ما إن أعلنت السلطات السودانية تشكيل لجنة لتفكيك نظام الرئيس السابق عمر البشير وإزالة تمكينه سياسياً واقتصادياً في ديسمبر (كانون الأول) 2019، حتى بدأت وتيرة الهجوم تتصاعد على هذه اللجنة من خلال حملات إعلامية واسعة ومنظمة مسرحها مواقع التواصل، بخاصة هذه الأيام التي شهدت تجميد وحجز أرصدة حسابات 161 شخصاً من رموز النظام السابق، بعد كشف 90 حساباً بنكياً تجري تحويلات من حساب إلى آخر، ويتم الاتجار عبرها بالنقد الأجنبي، إذ بلغ إجمالي إيراداتها أكثر من 64 مليار جنيه سوداني (2.848 مليار دولار).
فما طبيعة وأسباب الجدل والانتقاد الموجه إلى هذه اللجنة، وما الجهات التي تقف وراءها، وما الهدف؟
تضرر مصالح
في هذا السياق، أشار عضو اللجنة السياسية في تجمع المحامين الديمقراطيين السودانيين المحامي محمود الشيخ إلى أن "معظم الانتقاد الموجه للجنة إزالة التمكين لنظام البشير لا يخلو من البعد السياسي، خصوصاً من الأشخاص الذين تضررت مصالحهم، وهم ليسوا بالضرورة أن يكونوا من عضوية المؤتمر الوطني الذي كان يحكم البلاد سابقاً، وإنما جمعتهم مصالح مع النظام السابق"، وتابع الشيخ، "من ناحية قانونية، نجد أن هذه اللجنة تعمل بموجب قانون واضح تمت إجازته من مجلسي السيادة والوزراء، بالتالي، فإن عملها من هذه الناحية سليم مئة في المئة، لكن المشكلة في مناهضة القرارات التي تصدرها، ما يستوجب تحصين نفسها من الثغرات التي تضعف عملها، بمعنى أن هذه القرارات تستوجب الاستئناف، في الوقت الذي لم يتم حتى الآن تشكيل محكمة عليا للاستئناف، ما يجعل قراراتها غير نهائية وخاضعة للطعن".
سد الثغرات
أضاف عضو اللجنة السياسية في تجمع المحامين الديمقراطيين السودانيين، "كذلك نجد أن معظم قرارات لجنة إزالة التمكين تتعلق بحق التملك، فإما أموال بنكية أو أصول عقارية أو منقولة، ما يستلزم من المتضررين الرجوع إلى المحكمة الدستورية التي لم يتمّ التوافق على أعضائها حتى الآن، لذا، فإن الخطورة تتمثل في كيفية التصرف في الأموال التي تم استردادها، فإذا قررت وزارة المالية التصرف فيها، فمن الشخص أو المؤسسة التي يمكن أن تشتري أموالاً غير محصنة بسلطة قضائية، إذ يمكن أن تلغى هذه القرارات بخاصة في ظل عدم وجود وثيقة تؤكد أن قرار النزع أو الاسترداد نهائي".
ودعا الشيخ اللجنة إلى سدّ كل الثغرات القانونية من خلال الإسراع في تشكيل دائرة الاستئناف والمحكمة الدستورية حتى يتمكن أي شخص متضرر من استكمال طرق الاستئناف، وبذلك يكون راضياً عن تلك القرارات، وبذلك أيضاً، تكون اللجنة اتبعت كل السبل القانونية المتاحة.
