون من أجل غزوها واحتلالها.
يبدو شباب حركة "طالبان" في الصورة في سن أقل بقليل أو أكثر بقليل من 20 عاماً، وهذا يعني أنهم ولِدوا قبل أو بعد بقليل من الغزو الأميركي لأفغانستان الذي أخرج آباءهم من الحكم والسلطة وأعادهم إلى المناطق البعيدة عن العاصمة أو إلى الحاجز القبلي الباكستاني أو إلى القرى الجبلية العالية في القفر البعيد. وهؤلاء الشباب الذي يلهون في مدينة الملاهي ولِدوا وتربوا هناك في البعيد على فكرة واحدة أساسية، أن أولئك الذين في المدن من الأفغان يتعاونون مع العدو الأميركي لذا فهم عملاء وأعداء، وأن هؤلاء الذين يسمحون للنساء بالسفور والتبرج والخروج إلى العمل والذين يرتدون ملابس الغرب ويحاولون بناء دولة ومجتمع على أسس الديمقراطية الغربية، هم كفار يجب محاربتهم وقتلهم أو طردهم مع المحتل الذي يحميهم. وبالتأكيد فإنهم تربوا هناك في الجبال على تعاليم دينية متطرفة تكرّس فهم حركة "طالبان" وغيرها من الحركات الأصولية للدين الإسلامي وتطبيقه، وهذا الفهم يمكن اختصاره بجملة "إسلامنا هو الصحيح، ومن لا يطبقه فهو كافر يحل قتله". هذا ما عرفه الأفغان مطولاً حين كانوا تحت حكم "طالبان" قبل الحرب الأميركية.
بين وعورة الجبال وألوان المدينة
وفي هذه الفترة الممتدة على مدى 20 عاماً، بين انسحاب الحركة إلى الجبال وعودتها منها إلى المدن، لم يشاهد أطفال "طالبان" ما يجري في المدن الأفغانية وعلى رأسها كابول، من إعادة إعمار ومحاولة وضع أسس لمؤسسات الدولة الديمقراطية، و"شبه التحرر" العام الذي شهدته البلاد في غيبتهم، لذا لا بد أن عودتهم إلى المدينة مع ما يحملونه من آثار شظف العيش والتربية الأصولية والعداء المستحكم "لأولئك" الذين يعيشون "هناك" أي في المدن، كانت بمثابة صدمة لهم.
ففي المدينة إعلانات منتشرة في الشوارع تظهر فيها نساء سافرات ومتبرجات. وفي المدينة ألوان مختلفة ومنتشرة على عكس الجبال التي بلون الغبار في كل مكان. وفي المدينة الأفغانية الجديدة، بائعون متجولون ومقاه ومطاعم وفنادق وسيارات ودور سينما وشركات ومؤسسات ومدن ملاه وألعاب أيضاً. وفي هذه الحالة سيقع الطفل الطالباني في حيرة من أمره، هل هو شاب ومقدام ومقاتل أم أنه ما زال طفلاً بهيئة جسدية مكتملة للشباب بعدما أفلتت طفولته منه في الجبال.
صورة الطالبانيين بأسلحتهم وضحكاتهم داخل السيارات الكهربائية تشي بهذا الضياع والفصام في السن والثقافة والأهداف. فلا بد من أن السؤال الذي طرحه على نفسه الطفل-الشاب الطالباني هو: هل ندمر هذه السيارات الشيطانية التي تسير على الكهرباء لتنشر الفرح والمرح، أم نتركها كما هي ونلعب بها ونتلقى عدوى المرح والفرح الشيطانيين؟ هذا واحد من أنواع الأسئلة الكثيرة التي قد يكون شباب "طالبان" القادمون على صهوة طفولتهم المنسية وأصوليتهم المستجدة قد طرحوها على أنفسهم. وربما تكون الإجابات عليها شائكة كما يبدو حتى اليوم. فلا الطالبانيون يظهرون وجههم الأصولي الوحشي القتالي حتى اليوم، ولا هم يتخلون عنه بشكل واضح ومباشر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو الطالبانيون كلهم اليوم في أفغانستان منذ انسحاب الجيش الأميركي وحلفاؤه غير حاسمين بهويتهم التي يريدون نقلها إلى الأفغان الآخرين وإلى العالم أجمع. فهم يعلنون في يوم أنهم سيتركون الأمور تسير كما كانت عليه قبل الانسحاب، وفي اليوم نفسه يقومون بأعمال إرهابية داخل المدن. ومرة يعلنون أنهم ليسوا "طالبان" الفترة الماضية وأنهم جيل جديد من الطالبانيين وقد تعلموا من تجربتهم الماضية ولن يكرروها ويطلبون علاقات دبلوماسية مع دول العالم، وفي مرات أخرى يقومون بأعمال ترهيبية مختلفة هنا وهناك في سبيل فرض سيطرتهم وتخويف الناس من وجودهم من أجل إخضاعهم لسلطتهم. هذه الحال يمكن اعتبارها مناورة سياسية، ولكنها يمكن أن تكون فصاماً حقيقياً كالذي تظهره صورة الطالبانيين الذين يلعبون بالسيارات الكهربائية في مدينة الملاهي في أفغانستان.
