قد تكون روايات الكاتب والسينمائي الأفغاني عتيق رحيمي واحداً من المراجع الرئيسة لمقاربة أحوال أفغانستان ومآسيها خلال العقود الأخيرة التي تتجاوز نصف قرن. فهو كان في ما روى وكتب من نصوص، خير شاهد على ما عانت بلاده تحت الاحتلال السوفياتي أولاً ثم السلطة الطالبانية، وما سبقهما من هيمنات أصولية وما تبعهما من سيطرة أميركية انتهت إلى ما انتهت إليه أفغانستان راهناً، مع عودة الحكم الطالباني، من فوضى عارمة وانهيار وطغيان ونزوح وفرار... ناهيك عن القتل و"التصفية" والانتقام الدموي.
لم تحمل روايات عتيق رحيمي طابعاً استغرابياً أو إكزوتيكياً، على غرار أعمال روائية كثيرة، فرنكوفونية وأنغلوفونية وجرمانوفية وسواها، هدفت إلى إبهار القارئ الغربي في نقلها الأجواء الغرائبية ذات الجذور الاستشراقية، بل بدت حقيقية وصادقة ونابعة من الوجدان الأفغاني الجماعي والذاكرة الحكائية والمخيلة الشعبية، ومن التراث الأسطوري والصوفي ومن الواقع المرسوم بجمالية ومهارة، على رغم مأسويته العميقة.
بين الفارسية والفرنسية
كتب عتيق رحيمي باللغة الفارسية أولاً ثم انتقل إلى الفرنسية التي درسها في فرنسا عندما اختار المنفى الفرنسي، بعدما غادر أفغانستان عام 1984 إلى باكستان إبان الاجتياح السوفياتي، وكان له اثنان وعشرون عاماً. وكان رحيمي أصلاً درس الفرنسية تلميذاً في إحدى مدارس كابول الخاصة. في فرنسا حصل على اللجوء السياسي ودرس في السوربون وامتهن الإخراج السينمائي ثم حاز الجنسية الفرنسية لاحقاً، ولكن من دون أن يتخلى عن جنسيته الأفغانية. بل هو ظل يسافر باستمرار إلى أفغانستان، لا سيما بعد انسحاب مجاهدي طالبان "جيش الظلمات" كما يسميهم، لئلا يكون "من لا مكان" مثلما يعبر.
كتب رحيمي ثماني روايات حتى الآن، إضافة إلى نصوص وتحقيقات ومقالات، وأولى رواياته "أرض ورماد" الصادرة عام 2000 كانت خطوة متينة في عالم السرد وسرعان ما عرفت نجاحاً لافتاً وترجمت إلى لغات عدة، كانت الفرنسية أولاها. ثم تبعتها رواية "ألف منزل للحلم والرعب" (2002)، ورواية "العودة المتخيلة" (2005)، ثم صدرت عام 2008 رواية "حجر الصبر" التي خطفت جائزة غونكور الباريسية الراقية في تنافس مع روايات كتاب فرنسيين لامعين. هذ الرواية التي كتبها رحيمي بالفرنسية كرست اسمه في فرنسا والعالم، وكان بلغ فيها ذروة إبداعه السردي، ببساطة وعمق وبراعة في التركيب المشهدي وصوغ المونولوغ الذي تبوح فيه المرأة عن شجونها أمام زوجها المحتضر. بعد هذه الرواية توالت أعمال أخرى: "ملعون هو دوستويفسكي" (2011)، "سيدة النيل" (2012)، "انشودة قلم" (2015)، "السقاءان" (2019). ولئن دارت روايات رحيمي حول حروب أفغانستان ومآسيها الصغيرة والكبيرة، فرواية "سيدة النيل" تناولت مجزرة التوتسي في رواندا.وقد تمثل الروايتان "أرض ورماد" و"حجر الصبر" مدخلاً إلى عالم عتيق رحيمي وإلى القضية الأفغانية في أبعادها المتعددة.