نهب منظم
في المقابل، قال أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور، "في اعتقادي أن مهمة لجنة إزالة التمكين الذي اتخذه النظام السابق اقتصادياً وسياسياً، صعبة جداً لاسترداد عمليات نهب منظم أخذ أشكالاً عدة على المستويات كافة داخلياً وخارجياً، فهذه اللجنة تعتبر من أكثر أجهزة الدولة الحالية نشاطاً، لكن، نظراً لضخامة ملفات عملها وصعوبة الإجراءات وتتبعها قانونياً ومعلوماتياً، يبقى أن ما أنجزته قليل جداً في نظر كثيرين، ومن البديهي أن تستهدف اللجنة في أعمالها وأشخاصها، وهو أمر متوقع، لأنها تواجه نظاماً كاملاً بكل إمكانياته الضخمة والجبارة، فهو أكبر من المافيا، لذلك سخر نفوذه وآلياته الاقتصادية والاعلامية لحماية مصالحه ومقاومة قرارات اللجنة بكل السبل الملتوية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف محمد نور، "من المفترض أن تكون هذه اللجنة محمية من الدولة، لأنها تقوم بأصعب مهمات الفترة الانتقالية وأخطرها، بالتالي، فإن هذه المهمة تخص الدولة بكامل أركانها سواء المجلس السيادي أو السلطة التنفيذية، لذلك يجب أن توفر لهذه اللجنة كل الإمكانيات والأسلحة التي تعينها في أداء مهامها لأنها في جبهة المواجهة، فضلاً عن اتساع دائرة عملها وتعقيداته المتمثلة في كيفية استرداد الأموال المنهوبة في الخارج، وكذلك العقارات والحسابات المصرفية والأصول، وكيف يمكن التعامل معها، وهل قوانين الدولة الموجودة فيها هذه الأموال والعقارات تسمح بتتبعها واستردادها، وهل ستتم هذه الإجراءات عن طريق اللجنة أم عن طريق أجهزة الدولة العليا؟"
مآخذ وأخطاء
واعتبر أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية أن المهمة صعبة ومعقدة، والمسألة تحتاج لإمكانيات كبيرة، فالأموال الحقيقية التي ما زالت في يد عناصر وشركات النظام السابق لم يتمّ الوصول إليها على الرغم مما تحقق من استرداده من عقارات وأصول منهوبة، فما زالت هناك شركات كبيرة جداً مرتبطة بنظام البشير تعمل الآن وكأن شيئاً لم يحدث، مشدداً على أن الجدل القانوني والإعلامي الذي يثار هذه الأيام بحق عمل لجنة إزالة التمكين له مصادر متعددة، لكن غالبيتها من قبل عناصر النظام السابق الذين تضرروا من الإجراءات والقرارات التي اتخذتها اللجنة بحقهم.
وتابع محمد نور، "صحيح أن هناك بعض المآخذ والأخطاء التي صاحبت عمل اللجنة، وهي مسألة طبيعية بالنظر لحجم هذا الملف الضخم والمعقد، لأن مهمة اللجنة فيها غموض وتحتاج لفحص وتدقيق محاسبي وقانوني واقتصادي، بالتالي، فإن ما تقوم به من عمل ليس بسيطاً، لكن الخلاصة أن هذه اللجنة أصبحت الواجهة لمحاربة فساد النظام السابق، وأصبحت تشكل إزعاجاً لعناصره، بخاصة وأن ماكينة فسادهم ما زالت تعمل في شتى المجالات من دون توقف على الرغم من الإطاحة بنظامهم في أبريل (نيسان) 2019".
مهمة مقدسة
وفي ظل تواتر الاتهامات والانتقادات التي طالت لجنة إزالة التمكين خلال هذه الفترة، أكد مقرر اللجنة المحامي وجدي صالح، تعهده بالعمل على مواصلة السير في درب تفكيك دولة "حزب المؤتمر الوطني" المحلول بواسطة القانون السوداني، وقال في صفحته على "فيسبوك"، "مع تعالي صرخاتهم، أقول إنني ابن هذه البلاد وقيمها، أعرف ميقات الزرع والحصاد وما بينهما، ولو أردنا أن نبني الناطحات ونحيا مترفين لفعلناها، فقد كان الذين يتعالى صراخهم الآن يوزعون خيرات السودان على من يهادن أو يطأطئ الرأس. لكننا انتصرنا عليهم مرتين، بأننا لم نسقط طوال 30 عاماً من الترهيب والتعذيب والترغيب والإغراءات، فكسبت نفسي وانتصرت لها وذقت حلاوة الانتصار مع الشعب بإسقاط نظامهم وعصابتهم"، وأضاف، "لا نمنّ على الشعب بنضالنا أو تضحياتنا، فهذا طريق آمنا به وسرنا فيه مخيرين من دون إجبار، والذي رفع السماء بلا عمد، عهدي أمام الله والناس أجمعين أن أمضي في طريق الثورة وأهدافها مع بنات وأبناء هذا البلد الطيب جندياً مخلصاً نضرب معاً أوكار الفساد والمفسدين حتى تفكيك كل مؤسسات وواجهات النظام المُباد بالكامل واسترداد أموال الشعب المنهوبة للخزينة العامة".
