نعرف البريطاني ويليام بويد روائياً وقاصاً وكاتباً مسرحياً منحنا على مدى أربعة عقود أعمالاً أدبية مهمة، نذكر منها "نجوم وحانات" (1984)، "الاعترافات الجديدة" (1987)، "أي قلب بشري" (2002)، "في انتظار شروق الشمس"، (2012) و"الحب الأعمى" (2018). لكن ما يجهله معظمنا هو أن بويد يعمل أيضاً في مجال السينما ككاتب سيناريو. وإلى هذا العالم الخاص الذي يعرفه جيداً رصد روايته الجديدة، "ثلاثي" (2020)، وتحديداً إلى عالم السينما كما كان قبل 53 عاماً في بريطانيا.
حول هذه الرواية الآسرة التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، أسر الكاتب إلى أحد الصحافيين: "بدأت في كتابتها قبل وباء كورونا، وكلما تأملت في عام 1968، وجدت روابط مع عام 2020، وفي مقدمها ذلك القلق الكبير الناتج من المشاكل التي كان العالم يتخبط بها آنذاك، حرب الفيتنام، اغتيال مارتن لوثر كينغ وبوب كينيدي في أميركا، أحداث مايو 1968 في فرنسا، الأزمة المالية الدولية، اجتياح الجيش السوفياتي تشيكوسلوفاكيا... باختصار، فوضى في كل مكان... إلا في بريطانيا حيث كنا نعيش داخل فقاعة حقيقية من المتعة. وفي "ثلاثي"، أردت إظهار كيف تمكن ما كان يحدث في أماكن أخرى من العالم من دخول هذه الفقاعة وتفجيرها".
حياة سرية
هذا بالنسبة إلى الإطار العام. أما في ما يتعلق بموضوع الرواية، فيوضح بويد "أنطون تشيكوف قال مرة إن معظم الناس يعيشون حياتهم تحت وشاح السر. ثمة إذاً "أنا" اجتماعية هي نوع من التشييد والأداء التمثيلي، و"أنا" حميمة وحدنا نعرف ماهيتها وتمثل ما نحن عليه فعلاً. تتعذر رؤية ما في داخل البشر. حتى لو عاشرناهم كل يوم، لا يمكننا أن نحزر ما يفكرون به. من هنا في "ثلاثي" فكرة متابعة ثلاث شخصيات تنزلق حياتها السرية تدريجياً نحو دائرة الضوء".
لدينا إذاً أصوات ثلاثة تتناوب من فصل إلى آخر داخل رواية ضخمة (420 صفحة) قسمها بويد إلى ثلاثة أجزاء: "ازدواجية"، "استسلام"، "هروب"، ما يفسر عنوانها "Trio". أما أحداثها فتدور في صيف 1968 داخل بلدة برايتون الساحلية حيث يتم تصوير فيلم "سلم إميلي برايسغيرل المذهل إلى القمر".
الشخصية الأولى هي منتج الفيلم، تالبوت كيد، وهو رجل ستيني سبق وأنتج أفلاماً كثيرة. ومع ذلك، نراه على طول الرواية يكافح كي لا يتوقف تصوير الفيلم، على الرغم من عدم اقتناعه بقيمته. فبين نزوات الممثلين، والتغييرات المستمرة في السيناريو، ومغامرات المخرج العاطفية، وتجاوز الميزانية، وسرقة أشرطة الأفلام... تتوالى المشاكل وأحياناً تتزامن مع ما يحدث في حياة تالبوت الخاصة. فمع أنه متزوج من مديرة مدرسة منذ 26 عاماً ولديه ابنتان منها، لكن رغباته المثلية التي لطالما كبتها لا تلبث أن تخرج عن السيطرة وتحثه على أخذها في عين الاعتبار، خصوصاً بعد إلغاء القانون البريطاني الذي كان يدين المثلية كجنحة عام 1967.
الشخصية الثانية هي نجمة الفيلم، أني فيكلوند، وهي شابة أميركية شديدة الجمال تعاني من علاقات عاطفية معقدة. فزوجها السابق الذي يظهر مجدداً في حياتها متطرف دفعه كرهه للرأسمالية إلى تنفيذ اعتداء إرهابي في أميركا للاحتجاج على سلوك "الرايخ الأميركي". وحبيبها الحالي فيلسوف فرنسي يساري راديكالي حصد شهرة كبيرة إثر وضعه كتاباً فضح فيه مجزرة للجيش الفرنسي في الجزائر، ويلعب في زمن الرواية دوراً كبيراً في أحداث مايو (أيار) 1968. وخلال تصوير الفيلم، ترتبط أني بعلاقة سرية مع نجم الفيلم الآخر، الشاب الوسيم تروي بلايز. ومع أنه لا ينقص أي شيء في حياة هذه الشابة الثرية والرقيقة، لكنها لا تجد السلام وتوازنها النفسي إلا في العقاقير التي تتناولها بانتظام.