"أرض ورماد" نموذج اول
تبدو رواية "أرض ورماد" أشبه بالحكاية التي يكتبها الروائي انطلاقاً من المخاطبة التي يتوجه بها مباشرة إلى البطل داستاغير، ذلك الجد العجوز الذي وفد إلى الشمال الأفغاني بحثاً عن ابنه مراد وفي رفقته حفيده ياسين. هنا على طرف الطريق التي تؤدي إلى منجم الفحم، تبدأ الرواية بداية شبه كابوسية: "إنني جائع " يصرخ الحفيد الصغير. لكن الصوت الذي يخاطب البطل العجوز طوال الرواية يصبح صوت ضميره الشخصي وكأن البطل هو الذي يخاطب نفسه، مؤنباً نفسه حيناً ومعللاً بعض أفعاله حيناً آخر.
في هذا العالم المقفر والقاحل والمفعم بالغبار والرماد، على مقربة من الجسر الذي يصل بين ضفتي النهر الجاف الذي أضحى "سريراً للحجارة السوداء والعوسج الشائك"، ينتظر الجد والحفيد شاحنة تقلهما إلى منجم "كاركار" القائم وراء الهضاب الخالية. في ذلك المنجم يعمل ابنه مراد. وعليه أن يراه لينقل إليه الخبر المأساوي المتمثل في الكارثة التي حلت بالقرية وعائلته. كانت الفرقة العسكرية الروسية دمرت القرية للتو وأضرمت فيها النيران قاضية على معظم أهلها. عائلة الرجل العجوز لم يسلم منها إلا هو وحفيده. زوجته قضت تحت الدمار، ابنه قتل، زوجة ابنه (الحامل ) التهمتها النيران وكانت خرجت ، عارية من حمام النساء الذي سقطت عليه قنبلة. وكم هال الرجل العجوز أن يرى زوجة ابنه تركض عارية صارخة ملء صوتها. هذا العري الأليم سيظل هاجسه المرضي، فهو تمنى لو أنه مات من غير أن يرى كنّته عارية. كان يتمنى أيضاً أن يموت على أن يصبح شاهداً حياً - ميتاً على المأساة التي حصلت.
ثلاث شخصيات إذاً بل ثلاثة أجيال تحيا المأساة الجماعية: الجد يمثل الماضي الذي احترق ولم تبق منه سوى الذكريات (غالباً ما يتذكر الجد لحظات جميلة من طفولته، والمقهى والحكواتي الذي يقرأ الشاهنامة، الأراكيل...). الابن مراد الذي يعمل في المنجم يمثل الجيل الشاب الذي وجد نفسه ضائعاً بين قوتين: المحتل الروسي والحركة الأصولية. وكان هو ليختار الانضواء تحت لواء المقاومة لو لم يخطفه الروس ويجعلوا منه نموذجاً للعامل المهيأ لدور نقابي. مراد، هذا ليس غريباً عن ابن ميرزا قادر، ذلك الحانوتي الذي هجر كابول وأنشأ دكاناً قرب الجسر (على طريق المنجم). حاول ميرزا قادر أن يمنع ابنه من أن ينخرط كعسكري في صفوف الروس لكنه لم يرضخ له فهرب وراء الحلم بالمال والسلاح.
أما مراد فلم يستسلم للإغراء الروسي إلا بعد أن دبروا له مكيدة وأقنعوه أن الأصوليين هم الذين أحرقوا قريته وقتلوا عائلته انتقاماً منه، هو الذي يعمل مع الروس في المنجم. أما الحفيد ياسين فيمثل الجيل الجديد الذي يولد أو ينشأ معطوباً. فهو فقد سمعه خلال الانفجار في القرية وأصبح أصم. إلا أن الطفل الذي لم يعد يسمع يظن أن العالم هو الذي صمت. وكان دوماً يستغرب لماذا يحرك الناس شفاههم ما داموا بلا صوت. يظن ياسين أيضاً أن الروس هم الذين خطفوا أصوات الناس. وكان يحيره كثيراً ماذا سيفعلون بهذه الأصوات كلها. وما يحتل مخيلته الآن مشهد الدبابات الروسية.