صراع وعقبات
وسبق أن دخل المكون العسكري ممثلاً في مجلس السيادة طرفاً في الصراع مع لجنة إزالة التمكين، وألقت الشرطة السودانية في فبراير (شباط) الماضي القبض على مقرر هذه اللجنة صلاح مناع بتهمة إثارة الكراهية ضد القوات النظامية والإساءة والسباب، في وقت وصفت اللجنة هذه التهم بأنها فضفاضة وشبيهة بما كان يفعل النظام السابق في اتهاماته ضد خصومه، لكنها أكدت احترامها للقانون والعدالة مع تحفظها بشأن موقف النائب العام السابق تاج السر الحبر، وتقاعسه حيال قضايا العدالة وفتح البلاغات في مواجهة مفسدي نظام البشير وتقديمهم للمحاكم أو قاطعي الطرق القومية أو المتسببين في التفلتات الأمنية والتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، في مقابل نشاطه وعلو همته في ملفات أخرى واهتمامه بإطلاق سراح قادة النظام السابق.
كذلك واجهت اللجنة تحديات وعقبات عديدة تمثلت في التباطؤ في تنفيذ قراراتها التي تقوم بإصدارها، متهمة في ذلك السلطات العدلية والشرطية ورموز النظام السابق، فضلاً عن الانتقادات الموجهة ضد اللجنة، والتي وصلت لدرجة المطالبة بحلها وتشكيل مفوضية مستقلة لمكافحة الفساد.
إنجاز واجباتها
لكن سرعان ما تداركت القوى الداعمة للثورة السودانية ما يحاك من مؤامرة ضد لجنة إزالة التمكين بإعلانها الوقوف إلى جانبها ومساندتها في ما تقوم به من مهام، وأصدر عدد من لجان المقاومة في مناطق البلاد المختلفة بيانات ترفض الدعاوى المنادية بحل اللجنة، والاتهامات الفضفاضة بحقها باعتبارها خطاً أحمر لا يمكن المساس به، في وقت حذر المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، من المساس بهذه اللجنة كونها واحدة من أهداف ثورة ديسمبر المتمثلة في تصفية النظام السابق وبؤر فساده عبر بنية حقوقية عدلية قوية، وإجراء المساءلة والمحاسبة بشفافية وموضوعية في كل التجاوزات والانتهاكات والجرائم وإعادة أموال الدولة المنهوبة.
ونوه المجلس إلى استبشار الشعب السوداني خيراً بهذه اللجنة التي تعمل وفق قانون واضح مستمد من الوثيقة الدستورية، من أجل استرداد الأموال العامة، لافتاً إلى أن اللجنة بدأت تعمل بكل مسؤولية وتفان وتجرد، وحققت إنجازات عظيمة على الرغم من المحاولات اليائسة لشيطنتها من قبل الفاسدين ورموز نظام البشير.
وكان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك قد قام بزيارة اللجنة لدعمها ومساندتها في كشف كل المخططات وإعادة الأموال المنهوبة إلى خزينة الدولة، وأكد دعمه لها للقيام بدورها وأداء مهامها في تفكيك دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن، لافتاً إلى أن زيارته تأتي من أجل تحيتها ودعمها لإنجاز واجباتها.