هناك جوانب عديدة تشغل الساسة والمحللين حول العالم بشأن دلالة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، أبرزها ما إذا كانت هذه الهزيمة مؤشراً للتراجع الأميركي ومقدمات لصعود قوى جديدة، أم أنها مجرد نكسة للقوة العظمى الأولى في العالم، ولن تؤثر كثيراً في الموازين الدولية وأنماط التفاعلات الرئيسة في عالمنا المعقد. والسؤال يستند إلى اعتراف صريح بأن ما حدث لا يمكن وصفه إلا بالهزيمة والتخبط الذي تتجلى معالمه الواضحة في عدم تنفيذ أهداف الحرب المعلنة بالقضاء على "طالبان" وصلتها بالقاعدة، بل أضيف إليها تنظيم "داعش" اليوم، حيث تشكل عودة "طالبان" هزيمة مهينة لهذه القوة العظمى، فضلاً عن سوء وتخبط قرار التسرع بالانسحاب، دون تخطيط دقيق ومتناسب مع القوة العظمى الأميركية.
سيناريو تحكم الولايات المتحدة في التطورات العالمية
بعض التحليلات على وجه الخصوص في العالم العربي تنطلق من أن كل ما تفعله واشنطن هو تدبر رشيد، وأنها تدير العالم بالشكل الذي تريده، واستطراداً لهذا المنطق، فقد قامت بغزو أفغانستان لضرورة استعادة هيبتها بعد تفجيرات11 سبتمبر (أيلول)، وكانت تريد خوض حرب موسعة عالمياً وتنشئ تحالفاً دولياً واسعاً يؤكد هيمنتها وسيطرتها على النظام الدولي وتبعية الآخرين من كل الحلفاء، كما كانت تريد أيضاً تشغيل المكون الاقتصادي والعسكري الذي يدير هذه الدولة ويقود نموها الاقتصادي تاريخياً، أي الصناعات العسكرية الأميركية التي كانت دوماً حجر الزاوية في النهضة الاقتصادية الأميركية ومحركاً رئيساً في مواجهة التعثرات والأزمات الاقتصادية على مدى أكثر من قرن من الزمان.
وفي الواقع، كل هذه الأبعاد سليمة حتى الآن، ولكن ما حدث بعد ذلك يمكن تفسيره في أن أهداف واشنطن قد تحققت، بخاصة الإنفاق العسكري آنذاك، كما أن التدخل الأميركي عزز هيبة الولايات المتحدة لسنوات عدة، ولكن نتيجة لطبيعة أفغانستان انكشف عدم جدوى الإنفاق ومحاولة تغييره، ولا بأس من الاعتراف ببعض الأخطاء في إدارة الأمور من قبل القوات الأميركية ولتغير طبيعة التوازنات الدولية، وتزايد سلبية الإنفاق الاقتصادي الذي يعيق مواجهة العملاق الصيني.
المخطط الاستراتيجي الأميركي وفقاً لهذا المنطق لجأ إلى حيلة أخرى، وهي إحداث حالة عدم استقرار شديدة في خاصرتي روسيا والصين، واستئناف توظيف أداة التطرف الديني الإسلامي مرة أخرى التي كانت أحيطت بها بعض التذبذب في أداء الإدارات الأميركية الأخيرة، وستعيد واشنطن صياغة علاقتها بـ"طالبان"، التي شاركتها في تنظيم مطار كابول وأحداثه الدرامية، وربما تستفيد لاحقاً من ثروتها المعدنية التي فجأة بدأ الحديث عنها، والأهم أنها ستكون بؤرة عدم استقرار للصين وتخوم روسيا وربما روسيا ذاتها، ولعلها تتحول إلى أداة تفاعل مع إيران كذلك.