إنها أفغانستان، الأرض - الخراب، الفردوس الذي حل به الجفاف تماماً مثل هذا الوادي المفعم بالحجارة السوداء والعوسج والشوك والغبار وعلى الجد أن يجتازه ليصل إلى ابنه مراد. غير أن هذا الابن سيظل شخصاً شبه مجهول. فوالده الذي اجتاز الوادي ووصل إلى المنجم لن يبصره. وفي تلك اللحظة التي يخبره فيها رئيس العمال عن ابنه، يشعر أن مراد لم يبق مراد بن داستاغير، مراد الذي لا يغفل عن ضيم، والذي ينتقم من الظالمين والمعتدين. لقد روضوا مراد وجعلوه جزءاً من هذه الآلة الكبيرة الطاحنة. وفي طريق عودته على قدميه يفتقد الأب التنباك الذي يدمن مضغه في فمه، ينحني على الأرض ويأخذ حفنة من التراب الرمادي ويضعها في فمه ويروح يمضغها. إنه الأب الخائب تمام الخيبة، الأب الذي لم يبق له إلا أن يمضغ التراب. ومنذ ذاك الحين لم يعد الأب يذرف دموعه، البكاء أصبح "يجري في صدره".
"حجر الصبر" نموذج ثان
رواية "حجر الصبر" هي الأولى يكتبها عتيق رحيمي بالفرنسية بعدما كتب أعماله السابقة بالفارسية ونقلت إلى الفرنسية ولغات أخرى.
ولئن دارت رواية رحيمي الأولى "أرض ورماد" في حقبة الاحتلال الروسي وصعود حركة طالبان، فإن رواية "حجر الصبر" تدور في الحقبة التي هيمنت فيها حركة "طالبان" على أفغانستان ومن خلال شخصيتين: الرجل الأصولي الراقد في شبه غيبوبة وزوجته. لكن الحقبتين لا تبدوان مختلفتين في مآسيهما التي حلت بالمواطنين وكأن هيمنة "طالبان" هي نفسها هيمنة الجيش الروسي، بل كأن ظلم أهل الأرض هو نفسه ظلم المحتل الجائر وربما أشد قسوة وصلافة.
"سينغي سابور" كما تقول الأسطورة الأفغانية هو "حجر الصبر" أو الحجر السحري الذي يضعه المرء أمامه ليصب عليه مآسيه وآلامه، وليعترف إليه بما لا يجرؤ على الاعتراف به إلى أحد. والحجر يصغي ويتشرب مثل اسفنجة كل الكلمات والأسرار إلى أن ينفجر في يوم ما. وفي يوم الانفجار هذا يتخلص المرء من مآسيه وآلامه. لكن الحجر في الرواية سيكون الزوج، المجاهد الأفغاني، الذي يرقد على سرير الغيبوبة بعدما أصيب برصاصة في الرأس إثر عراك مع رفاق له، وبالقرب منه زوجته التي لا تني تتكلم إليه، متحسرة ومقهورة، تصرخ بصمت وتصلي ولا تدري إن كان يسمعها. هذا ما يحصل داخل بيتهما بل داخل غرفتهما التي يستهل رحيمي روايته بها وكأنها منطلق الحكاية كلها. أما في الخارج فتصخب المعارك التي يبلغ فيها العنف ذروته ويتوزع المقاتلون الشوارع والأحياء، ينهبون ويقتلون، في حال من الفوضى المسلحة الشاملة.
