العالم كله مشغول بالنقاش حول قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان وظروف ما قبله ومضاعفات ما بعده، ولن يكشف الأضواء المسلطة عليه إلا وقوع حدث كبير آخر يحتل صدارة الاهتمام.
والفارق كبير بين الجدل حول الشكل "المذل" للانسحاب، والقراءة في انعكاسه على الرئيس جو بايدن وإدارته، وعلى صدقية أميركا في العالم، كما على الصراعات الجيوستراتيجية والجيوسياسية بين الكبار ومعهم القوى الإقليمية والقوى غير الدولتية وأدوارها الإرهابية.
قرار الانسحاب بدا كأنه ذو بعد واحد هو إنهاء "أطول حرب أميركية"، لكن مفاعيله متعددة الأبعاد داخل أميركا، وفي العلاقات الأميركية مع الحلفاء، كما في حسابات الخصوم الذين يرون أمامهم "فرصة" بمقدار ما عليهم الاستعداد لمواجهة "خطر".
بايدن دافع عن قرار الانسحاب بالقول إنه كان "يجب اتخاذه" قبل عشر سنين بعد العملية العسكرية الأميركية التي نجحت في قتل زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن، لا بل قال إنه كان سيتخذه، ولو لم يقرر ذلك الرئيس دونالد ترمب قبله باتفاقه مع حركة "طالبان".
والتبرير هو توصيف الخيار أمامه بأنه "إما التصعيد وإما الانسحاب"، لكن الدكتور هنري كيسنجر في مقال طلبته "الإيكونوميست" البريطانية سأل، "لماذا جرى تقديم التحدي الأساسي في أفغانستان كخيار بين الهيمنة الكاملة والانسحاب الكامل"، ورئيس الوزراء البريطاني سابقاً توني بلير الذي شارك أميركا في الحرب تساءل، "هل فقد الغرب إرادته الاستراتيجية؟ وقال، "قرار الانسحاب بهذه الطريقة لم يكن مدفوعاً بالاستراتيجية بل بالسياسة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك أن بريطانيا انسحبت من أفغانستان عام 1842 مهزومة، بحيث لم يخرج من قواتها أي فرد حي باستثناء الجراح والمساعد العسكري وليم بريدون جريحاً على ظهر حصان منهك، والاتحاد السوفياتي انسحب عام 1989 بعد عشر سنين من الغزو تاركاً وراءه حكومة ظلت تقاتل ثلاث سنوات، وكان الجنرال بوريس غورموف يعبر جسر الصداقة سيراً على القدمين حاملاً باقة زهور بعد مرور قافلة الدبابات. أما الجنرال كريس دوناهو قائد الفرقة المجوقلة 82 الذي كان آخر المغادرين، فإنه انسحب من مطار كابول في الظلام. وما تركته أميركا وراءها هو بلد واقع في قبضة "طالبان" التي أسقطت واشنطن سلطتها قبل 20 سنة، والعائدة ومعها "القاعدة" و"داعش" باسم "ولاية خراسان" وأسلحة أميركية بقيمة 86 مليار دولار تخلى عنها الجيش الذي لم يحارب.
وليس غريباً أن تفشل أميركا في ما تسميه "بناء الأمم". فهي لم تفهم تعقيدات الوضع الاجتماعي الإثني والقبلي، ولا كان حلفاؤها المحليون يرون أن حربها هي حربهم، وقد انتظرت كونداليزا رايس خروجها من السلطة في نهاية الإدارة التي غزت أفغانستان وتحدثت عن نشر الديمقراطية والتقدم، لتعترف بأن "ما يمكن فرضه هو الطغيان لا الديمقراطية"، الغريب أن بايدن تجاهل كل خطاب "المحافظين الجدد" في إدارة الرئيس جورج بوش الابن، ليحدد الهدف الوحيد للغزو بضرب "القاعدة" وإسقاط "طالبان".
رداً على تفجيرات سبتمبر
ومن الطبيعي أن يؤدي الانسحاب الأميركي وانتصار "طالبان" إلى شعور التنظيمات الإرهابية وحركات الإسلام السياسي أن المد يرتفع لمصلحتها. أما دول الجوار وجوار الجوار، وهي باكستان وإيران والصين ودول آسيا الوسطى وروسيا والهند، فإن التحديات أمامها مزدوجة: من جهة، فهي ارتياح لهزيمة أميركا واستعداد لصراعات وتفاهمات وتنافس على ملء الفراغ. ومن جهة أخرى، قلق حيال الفراغ، لأن شبكة الحماية الأمنية التي نشرتها أميركا في أفغانستان لضمان مصالحها ومصالح حلفائها، كانت في الوقت نفسه مفيدة لمصالح خصومها ومنافسيها إذ حالت دون الاصطدام بينهم، وخففت عنهم وجع الرأس وتمدد الإرهاب إليهم.
والقراءة الثانية في الانسحاب، توحي أنه من المبكر الاحتفال، فأميركا خرجت من المستنقع، وتركت وراءها قنبلة انشطارية، لا بل قنابل عدة. ولعبة الأمم تنتقل من خطورة الاحتلال الى خطورة الانسحاب.