الإنترنت الإسلامي الأصولي والطالباني
قد يقول البعض، إن الطالبانيين يحملون هواتفهم الذكية التي لا بد وأنها موصولة بشبكة الإنترنت، وبالتالي حالهم في التواصل مع العالم الخارجي هو كحال غيرهم من الأفغانيين والبشر في المعمورة، وأنهم كانوا يعرفون ما ينتظرهم بسبب اتصالهم بهذه الشبكة.
يمكن لهذا الافتراض أن يكون صحيحاً، ولكنه لن يكون كذلك لو قمنا بزيارة إلى مواقع الإنترنت الإسلامية التي يزورها مقاتلو "طالبان" الشباب، والتي يستقون منها معلوماتهم وأدبياتهم وأخلاقياتهم. وإذا افترضنا أن زائر هذه المواقع لم يزر غيرها على شبكة الإنترنت منذ ولادته، فإن هذا الزائر سيتصور العالم على النحو الآتي: "عالم من المسلمين وعالم من الكفرة. المسلمون كانوا يسيطرون على هذا العالم سياسياً وعسكرياً ويتفوقون حضارياً على الأديان الأخرى. ثم جاء الصليبيون ليحتلوا أرض الإسلام وليحطوا من شأن الدين الإسلامي أو ليمنعوا إقامة دولة الخلافة ليجعلونا على مثالهم من الانحطاط والفساد الأخلاقي. وهؤلاء الصليبيون يكنون العداء للإسلام منذ فجره الأول وما زالوا حتى الآن".
يمكن تشبيه الطالباني الذي يمضي حياته في غابة مواقع الإنترنت برجل الغابة "طرزان" الذي ولِد فيها ولم يعرف أن عالماً آخر يدور خارجها، يحيا فيه بشر على خلاف ما يعيشه هو في الغابة. بالتالي فإن صغير غابة مواقع الإنترنت الأصولية، كصغير الغابة الحقيقية، كلاهما لا يعرف ماذا يجري خارج عالمهما المقفل. لن يطول الأمر بزائر المواقع الأصولية الذي تربى تربية إسلامية في منزله أو في المجتمع الذي عاش فيه، حتى يتأكد من صحة الصورة التي تحشو بها هذه المواقع مخيلته عن العالم. صورة عالم يتعذب فيه المسلمون المؤمنون ويشقون، كما كان حال أقرانهم الذين اعتنقوا الإسلام في بداية الدعوة. وهؤلاء يعذبهم ويذلهم "المشركون"، أي "الكفرة من أصحاب الأديان الأخرى، أو أصحاب السلطان الجائر من المسلمين الذين خضعوا لإرادة الكفار فصاروا على شاكلتهم يقهرون رعيتهم، بحجة تطور العصر وتبدل الحياة عما كانت عليه قبل 1500 سنة".
تنقل هذه المواقع أخبار المذابح التي كان يتعرض لها المسلمون في الشيشان وأذربيجان وفي البوسنة والهرسك سابقاً، وفي فلسطين والعراق وسوريا وميانمار والصين حالياً، وفي جميع أصقاع الأرض أينما وجدوا. وتتفنن تلك المواقع وهي تعد بالآلاف، في نشر صور القتلى المسلمين الذين يسقطون في معارك طائفية ومذهبية أو في حروب عسكرية في أكثر من مكان في العالم. ويتم التعليق على هذه الصور بما يكفل استثارة عزيمة القارئ، وتحويله إلى "مجاهد" يطلب القتال ولو من على كرسيه القابع أمام شاشة الكمبيوتر، يريد أن "ينتصر للمسلمين الذين يعانون من الشقاء والذين لا يتمكنون من بناء دولتهم المسلمة".
ومدمن الإنترنت الذي ترعرع في غابة المواقع الأصولية، سيظن أن التاريخ بدأ مع ولادة الرسول وامتد حتى يومنا مع دورة حياة الإسلام والمسلمين والدولة الإسلامية التي تظهر وتقوى وتضمر، وهكذا دواليك. أما تاريخ الحضارات الأخرى وشعوبها فغير موجود، إلا في ما يختص منه بعلاقة الإسلام بهذا التاريخ. وبالطبع يتم انتقاء العهود الإسلامية التي سيجري الانتقام من أجلها، وهي العهود التي رآها الأصولي الطالباني أو غير الطالباني صحيحة، والتي كانت تسير على هدي الإسلام الحقيقي من بين الحقبات الكثيرة التي توالت منذ القرن السادس الميلادي وحتى اليوم.
الطالباني الذي ولد قبل أو بعد الحرب الأميركية بقليل، سواء تعلم في كتاب ومدارس دينية أو عبر شبكة الإنترنت فهو سيصل إلى النتيجة نفسها، أن "كل ما عدانا كفار" وتطبق عليهم القواعد التي تطبق على الكفار والمشركين. وما اللعب بسيارات كهربائية في مدينة ملاه سوى نزوة طفولية عادت في لحظتها، سرعان ما ستختفي حين يصبح منظر الدماء هو الطاغي.