يستهل رحيمي روايته بلقطة سينمائية صامتة وكأن الراوي يقف وراء كاميرا ويرى المكان من خلالها: "الغرفة صغيرة. مستطيلة. غرفة خانقة على رغم جدرانها المضيئة، ذات اللون الكلسي، وستارتيها بزخارفهما التي تمثل عصافير مهاجرة، مسمرة في انطلاقها وسط سماء صفراء وزرقاء". ثم تجوب الكاميرا أو عين الروائي الغرفة الفارغة من أي زينة، ما عدا الخنجر المعلق على الجدار وفوقه صورة لرجل ذي شاربين، في الثلاثين من عمره. هذا الرجل الذي في الصورة أصبح هو نفسه الرجل الممدد أسفل الجدار فوق فراش أحمر على الأرض، لكنه الآن تقدم في السن، ونحل كثيراً. وجهه شاحب، تغزوه التجاعيد، لا يبتسم البتة، فمه شبه مفتوح، عيناه غائرتان في محجريهما، عيناه مسمرتان في السقف... أما الزوجة الخاضعة له حتى على سرير احتضاره، فهي تمثل المرأة التي طالما عانت في مجتمع ذكوري، تقليدي، منغلق على نفسه، لا يتوانى الأب فيه عن بيع بناته ويهجر الزوج عائلته للانخراط في صفوف المجاهدين المتشددين، تاركاً زوجته وجهاً لوجه أمام صورته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الزوجة إذاً هي التي تتكلم والرجل يصغي من دون أن يسمع ما يصغي إليه. ولعل شبه غيبوبته وجموده يسمحان لها أن تتكلم بحرية مشوبة بالحذر طبعاً، فهي تحيا عبر هذا الكلام انفجاراً داخلياً طالعاً من عمق الصمت الذي كثيراً ما خيم عليها. إنها المتكلمة الآن وزوجها هو الصامت. تصلي ثم تتخلى عن الصلاة لتروي حياتها المفعمة بالقهر، لتكشف أسرارها وآلامها، لكنها في عمقها تدرك أن الحجر لن يتشرب مأساتها ما دام هو نفسه زوجها.
هنا تكمن المأساة الحقيقية التي سعت الرواية إلى تجسيدها، جاعلة من تداعيات الزوجة نوعاً من المونولوغ أو المناجاة التراجيدية وكأنها شخصية من الشخصيات الدرامية الإغريقية. يتنامى هذا المونولوغ وتتقاطعه الذكريات والوقائع، الماضي والحاضر، الخيبات والآمال المجهضة... هذا المونولوغ أيضاً يصبح في أحيان أقرب إلى الاعتراف الذي تبوح به المرأة عبر حرمانها (حتى الجنسي) الذي كان زوجها يفرضه عليها. لكن الزوجة التي لم تستطع أن تكره زوجها سابقاً، تعجز عن كرهه الآن، راقداً على فراش الاحتضار، ضعيفاً ومنهاراً. إنه رجع ماضيها يصخب في ضميرها، رجع الإذعان والصمت والصبر، رجع سلطة الذكر التي يصعب عليها أن تتخطاها. تهتم الزوجة برجلها المحتضر، تعتني به، تداويه، تصلي له، وتعلن له حبها: "كان لدي شعور غريب، لا يوصف، كنت أشعر في الحين عينه بأنني حزينة ومعزاة، سعيدة وتاعسة...". لكن هذا التغني بالحب، وإن كان حباً شبه مستحيل، لن يلبث أن يصبح تغنياً بالحرية. تخاطب الزوجة رجلها وكأنها تخاطب "حجر الصبر" قائلة: "أجل، أنت، أنت "حجر الصبر"، حجري... سأقول لك كل شيء، يا حجري، كل شيء. حتى أتحرر من آلامي وبؤسي...". ولكن ما تراه يكون ثمن هذا التحرر؟ تظل الزوجة الجميلة، ذات الشعر الطويل الفاحم، منحنية على هذا الحجر، على زوجها، في يدها مسبحة سوداء، تصلي وتنتظر. أما في الخارج فلا يهدأ دوي القذائف...
ترى هل يكتب عتيق رحيمي رواية جديدة عن أفغانستان التي عادت إليها حركة طالبان بعد الإنسحاب الاميركي الفاضح؟ هل يكشف رحيمي أسرار هذا الانسحاب والمآسي التي أضافها إلى جلجلة الشعب المعذب؟