سيناريو تخبط واشنطن وتراجع مكانتها دوليا
لا جدال في دور المكون الاقتصادي والعسكري في صنع القرار الأميركي ولكن الفارق مع السيناريو، السابق أن القرارات الأميركية بهذا الصدد ليست بالضرورة نتاج تدبر رشيد، وفضلاً عن ذلك فإن دور جماعات الضغط ومسألة دوران الباب التي تسمح لكبار المسؤولين الأميركيين بالعمل الحكومي والخروج إلى الشركات بخاصة العسكرية، ثم تسمح لها بالعودة مرة أخرى بالرجوع إلى مؤسسات صنع القرار السياسي تؤدي إلى حسابات سياسية ضيقة ومصالح وفساد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الحقيقة، إن ما يجمع كثيراً من الساسة وكبار المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين مع هذه المصالح الخاصة يؤدي إلى حالة خطيرة من شيوع الفساد وقصر نظر كثير من القرارات السياسية الكبرى التي تحيط بها التساؤلات، بما في ذلك قرارات كبرى كغزو والاستمرار في أفغانستان وارتكاب الأخطاء الجسيمة التي تؤدي إلى إشاعة الفساد في هيكل المؤسسات التي أعادت الولايات المتحدة بناءها خصوصاً الجيش الأفغاني، الأمر الذي يفسر المظهر البائس الذي عبر عنه فرار الضباط والجنود وتسليمهم سلاحهم لـ"طالبان" الذي كان ثمنه جزءاً من الإنفاق العسكري الأميركي الضخم، فضلاً عن أثمان أخرى مرتفعة من العمولات التي دخلت جيوب قادة وشخصيات أميركية ومعهم مئات وربما الآلاف من الأفغان الذين كانت توقيعاتهم وتواطؤهم أمراً ضرورياً لاكتمال الشكل وتبرير هذا الإنفاق، الذين ربما غادر أغلبهم تدريجاً منذ بدأت مفاوضات واشنطن و"طالبان" في الدوحة منذ أكثر من عامين ليبقى صغار المتعاونين، أو حتى الليبراليون والمتطلعون إلى تحديث وتطوير بلادهم الذين تم خداعهم واستخدامهم في هذا المشهد العبثي.
خلاصة هذا المنظور إذاً أنه لا يمكن افتراض عملية صنع قرار رشيد في إطار هذه المنظومة، ومن ثم ليس تخطيطاً سياسياً طويل الأجل، ولا ينبغي التشبث بالأوهام وتجاهل معالم الهزيمة الأميركية من إنفاق عسكري هائل بلا طائل، ووفقاً لهذا تصبح عودة "طالبان" تعني تفريغ كل هذه السياسات الأميركية من أي مضمون ومنطق، ومن أن الثمن الذي دفعه وسيدفعه الشعب الأفغاني، وربما العالم كان باهظاً وسيتضاعف، فضلاً عن أن كثيراً من مظاهر الانسحاب الأميركي والتبجح الـ"طالباني" ومن أمثلتها تفجيرات "داعش" ومشهد مطار كابول ورفض "طالبان" تأجيل الانسحاب الأميركي أياً كان مصير هذا، وما سيتم الاتفاق عليه في هذا الشأن كلها تعكس الهزيمة والتراجع.
أما الأكثر خطورة فهو هذا الكم الهائل من الأسلحة الأميركية الحديثة التي وقعت في يد "طالبان"، ومن المؤكد أنه سيكون لهذا كثير من التداعيات والخطورة، كما أن انتصار "طالبان" سيكون له تداعيات على صعيد عودة الحديث عن مخاطر التطرف الديني في العالم، ولكن تأثير هذا في تعقيد الأمور بالنسبة إلى الصين وروسيا ربما يحتاج لمزيد من الأدلة وبعض الوقت لتتضح أبعاده، وبشكل خاص في ما يتعلق بقوة تماسك الصين وعدم سهولة المساس بهذا التماسك حتى الآن، وفي ضوء الشواهد على وجود تواصل وعلاقات ما بين الصين و"طالبان". وفي النهاية هذا الأمر يحتاج لوقت ووقفة مستقلة.
العالم أكثر تعقيداً
إذا حدث أن التراجع الأميركي سيكون بسبب تعقيدات الداخل وصعود آخرين كالصين، إضافة إلى الطبيعة المتغيرة للمجتمع الدولي، فإن الهزيمة الأميركية لم تغير من كون الولايات المتحدة لا تزال تتصدر عوامل القوة في العالم اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً كذلك، وإذا أرادت أن تعيد احتلال أفغانستان أياً كانت كلفة ذلك فستفعل، ولكن سيصبح هذا قراراً غير منطقي وأقل رشادة حتى من قرار التدخل الأول عام 2001. ولكن عالم اليوم أكثر تعقيداً من أن تتصدره القوة الأكبر في العالم. ودروس أفغانستان العديدة تعني هذا أكثر من أي شيء، ومن أهمها أن القوة والأساليب العسكرية التقليدية أصبحت أقل فعالية عن أي مرحلة سابقة في التاريخ، وشواهد التغلغل الإقليمي اعتماداً على الميليشيات المسلحة المدعومة من أطراف إقليمية أثبتت فعاليتها اليوم أكثر بكثير من الجيوش التقليدية، معنى هذا أن تكون الأقوى في عالم اليوم، فإن هذه مسألة معقدة ونسبية تتجاوز حتى مفهوم "النسبية" الذي قام عليه علم السياسة في السابق، الأمر الذي يعني أن واشنطن هزمت وتتراجع، ولا تستطيع إدارة العالم والتحكم فيه كالسابق، لكن هذا التراجع نسبي، ومن الحكمة انتظار بعض الوقت لمراقبة مسلسل التخبط الأميركي، وإلى ماذا ستتحول الأمور في المستقبل القريب.