الشخصية الثالثة والأكثر جاذبية هي إلفريدا وينغ، وهي زوجة مخرج الفيلم اللعوب ريجي الذي يفضل أن نسميه رودريغو لولعه بالمخرجين الإسبان، ولا يتردد في خيانتها مع كاتبة سيناريو شابة وواعدة. روائية موهوبة لقبها النقاد بـ"فيرجينيا وولف الجديدة"، تعاني إلفريدا من حالة اكتئاب مزمنة بسبب مرور عشر سنوات على آخر رواية كتبتها. وللتعامل مع متلازمة الصفحة البيضاء، لا تجد أفضل من الشرب في السر، من الصباح حتى المساء، قبل أن يقع الوحي عليها وتقرر وضع رواية حول الساعات الأخيرة من حياة فرجينيا وولف. لكن إدمانها يحول دون تجاوزها الفقرة الأولى من الرواية...
شحصيات ومظاهر
ثلاث شخصيات رئيسية إذاً تهجس بالمظاهر وتحمي نفسها بكشفها للآخرين صورة ملساء لها. لكن تدريجياً، وبألم، تعي كل واحدة منها الصدع المتنامي بين "أناها" الاجتماعية و"أناها" الحميمة، ما يقودها إلى التضحية بقيمها وطموحاتها العميقة، وإلى الكذب على الآخرين وعلى نفسها. فهل ستجد سبيلاً للتحكم في قدرها، أم ستنحرف بشكل يتعذر تجنبه نحو مصير مأساوي؟ هل ستلتهم الخرافة الواقع، أم سينجح تالبوت وأني وإلفريدا في التغلب على مصاعب حياتهم وتحقيق أنفسهم ورغباتهم؟
من خلال هذه الشخصيات العادية، يستمتع بويد بوضوح في رسم بورتريهات قارصة وتشييد مواقف غريبة لا تخلو من طرافة، ناقلاً إيانا إلى كواليس الازدواجية والكذب والتظاهر حيث يحبك سيناريو حياتنا السرية. وبقيامه بذلك، يمنحنا سردية رقيقة ومبهجة حول محيط السينما الذي يعتريه الجنون ويتعثر الواقع فيه دوماً بالخيال، معيداً خلق الأجواء المشحونة التي تسود عادة مواقع تصوير الأفلام، ومعها روح حقبة الستينيات التي طبعتها ثقافة الـ"بوب" والتحرر الجنسي؛ حقبة تحضر كخلفية لقصته وتكشف على أفضل وجه عصابات (névroses) أبطالها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودائماً من خلال شخصياته الثلاث، المجسدة بقوة، والمعاقة داخل حياتها المزدوجة، يبين بويد لنا إلى أي حد يبقى كل كائن بشري غامضاً، وكيف أن السينما، بخلقها الوهم عن طريق التمثيل، واستثمارها الخرافة للتعبير عن الحقيقة، تعري أفضل من أي عالم آخر تعقيدات سلوكنا ومكامن أسرارنا.
والنتيجة؟ رواية نضرة، مكتوبة برقة وأسلوب سيال بقلم كاتب لا يأخذ نفسه محمل الجد ولا يطمح إلى شيء آخر سوى إمتاعنا. وحين ننتهي من قراءة صفحاتها الغزيرة، لا يسعنا سوى الإقرار بأنه نجح في مهمته. فخيوط حبكتها منسوجة ببراعة، كالعادة، وعملية السرد فيها حيوية بالتطورات الكثيرة التي توقعها والحوارات المثيرة التي تكشف التباسات شخصياتها، من دون أن ننسى ذلك الخليط اللذيذ من المشاهد المضحكة والضروب غير المتوقعة، وتلك الصفحات التأملية في مواضيع مهمة، كالمال والشهرة وعالم السينما، التي يقاربها بويد من تلك المسافة الساخرة والناجعة التي تشكل ثابتة في نصوصه الروائية.